|
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ «1» فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ «2» إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «3»﴾ [الكوثر: 1 – 3]
صدق الله العلي العظيم
من الآيات التي امتن الله من خلالها على النبي الأعظم سورة الكوثر، حيث قال: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾، كما امتن عليه في سور أخرى فقال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «1» وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ «2» الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ «3» وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ «4»﴾ [الشرح: 1 – 4] وقال في آيات أخرى أيضاً ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى «6» وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى «7» وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى «8»﴾ [الضحى: 6 – 8]، وقال في آية ثالثة: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى «5»﴾ [الضحى: 5]، وهنا قال: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾
ورد في الكوثر تفاسير ثلاثة:
- التفسير الأول: أن المراد بالكوثر هو الخير الكثير حيث حصل النبي على مقامات دنيوية وأخروية لا حصر لها.
- التفسير الثاني: أن الكوثر معرب من كلمة عبرية وهي كوشر؛ أي عبارة عن الطهارة والنزاهة، أعطيناك الطهارة والنزاهة.
- التفسير الثالث: أن المراد بالكوثر هو السيد الزهراء ، كما ورد في الروايات عن الأئمة الطاهرين .
والتفسير الثالث يجمع الأولين؛ لأن فاطمة الزهراء هي أجمل مثال للخير الكثير، فلا يوجد خير أكثر وأعظم من فاطمة، فإن من رحمها الطاهر انحدر أحد عشر إماماً معصوماً مثلوا امتداداً للنبي ، وامتداداً لاسمه، وامتداداً لدينه، وامتداداً لدعوته ورسالته، وفاطمة كانت خير مثال للطهارة والعصمة التي دلت عليها آية التطهير: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33] فهي تجمع التفاسير الثلاثة.
فاطمة تمثلت في نسلها الطاهر حسن وحسين «عليهما السلام»، وزينب العقيلة الصديقة الصغرى التي مثلت أمها في صبرها وقوة إرادتها وجلدها وعلمها ومعرفتها.
صلى الإله على البتول وآلها نبوية الأعراق طيبة الشذى ما كان يشبهها بفضل خصالها هي زينب من أشعلت بخطابها |
من تخضع الأملاك عند جلالها عطر الجنان يفوح من أذيالها إلا وريثة فضلها وخصالها قبساً يضيء على مدى أجيالها |
حديثنا عن السيدة الحوراء الصديقة الصغرى زينب العقيلة من خلال محاور ثلاثة:
- السيرة الذاتية للسيدة الحوراء.
- المواقف البطولية في شخصية السيدة زينب .
- المضامين العالية المستقاة من خطبتها المباركة في الشام وفي الكوفة.
المحور الأول: في السيرة الذاتية للسيدة الحوراء.
زينب ولدت إما في الخامس من جمادى الأول من السنة الخامسة للهجرة، أو في مطلع شعبان في السنة السادسة للهجرة كما هو الأشهر بين علمائنا، وتوفيت بعد الحسين بأشهر، لم تكمل سنة بعد الحسين ؛ نتيجة للهموم والغموم التي ملأت قلبها، وبينها وبين الحسين فاصل سنتين فعمرها يوم وفاتها إما 55 سنة أو 56 سنة.
السيدة زينب ولدت في بيت العصمة، بيت النبوة والإمامة، نعمت بعاملين مهمين عامل الوراثة وعامل التربية، وجاءت من صلب العصمة والإمامة، من علي وفاطمة، جاءت من الأصلاب الطاهرة الشامخة والأرحام المطهرة لم تنجسها الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسها من مدلهمات ثيابها، وأيضا حظيت بعامل التربية فقد عاصرت خمسة من المعصومين، النبي والوصي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين، فنهلت من المعارف والعلوم والقيم وسائر الصفات المتميزة.
في علم النفس الاجتماعي يقال أن الطفل إذا تجاوز الثالثة من عمره يبدأ التوافق النفسي بينه وبين بيئته، وتبدأ هذه المرحلة بأن يقوم بالتمييز اللغوي وتطبيق الألفاظ على المعاني تطبيقاً دقيقاً، ويبدأ باكتشاف المحيط بكامله الذي يعيش فيه ويتعرف عليه فصلاً فصلاً، ويبدأ يتشرب القيم والمعارف والمعلومات من أبويه، وهذا ما حظيت به العقيلة زينب، نهلت العلم من العلمين علي وفاطمة «عليهما السلام»، بل إنها لما وُلِد بها لم يسمها الإمام علي أياماً، فقالوا: لما لم تسمها؟ قال: أنتظر رسول الله في تسميتها. فأخبرت فاطمة أباها فقال: إني أنتظر خبر السماء فيها. فهبط جبرائيل وقال: سمها زينب.
زينب في اللغة من أحد مصدرين: إما زينب اسم للشجر الطيب الرائحة، البديع المنظر، أو زينب كلمة مدمجة من كلمتين زين وأب؛ زين أب أي أفضل أب، جاءت من أفضل أب وأزين أب، دمجت الكلمات فسميت زينب، ولما سماها النبي بكى وقيل: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: أخبرني أخي جبرائيل أن حياتها حياة الصبر والألم.
وفي يوم من الأيام جلس الإمام علي يعلمها بما سيجري عليها في مستقبل أيامها فابتسمت وقالت: أخبرتني أمي بذلك. أي أن الوالدين العملاقين والعظيمين أعداها لذلك اليوم الذي تتجلى فيه قوة إرادتها وصبرها وشجاعتها وجرأتها، فكان الأبوان يغذيانها بذلك ويلهمانها الموقف الجريء الشجاع حتى تعتاد، إلى أن تتقلد ذلك الوسام الرفيع في ذلك اليوم العظيم الذي أُعدت له ألا وهو يوم كربلاء.
زينب هي التي خرجت مع أمها فاطمة عندما ذهبت إلى المسجد لتلقي خطبتها المشهورة، وهي التي روت لنا هذه الخطبة الفدكية الطويلة عن ذاكرتها وعن بيانها ، وزينب تزوجت من ابن عمها عبدالله بن جعفر وأنجبت منه علياً، عوناً، عباساً، محمداً، وأم كلثوم، وقد استشهد من أولادها ولدان يوم كربلاء، فهي أم الشهداء وبنت الشهيد وأخت الشهيدين صلوات الله وسلامه عليها، انحدرت من بيت الشهادة وأنجبت الشهداء.
المحور الثاني: المواقف البطولية في شخصية السيدة زينب .
هناك تخصص في علم النفس تعرضنا له سابقاً، ألا وهو علم الشخصية، الشخصية هي الإنسان إذا اكتسب قيماً، فكل إنسان يكتسب قيماً يقال له شخصية، وهناك تخصص لعلم الشخصية.
في هذا التخصص يذكر أن الشخصيات ثلاثة أقسام: شخصية كلاسيكية، شخصية متميزة، شخصية فريدة.
الشخصية الكلاسيكية: هي التي تمشي على نسق واحد ولا يتغير، روتين لا يتغير ولا يتطور.
الشخصية المتميزة: هي الشخصية التي يكون لها تألق وتميز في توجه معين، إما تميز عقلي وإما تميز لغوي وإما تميز مهني وحرفي.
الشخصية الفريدة: وهي أرقى الأنواع فهي تجمع عدة شخصيات، إنسان واحد يجمع عدة شخصيات ومهارات ومميزات، الشخصية الفريدة هي الشخصية التي تبدع وتتألق في عدة صفات، خصوصاً إذا كانت الصفات متضادة، مثلاً الطب والفن لا يجتمعان، إنسان يريد أن يكون طبيباً متألقاً فهذا يحتاج إلى وقت وإلى تفرغ ذهني، ويحتاج إلى ذوق معين، يستوعب أغلب وقته، وفي نفس الوقت يريد أن يصبح فنان، إما فنان مسرحي أو فنان تشكيلي، والفن أيضاً يحتاج إلى وقت وجهد وتفرغ وذوق معين، فلو أن إنسان جمع بين الشخصيتين، فهو فنان مبدع وهو طبيب متألق؛ أي جمع بين وصفين متضادين وهذا ما يقال عنه شخصية فريدة؛ لأنه جمع بين شخصيتين في إنسان واحد.
لذلك أوضح مثال للشخصية الفريدة هو الإمام أمير المؤمنين ، الإمام علي جمع بين صفات متضادة من جهة العبادة ومن جهة الشجاعة، جهة العبادة المنهكة والمتعبة، فقد جمع بين أن يكون من العباد وليس من العابدين الذي يستغرق في اليوم والليلة ألف ركعة، وهذا يحتاج إلى وقت ويحتاج إلى جهد عقلي وإلى طاقة روحية تستوعب الوقت في أن يتفرغ للعبادة ألف ركعة، وفي نفس الوقت هو في طليعة المقاتلين في المعركة، والشجاعة والفروسية في المعركة تحتاج إلى وقت وإلى إعداد جسمي وطاقة روحية، وتحتاج إلى إرادة حازمة، فجمع بين العبادة التي تستغرق الوقت في الإعداد، وبين الشجاعة التي تستغرق الوقت في الإعداد أيضاً، جمع بينهما في آن واحد.
أيضاً جمع بين قوة الإدارة وبين نشر العلم فهو حاكم ورئيس، يطبق العدالة ويقوم بإدارة شؤون الحكم، وهو في نفس الوقت العالم الذي ينشر علمه وتربيته للأمة، فالجمع لهذه الصفات يسمى شخصية فريدة، لذلك يقول الشاعر:
جمعت في صفاتك الأضداد | فلهذا عزت لك الأنداد |
ومثل الإمام علي في شخصيته الفريدة العقيلة زينب، زينب جمعت شخصيات في إنسان واحد، جمعت مواقف متضادة في شخصيتها، لذلك زينب تمثل علياً في شخصيته، زينب مرآة لأمير المؤمنين في شخصيته، زينب جمعت عدة شخصيات نقف عندها: الشخصية المعرفية، الشخصية العرفانية، الشخصية الحركية، الشخصية الإعلامية.
الشخصية الأول: الشخصية المعرفية.
زينب وعاء علم أمير المؤمنين، أربعة وثلاثين سنة هي مع أبيها تنهل من علمه ومعارفه، وهو باب مدينة العلم «أنا مدينة العلم وعلي بابها» زينب يقول عنها الإمام زين العابدين في يوم كربلاء: ”أنت بحمد الله عالمة غير معلمة، وفاهمة غير مفهمة“ وهذا إشارة إلى العلم اللدن، فهناك علم اكتسابي وهناك علم لدن؛ أي علم يلهم به الإنسان من الله تبارك وتعالى ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف: 65]، فالعلم اللدن الموهوب من قبل الله يساوق العصمة، ومن لديه علم لدن فهو إنسان معصوم، يقول القرآن الكريم في حق الرسول ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113] زينب العقيلة حوت العلم اللدن، وهذا العلم تجلى في عدة مواقف وتصريحات نذكر من هذه المواقف موردين يبينان لنا علمها اللدن:
المورد الأول: في يوم كربلاء.
لما مروا بالأطفال والأيتام على أجساد الضحايا وأجساد الشهداء، مال زين العابدين قلقاً وجزعاً على أبيه الحسين ، فقالت له العقيلة زينب: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي؟ فقال لها الإمام السجاد : كيف لا أهلع ولا أجزع وهذا سيدي وإخوتي وعمومتي وورد عمي وأهلي مضرجون بدمائهم، مزملون بالعراء، مسلبون ولا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد ولا يقربهم بشر، فكأنهم أهل بيت من الديلم والخزر.
التفت إليه فقالت: لا يجزعنك ما ترى فوالله إن ذلك لعهد من رسول إلى جدك وأبيك وعمك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة وينصبون بهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء، لا يدرس أثره ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلا ظهورا، ولا يزداد أمره إلا علواً. فمعرفتها بمستقبل قبر الحسين وبما يصير عليه أرض كربلاء إلى يوم القيامة يدل على شخصيتها المعرفية العظيمة صلوات الله وسلامه عليها.
المورد الثاني: حوارها مع عبيد الله بن زياد.
عندما دخلت إلى مجلس يزيد وهي متنكرة أي لبست أرذل ثيابها وحولها الأيتام والنساء فجلست فقال عبيد الله بن زياد: من هذه؟ فقالوا: هذه زينب بنت علي وفاطمة. فالتفت إليها ليشفي غليله وقال: الحمد لله الذي فضحكم وكذب أحدوثتكم. فقالت له: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس تطهيراً، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا. فقال لها: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ قالت: ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ.
ابن زياد يتحدث عن سياسة أموية، وهو منهج أموي موجود عند بعض التيارات الإسلامية؛ وهو أن ما حدث في الواقع فهو إرادة الله، وهذا مذهب المجبرة، ابن زياد يقول للسيدة زينب أنه هكذا هو الواقع أن الله قتلكم ونصرنا عليكم إذن هذه إرادة الله، وما حدث هو إرادة الله، وبما أن الغلبة لنا إذن هذا يدل على أننا على حق وأنتم على باطل، فلو كنتم على حق لنصركم الله ولوقف معكم، فأجابته بعلمها ومعرفتها قالت: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس ومن يكون مع النبي ومع الطهارة هل يكون على باطل! وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا. ثم قالت له لما أصر على كلامه: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ أجابته: ما رأيت إلا جميلاً. ما حدث لهم أراده الله؛ ولكن أراده نصراً لهم وليس هزيمة، أراده عزاً لهم وليس ذلاً، لأن قوة المبادئ تنتصر على قوة السلاح، قوة المبادئ والقيم تنتصر على كل قوة أخرى، قالت: ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم.
الشخصية الثانية: الشخصية العرفانية.
زينب قطعة من العبادة وكانت تصلي النافلة كل ليلة حتى في ليلة الحادي عشر من المحرم، هذه القطعة من العبادة ذابت في الله تبارك وتعالى، وقد حصلت زينب على الرؤية الملكوتية، فهناك رؤية ملكية وهناك رؤية ملكوتية، الرؤية الملكية هو من يقرأ الكون قراءة رياضية أو قراءة فيزيائية، أما الرؤية الملكوتية هو الذي يقرأ الكون مرآة لله ومظهراً لله، يستثمر علمه في الوصول إلى الله عزوجل، الرؤية الملكوتية أعطيت للنبي إبراهيم ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: 75] ومن يمتلك الرؤية الملكوتية يصل إلى درجة الاطمئنان واليقين ويكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ «27» ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً «28»﴾ [الفجر: 27 – 28]، وزينب حصلت على تلك الرؤية الملكوتية، فوصلت إلى درجة الاطمئنان واليقين، ونتيجة لوصولها إلى هذه الدرجة انعكست على تصرفاتها وأفعالها، وهناك عدة مشاهد تكشف عن وصولها لهذه الدرجة:
المشهد الأول: يقول حميد بن مسلم: لما قتل الحسين خرجت امرأة خفرة مخدرة تجر أذيالها خفراً وصوناً حتى وصلت إلى الجسد الشريف، فقيل: من هذه؟ قيل: إنها زينب، فجلست ومدت يديها تحت جسمه ورفعته إلى السماء قليلاً وقالت: اللهم تقبل منا هذا القربان.
المشهد الثاني: عندما ردت على ابن زياد لما قال: كيف رأيت صنع الله بأخيك؟ قالت: ما رأيت إلا جميلاً. فهنا يقول علماء العرفان أن جمال الرؤية نابع من جمال الروح، إذا كانت الروح جميلة رأيت كل شيء جميل، فإذا كانت الروح تعيش جمالاً لا ترى الوجود كله إلا نعم من الله ومنن من الله، لا ترى إلا جمالاً.
أيها المشتكي وما بك داء | كن جميلاً ترى الوجود جميلا |
زينب تعيش جمال الروح وجمال الاطمئنان، وجمال القرب من الله، وجمال رؤية ملكوت السماوات والأرض؛ ولأن روحها تعيش الجمال فلم تكن ترى إلا الجمال، وكل ما حل عليها رأته نعمة وليست نقمة، ولذلك كانت تقول: الحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة المغفرة وختم لآخرنا بالشهادة والرحمة. تفتخر وتعتز بما وقع لها.
الشخصية الثالثة: الشخصية الحركية.
زينب شخصية نشطة وحركية، شخصية إبداعية، فالشخصية الحركية هي التي تملك مشروع، فهي تخطط وتعد وتبرهن وتبرمج، تعزم وتنفذ وتراقب، تعيش دائماً في حالة حركة؛ لأنها تعيش مشروعاً حياتياً طويل الأمد، هكذا كانت العقيلة زينب، شخصية حركية، بدأت منذ ذلك اليوم لما أرادت الخروج من مكة، جاء ابن عباس إلى الإمام الحسين فقال: كيف تمضي إلى العراق وقد غدروا بأبيك وأخيك من قبل؟ فلما سمعت كلامه قالت: يا ابن عباس ما تقول؟ قال: أقول له إذا كان عازماً على الخروج فليدع النساء هنا ويخرج. فقالت: كيف تشير على شيخنا وسيدنا أن يخلفنا هنا وأن يمضي وحده! فوالله إنا لنحيا معه ونموت معه، وهل أبقى الزمان لنا غيره. أظهرت قوة الإرادة وقوة التصميم.
ولما صار يوم كربلاء ظهر دور زينب في ذلك اليوم بقوة التحمل والصبر فهي التي تودع الأبطال، وهي التي تستقبل الجنائز، وهي التي تضمد الجراح، وهي التي تهدأ الأطفال وتهدأ النساء، وهي التي تدور على المخيم وتحرسه في كل وقت، وهي التي تعطي الحسين شحنات روحية قوية لتدفعه إلى أن يبقى على موقفه، كما كانت أمها الزهراء مع أبيها رسول الله ، هي صاحبة الصوت وصاحبة الرأي وصاحبة المكانة، امرأة تجمع كل هذه الألوان كلها في ساعات معدودة.
ولما بدأت رحلة السبي قامت زينب بعدة أدوار أدارت القافلة كلها، فلولا إدارة زينب لهامت النساء في البراري وهامت الأطفال في الصحاري لأن المسير طويل، زينب تداري الإمام السجاد العليل المريض، والحسين كان له خليفتان، الخليفة الواقعي وهو الإمام السجاد لأنه الإمام المفترض الطاعة، والخليفة الظاهري وهي زينب فكانت الخلافة لها ظاهراً لأن موقعها الاجتماعي كان يفرض هذا، وكانت كلمتها أكثر تأثير من الإمام زين العابدين في تلك الظروف فهي ابنة فاطمة وابنة علي بن أبي طالب، فكان لكلمتها وقع، وكانت لها الخلافة الظاهرية ولكن الخلافة الواقعية للإمام زين العابدين حفاظاً على حياته وبقاءه.
والدور الثالث أن تنتصر لنسل رسول الله، لما دخلوا الكوفة أقبل الناس يرمون عليهم التمور والخبز والصدقات، بعضهم يبكي وبعضهم يهزأ، فانتصرت لآل بيت رسول الله، فرمت الصدقات من أيدي الأطفال، وقالت: الصدقة علينا حرام. انتصاراً لنسل رسول الله وانتصاراً لحرمة رسول الله.
وزينب هي التي وقفت أمام الطاغية ابن زياد تدافع عن الإمام زين العابدين، لأنه أعتقد بأن الرجال كلهم قتلوا وإذا بشاب أُدخل إلى المجلس فقال: من هذا؟ فقالوا: هذا علي بن الحسين. قال: أوليس قتل الله علي بن الحسين؟ رد عليه الإمام السجاد: كان لي أخ يقال له علي قتله الناس. قال: بل قتله الله. فقال: بل قتله الناس ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الزمر: 42] قال: أولك جرأة على رد جوابي؟ خذوه واضربوا عنقه. فتعلقت به زينب وقالت: والله لا تقتله وإن قتلته فاقتلني معه، يا ابن زياد حسبك من دمائنا.
زينب تدير الأطفال وتحافظ على السجاد، تخاطب الأعداء وتحامي عن الأطفال والأيتام، وصل الأمر إلى أنهم من طول الطريق والجوع وقلة الطعام وقلة الماء وحرارة الشمس يقول الرواة حتى تكشرت وجوههم من حرارة الشمس، جاءوا بهم في طريق طويل وعطش وجوع يسرع بهم الحادي حتى يوصلهم الشام في أول شهر صفر، وعندما أدخلوهم أوقفوهم على باب يزيد ست ساعات على درج الباب، ثم ربطوهم بالحبال أوله في عنق زين العابدين وآخره في عنق زينب، لكنها ما انكسرت ولا ذلت ولا وهنت ولا ضعفت، وعندما دخلت وقفت على يزيد بكل جرأة وقالت وهي تخاطب يزيد مفتخرة بعزة وكبر وهي تقول له: إني لأستحقر قدرك وأستكثر توبيخك وأستعظم تقريعك لكن العيون عبرى والقلوب حرى، فكد كيدك واسعى سعيك، وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا، وإن رأيك إلا فند وجمعك إلا بدد وأيامك إلا عدد حين ينادي المنادي ألا لعنة الله على القوم الظالمين.
فهي شخصية فريدة تجمع كل هذه الألوان وكل هذه المواقف في شخصيتها صلوات الله وسلامه عليها.
فكيف بمن يقول أن الإسلام أهان المرأة وبخس حقوقها، وطوق المرأة بأطواق متعددة، نقول له انظر إلى هذه المرأة، هل عاقها حجابها عن القيام بأدوارها؟ زينب هل أعاقها حجابها عن القيام بأدوار متعددة لا تقوم بها امرأة عادية؟ هل طوقها الإسلام بطوقٍ مَنع من أن تكون شمساً في التاريخ، خلدت ذكرها بأداء أدوارها العظيمة!
الشخصية الرابعة: الشخصية الإعلامية.
كانت زينب إعلاماً لحركة الحسين، فلولا زينب لضاعت ثورة الحسين، ولولا زينب لتبخرت حركة الحسين كلها، كان الحسين يعلم أن وجود زينب ضروري، لذلك قال لعبدالله بن جعفر: شاء الله أن يراني قتيلاً وأن يرى النساء سبايا. زينب كانت إعلام وظن الأمويون أنهم بأسر زينب سيذلونها ويضعفونها فستسكت وتصمت وتحتسب عند الله، لكن الأسر تحول إلى نصر، فقد استغلت زينب الأسر، واستغلت السبي وأبرزت بقوة ثورة الحسين وأهدافه، ومظلومية آل بيت رسول الله، قلبت الأوضاع على عبيد الله بن زياد من حيث لا يشعر، تلك الكوفة التي كانت صامتة مذعورة عندما دخلها عبيد الله بن زياد، بعد أن دخلت عليها زينب قلبت الناس رأساً على عقب فأصبحت الكوفة نوائح ومآتم، وتحركت المشاعر والعواطف وقامت بعدها ثورة التوابين، وثورة المختار، وثورة محمد ذي النفس الزكية، وثورة زيد بن علي، وكل ذلك بفضل صوت زينب وبفضل إدارة زينب وبفضل جرأة زينب وقوتها، كانت تركز دائماً على مظلومية آل الرسول، منذ أول يوم عندما وقفت على الجسد الشريف قالت: يا رسول الله صلى عليك مليك السماء هذا حسينك بالعراء وبناتك سبايا. أفهمت الجميع أنهن بنات رسول الله، وأن ظلمهم ظلم لرسول الله، وهذا الإعلام الذي يحرك العواطف. لما دخلت الكوفة قالت: أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم وأي كريمة له أبرزتم وأي دم له سفكتم وأي حرمة له انتهكتم؟ كانت تبرهن للجميع أن المظلوم هو الرسول وآل الرسول، ولذلك قالت ليزيد بن معاوية عندما وقفت عليه: أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد أبديت وجوههن وهتكت ستورهن. إذن كانت إعلاماً صامداً لثورة الحسين وحركته.
المحور الثالث: المضامين العالية المستقاة من خطبتها المباركة في الشام وفي الكوفة.
خطبت زينب خطبتين: خطبة في الكوفة، وخطبة في الشام.
خطبة الشام: عندما وقفت على يزيد كانت أقوى جناناً وأكثر جرأة؛ لأن المجلس كان مملوء بالمسلمين والمسيح واليهود وغيرهم من الملل، فأرادت فضح يزيد بن معاوية على جميع الملل وجميع الطوائف، فتحدثت بكل جرأة من دون أن تستأذن أحد ومن دون أن تأخذ نظراً من يزيد بن معاوية فقالت: أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء أن بنا على الله هواناً، وبك على الله كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً حيث رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة، وحيث صفا لك ملكنا وسلطاننا أي أن الملك لنا لأننا منصوبون من قبل النبي لأن الإمامة منصب منصوص لنا من قبل الله تبارك وتعالى فمهلاً مهلاً لا تطش جهلاً أنسيت قول الله…، وهو بالأصل لا يعترف بالوحي فهو يقول: لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل ولكن أرادت أن تفضحه وأن منطقه يصادم منطق السماء ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: 178]، إلى أن قالت: أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفح وجوهن القريب والبعيد، والدنيء والشريف، ليس معهن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حمي.
ثم أرادت أن تبين خبث أصله، فهي جاءت من محمد وعلي، وهو جاء من هند التي لفظ فمها كبد الحمزة سيد الشهداء، أرادت أن تدله على خبث أصله فقالت: وكيف يرجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه على دماء الشهداء.
خطبة الكوفة: كانت هي الخطبة لها التي أسالت الدموع وحركت المشاعر وهيجت الخواطر، وقفت على باب مجلس ابن زياد تخاطب الناس رجالاً ونساء: يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر أتبكون وتنتحبون فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطف وملق الإماء وغمز الأعداء. وهي تشير إلى نقاط ضعفهم، ثم تقول: أتبكون؟ فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا، فلقد ذهبتم بعارها وشنآنها ولن ترحضوها بغسل أبداً، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم الأنبياء، وسيد شباب أهل الجنة وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم ومنار حجتكم ومدره سنتكم، أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم وأي كريمة له أبرزتم وأي دم له سفكتم وأي حرمة له انتهكتم فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا تحفزه البدار ولا يخاف فوت الثأر ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر: 14] وفعلاً حصل ما تنبأت به زينب .
موقع السيد منير الخباز
اترك تعليقاً