|
المكان: | مسجد الحمزة بن عبدالمطلب | سيهات |
المصدر: | موقع السيد منير الخباز |
المدة: | 01:15:08 |
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 138]
صدق الله العلي العظيم
من أعظم الخطب الواردة عن أهل البيت الخطبة الفدكية الواردة عن السيدة الزهراء ، وحديثنا في رحاب هذه الخطبة الشريفة في ثلاثة محاور:
- فلسفة الدين في خطبة السيدة الزهراء .
- المضامين التأصيلية في هذه الخطبة الفدكية.
- مقاصد الشريعة التي تعرضت لها السيدة الزهراء في هذه الخطبة المباركة.
المحور الأول: فلسفة الدين في خطبة السيدة الزهراء .
هنا عندنا أربعة أسئلة نجيب عنها:
هناك فرق بين الدين والشريعة، فالدين هو الفكر الذي يجيب عن أربعة أسئلة، ما هو المبدأ؟ وما هو المنتهى؟ ما هو الطريق الرابط بين المبدأ والمنتهى؟ ما هو الهدف من وجود الحياة؟ نلاحظ في القرآن الكريم الفرق بين الدين وبين الشريعة عندما يقول تبارك وتعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19].
فالدين يجيب عن أربعة أسئلة فطرية أساسية لدى كل إنسان: من أين جئنا؟ وإلى أين سنذهب وما هو الطريق بين المبدأ والمنتهى؟ وما هو الهدف من وجودنا وحياتنا؟ كل إنسان يطرح هذه الأسئلة والمجيب عنها الدين.
المبدأ هو ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: 35]، ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 96].
والمنتهى هو ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ «12» ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ «13» ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ «14» ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ «15» ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ «16»﴾ [المؤمنون: 12 – 16].
والطريق الواصل بين المبدأ والمنتهى ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق: 6]، أنت تمشي في طريق بشكل سريع وأنت لا تلتفت إلى أن تلقى ربك الذي جئت منه ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156].
والهدف من وجود الحياة ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1» الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ «2»﴾ [الملك: 1 – 2]، إذن الفكر الذي يجيب عن الأسئلة الأربعة هو الدين؛ الذي جمع كل الرسالات وكل النبوات وكل الأديان والشرائع.
وأما الشريعة ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48]، فالشريعة هي التي تتضمن أربعة أركان: عقيدة، قانون، حقوق، وأخلاق. وكل شريعة تضم هذه الأركان الأربعة:
- العقيدة: هي الأصول، أصول الدين «التوحيد، العدل، النبوة، الإمامة، المعاد».
- القانون سواء كان قانون خاص كالصلاة أو كان قانون عام كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- الحقوق: وهو عبارة عن تقنين رابطة بين شخصين، فكل رابطة بين شخصية تسمى حق، مثلاً من حق الزوجة على زوجها النفقة، فإذا نظرت إلى هذه الرابطة من طرف الزوجة تسميه حق لأنه حق للزوجة على الزوج، وإذا نظرت إليه من طرف الزوج فهو قانون لأنه يجب على الزوج أن يضمن النفقة لزوجته، بل تعتبر ديناً عليه في أمواله لو كان الزوج لا يعطي زوجته نفقة، فإذا مات نفقة زوجته تكون ديناً في تركته وفي أمواله.
- الأخلاق: فهي المثل والقيم التي تسهم في كمال شخصية الإنسان، ولذلك يفرق بين الأخلاق وبين القانون أن القانون له لائحة جزائية، فمن زنا له كذا، من شرب خمراً له كذا… إلخ، أما الأخلاق فهي مطلوبة لكن لا توجد لائحة جزائية، مثلاً حسن التواضع خلق وسوء التكبر خلق لكن لا يوجد لائحة جزائية لمن تواضع أو لمن تكبر، حسن الظن خلق وسوء الظن خلق ذميم لكن لا توجد لائحة جزائية قبال من أساء الظن، فالأخلاق هي القيم المثلى التي ليس بإزائها لائحة جزائية، بينما القوانين قبالها لائحة جزائية.
فكل منظومة تتكون من هذه الأركان الأربعة ألا وهي العقيدة والقانون والحقوق والأخلاق تسمى الشريعة.
الفلسفة تختلف عن علم الفلسفة، علم الفلسفة شيء والفلسفة شيء آخر، فعلم الفلسفة هو العلم الذي يبحث عن الوجود، وعن معنى الوجود وما هي أقسام الوجود وما هي أقسام العلم وأقسام العلة، أما الفلسفة فهي عبارة عن قراءة الشيء من خارجه قراءة تحليلية، مثلاً عندما نقول فلسفة اللغة، أي أن تقرأ اللغة من خارج اللغة، تسأل هل اللغة أمر فطري أو أمر مكتسب؟ ما هي أول لغة تكلم بها الإنسان؟ ما هي أول لحظة بدأت فيها اللغة الكتابية بعد اللغة الشفهية؟ ما هو أثر اللغة على فكر الإنسان وعلى خواطر الإنسان، فهذه تسمى فلسفة اللغة.
إذن فلسفة الدين هي قراءة الدين من خارج الدين، فكيف تقرأ الدين من خارج الدين؟ عندما تسأل ما هو الدين وما هي الجذور التاريخية للدين، وما هي أهداف الدين؟ وما هو الأثر الاجتماعي والحضاري للدين؟ النظرات التحليلية في قراءة الدين هي التي تسمى بفلسفة الدين.
عندما نريد أن نقرأ فلسفة الدين وأن نسلط الضوء على فلسفة الدين، نقول ما هي الأبعاد التي نلاحظها في مجال قراءة فلسفة الدين؟
الأبعاد أربعة: البعد التاريخي، البعد التكاملي، البعد الاجتماعي، البعد التحليلي.
البعد الأول: البعد التاريخي.
يتدخل علم الحفريات ليبحث في الآثار ليعرف من خلالها متى بدأت الطقوس الدينية على الأرض، ويؤكد علم الآثار أن الحفريات تثبت أن الطقوس الدينية بدأت منذ بداية الإنسان على الأرض، وبدأ معه مفهوم الدين، مثلا عندما تأتي للصلاة تقرأ في القرآن قوله تعالى على لسان النبي عيسى ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ [مريم: 31] أي أن الصلاة كما كانت واجبة في شريعة عيسى فهي واجبة في شريعة النبي محمد ، فالصلاة في جميع الأديان.
والزكاة هي عبارة عن الضريبة المالية المتعلقة بمصلحة المجتمع، هذه أيضاً في جميع الأديان.
مثلاً عبد المطلب جد النبي محمد الذي كان من الموحدين والمؤمنين بالله، سن في دية القتل الخطأ مئة ناقة حمراء، والرسول الأعظم أمضى ما سنة جده عبد المطلب، وهذا كله يعبر عن بعد تاريخي للدين وجذور تاريخية للدين.
البعد الثاني: البعد التكاملي.
الدين أسرة واحدة، وكما ذكرنا فإن هناك قانون وأخلاق وحقوق، لكن تجد هذه الأركان الثلاثة مترابطة لا ينفك بعضها عن البعض الآخر، فمثلاً عندما نأتي إلى قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179] هذا قانون، يعني من قتل وليه له حق القصاص ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء: 33].
أما عندما تأتي لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ﴾ [البقرة: 178] هذه أخلاق، أي إذا عفى عن القاتل وأبرأ ذمته فهذا من الأخلاق وليس قانون.
وإذا أتيت إلى قوله تعالى ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229] فهذا قانون، إما أن تعيش مع زوجتك بعلاقة حسنة جيدة أو تسريح بإحسان.
ولكن عندما يأتي إلى جانب الأخلاق فيقول ﴿فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾ [النساء: 35] فهذه دعوى أخلاقية.
إذن القرآن يمزج القانون بالأخلاق ليحكي لنا أن الشريعة الإسلامية أسرة مترابطة تجمعها أهداف موحده بين عقيدتها وقانونها وحقوقها وأخلاقها.
البعد الثالث: البعد الاجتماعي.
الدين له أبعاد اجتماعية واضحة مثلا صلاة الجماعة، تشييع الجنازة، حقوق الجوار، الزكاة، الخمس، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلها تعكس البعد الاجتماعي للدين، فعندما تقرأ الدين من خلال هذه الأحكام فأنت تقرأ الدين من خلال بعده الاجتماعي، وهنا أشير إلى نقطة لاحظوا فيها مثلا عندما نأتي إلى حق القصاص، إنسان قتل إنسان عمداً فترتب على ذلك أن لولي الدم حق القصاص، فلو أن ولي المقتول تنازل عن الحق في القصاص أو حتى في الدية، يقول بعض الفقهاء أن الحق الاجتماعي لا يسقط بتنازل ولي الدم؛ لأن القاتل لم يرتكب جريمة فردية وهي قتل نفس محترمة، فهو ارتكب أيضا جريمة اجتماعية ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32] حتى لو تنازل ولي المقتول عن القصاص وتنازل عن الدية، لكن تبقى الجريمة الاجتماعية التي ارتكبها القاتل في حق المجتمع، بل حتى شهر سلاح أمام الناس يعتبر جريمة في حق المجتمع يعاقب عليها، وفقهاؤنا ينصون على هذه النقطة؛ لأنها ترويع للحياة الاجتماعية الآمنة، فلا يعفى من الحق الاجتماعي لأنه ارتكب جريمة في حق المجتمع.
البعد الرابع: البعد التحليلي.
عندما تتأمل في أهداف الدين ومقاصد الدين والعلل التي نظر إليها المشرع الإسلامي، فهذه تعتبر قراءة للبعد التحليلي للدين، وهنا ننتقل إلى بيان هذا السؤال: ما هي مظاهر البعد التحليلي في الدين؟
عندما ترجع إلى ما يصنفه فقهاؤنا وعلماؤنا نلاحظ كلمات السيد الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه «اقتصادنا»، أن هناك مقاصد للدين، وهناك مقاصد للشريعة، وهناك نظم، وملاكات، ولابد أن نفرق بين هذه المفاهيم.
المفهوم الأول: مقاصد الدين.
مقاصد الدين تختلف عن مقاصد الشريعة، وكما ذكرنا سابقاً أن الدين يختلف عن الشريعة، بأن الدين هو الذي يجمع الأديان كلها، والشريعة فلكل نبي شريعة، شريعة النبي تختلف عن شريعة النبي موسى أو النبي عيسى، وبما أن الدين هو الفكر الذي يتحدث عن المبدأ والمنتهى والربط بين المبدأ والمنتهى إذن المقصد للدين هو تحقيق الربط بين المبدأ والمنتهى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] وهذا هو الرابط بين المبدأ والمنتهى.
المفهوم الثاني: مقاصد الشريعة.
مقاصد الشريعة هي الأهداف العليا التي نظرت إليها الشريعة عندما سنت القوانين وأسست الأحكام وأصدرت التشريعات، فكل الأهداف العليا التي نظرت إليها الشريعة تسمى بمقاصد الشريعة، ومقاصد الشريعة لتنظيم العلاقات الثلاث، لكل إنسان ثلاث علاقات: علاقة مع الله، علاقة مع الطبيعة التي يعيش فيها، وعلاقة مع المجتمع الإنساني.
العلاقة الأولى: العلاقة مع الله تمثل العنصر الروحي في شخصية الإنسان ويؤكد عليها القرآن الكريم ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]
العلاقة الثانية: العلاقة مع الطبيعة ينص القرآن ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61] علاقة الإنسان بالأرض وهي علاقة الإعمار وعلاقة الاستثمار ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15]
العلاقة الثالثة: العلاقة مع المجتمع، يقول القرآن الكريم ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 104]، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 3]
فمقاصد الشريعة هي الأهداف التي تنظم هذه العلاقات الثلاث التي يطلب من الإنسان المسلم أن يحققها.
المفهوم الثالث: النظم.
النظم هي خطوط عامة تؤخذ من مقاصد الشريعة وتعتبر نظماً للدين، مثلاً: عندما نأتي إلى أحكام البنوك والمعاملات من البيع والإجارة والصلح وسائر المعاملات التي تجري بين البشر، نأخذ منها خط عاماً ونسميه بالمذهب الاقتصادي للإسلام الذي يجمع هذه التشريعات كلها، وعندما تأتي إلى الطلاق والنكاح العلاقة مع الوالدين، العلاقة مع الأولاد، والعلاقة مع الجيران فهذه كلها تنتظم تحت خط واحد وهو العلاقات الاجتماعية في الإسلام، وعندما نأتي مثلاً إلى الحدود والتعزيرات والديات فكلها تنتظم تحت خط اللائحة الجزائية في الإسلام، فهذه كلها تسمى النظم وهي الخطوط العامة التي تنفرز من خلالها الأحكام الشرعية.
المفهوم الرابع: الملاكات.
الملاكات هي الأهداف الخاصة بكل تشريع، مثلاً ما هو الهدف من تحريم الخمر، رواية عن الإمام الصادق : ”إن الله لم يحرم الخمر لاسمها وإنما حرمها لعاقبتها، فما كانت عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر“، إذن تحديد العلة في حرمة الإسكار هذه تسمى الملاكات الخاصة.
مثلاً ما هي العلة في تحريم الربا؟ القرآن الكريم يذكر العلة في تحريم الربا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «278» فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ «279»﴾ [البقرة: 278 – 279] فالعلة والهدف هو منع الظلم.
إذن نحن عرفنا من خلال البحث عن فلسفة الدين الإجابة عن هذه الأسئلة الأربعة بما يرتبط بهذا العنوان.
المحور الثاني: المضامين التأصيلية في الخطبة الفدكية للسيدة الزهراء .
السيدة الزهراء في هذه الخطبة تعرضت لعدة مضامين منها أنها تحدثت عن كونها من المصطفين حيث قالت: «أيُّها النّاسُ! اعْلَمُوا أنِّي فاطِمَةُ، وَأبي مُحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءاً، وَلا أقُولُ ما أقُولُ غَلَطاً، وَلا أفْعَلُ ما أفْعَلُ شَطَطاً: ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيم﴾ فَإنْ تَعْزُوه وَتَعْرِفُوهُ تَجِدُوهُ أبي دُونَ نِسائِكُمْ، وَأخا ابْنِ عَمَّي دُونَ رِجالِكُمْ، وَ لَنِعْمَ الْمَعْزِيُّ إلَيْهِ صَلى الله عليه وآله»، وكأنها تشير إلى الآية المباركة ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ «33» ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «34»﴾ [آل عمران: 33 – 34].
تحدثت السيدة الزهراء عن تاريخ النبوة المشرق، حيث قالت: «فَرَأى الأُمَمَ فِرَقاً في أدْيانِها، عُكَّفاً على نيرانِها، عابِدَةً لأَوثانِها، مُنْكِرَةً لله مَعَ عِرْفانِها. فَأَنارَ اللهُ بِمُحَمَّدٍ ظُلَمَها، وكَشَفَ عَنِ القُلُوبِ بُهَمَها، وَجَلّى عَنِ الأَبْصارِ غُمَمَها».
ثم قالت: «فَبَلَّغَ الرِّسالَةَ صادِعاً بِالنِّذارَةِ، مائِلاً عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكِينَ، ضارِباً ثَبَجَهُمْ، آخِذاً بِأكْظامِهِمْ، داعِياً إلى سَبيلِ رَبِّهِ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنةِ، يَكْسِرُ الأَصْنامَ، وَيَنْكُتُ الْهامَ، حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلُّوا الدُّبُرَ، حَتّى تَفَرَّى اللَّيْلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأسْفَرَ الحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَنَطَقَ زَعِيمُ الدّينِ، وَخَرِسَتْ شَقاشِقُ الشَّياطينِ، وَطاحَ وَشيظُ النِّفاقِ، وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإْخْلاصِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْبيضِ الْخِماصِ، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ، مُذْقَةَ الشّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطّامِعِ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأقْدامِ، تَشْرَبُونَ الطّرْقَ، وَتَقْتاتُونَ الْوَرَقَ، أذِلَّةً خاسِئِينَ، ﴿تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ﴾. فَأنْقَذَكُمُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى بِمُحَمَّدٍ صَلى الله عليه وآله بَعْدَ اللّتَيّا وَالَّتِي، وَبَعْدَ أنْ مُنِيَ بِبُهَمِ الرِّجالِ وَذُؤْبانِ الْعَرَبِ وَمَرَدَةِ أهْلِ الْكِتابِ، ﴿كُلَّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أطْفَأها اللهُ﴾، أوْنَجَمَ قَرْنٌ لِلْشَّيْطانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَذَفَ أخاهُ في لَهَواتِها، فَلا يَنْكَفِئُ حَتَّى يَطَأَ صِماخَها بِأَخْمَصِهِ، وِيُخْمِدَ لَهَبَهَا بِسَيْفِهِ، مَكْدُوداً في ذاتِ اللّهِ، مُجْتَهِداً في أمْرِ اللهِ، قَرِيباً مِنْ رِسُولِ اللّهِ سِيِّدَ أوْلياءِ اللّهِ، مُشْمِّراً ناصِحاً، مُجِدّاً كادِحاً، وأَنْتُمْ فِي رَفاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَادِعُونَ فاكِهُونَ آمِنُونَ، تَتَرَبَّصُونَ بِنا الدَّوائِرَ، وتَتَوَكَّفُونَ الأَخْبارَ، وَتَنْكُصُونَ عِنْدَ النِّزالِ، وَتَفِرُّونَ عِنْدَ القِتالِ» تتعرض للتاريخ المشرق لأبيها وبعلها في دعم الرسالة وتشييد دعائم النبوة ودعائم الشريعة.
تعرضت السيدة الزهراء لاحتجاجها على مظلوميتها في فدك وقالت: «وأَنْتُمْ فِي رَفاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَادِعُونَ فاكِهُونَ آمِنُونَ، تَتَرَبَّصُونَ بِنا الدَّوائِرَ، وتَتَوَكَّفُونَ الأَخْبارَ، وَتَنْكُصُونَ عِنْدَ النِّزالِ، وَتَفِرُّونَ عِنْدَ القِتالِ» وقالت ضمن احتجاجها عليهم: «وزَعَمْتُمْ أَلَا حِظوَةَ لِي، وَلا إرْثَ مِنْ أبي ولارَحِمَ بَيْنَنَا، أَفَخَصَّكُمُ اللهُ بِآيَةٍ أخْرَجَ مِنْها أبِي؟ أمْ هَلْ تَقُولونَ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ لا يَتَوارَثَانِ، أوَ لَسْتُ أَنَا وَأَبِي مِنْ أَهْلِ مِلَّةٍ واحِدَةٍ؟! أَمْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِي وَابْنِ عَمّي؟».
كل هذه المضامين تعرضت إليها لكن هناك مضمونان تأصيليان تعرضت لهما السيدة الزهراء ضمن الخطبة الفدكية:
المضمون الأول: أصول الدين.
تعرضت في بداية خطبتها إلى أصول الدين فذكرت:
الأصل الأول: التوحيد، قائلة: «وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الإْخْلاصَ تَأْويلَها، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَها، وَأَنارَ في الْفِكَرِ مَعْقُولَها. الْمُمْتَنِعُ مِنَ الإْبْصارِ رُؤْيِتُهُ، وَمِنَ اْلأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ الأَوْهامِ كَيْفِيَّتُهُ»، تريد الزهراء أن تبين أن هناك فرق بين الواحدية والأحدية، فما الفرق بين قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [الكهف: 110]، وبين قوله: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] فالواحد هو الذي لا شريك له لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ولا يوجد شريك ولا مثيل له لا في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته، فهذا يقال واحد وليس المقصود به الواحد العددي بل الواحد الحقيقي الذي لا شريك له في شيء.
أما الأحد فهو عبارة عن واجب الوجود، فوجودنا ووجود كل ممكن هو من غيره، أي كل ممكن اكتسب الوجود من غيره، وأما وجوده تعالى فليس وجوداً مكتسباً بل وجوده بذاته وليس بغيره، فمن كان وجوده بذاته فهو واجب الوجود، ومن كان واجب الوجود لا يحده حد ولا يقيده قيد، والوجود المطلق الذي لا يحده حد تمتنع عن الأبصار رؤيته؛ لأنه ليس وجود محدود، فالمحدود لا يدرك اللا محدود، «الْمُمْتَنِعُ مِنَ الإْبْصارِ رُؤْيِتُهُ، وَمِنَ اْلأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ الأَوْهامِ كَيْفِيَّتُهُ»، إذن هي أشارت إلى الوحدة الواحدية وإلى الوحدة الأحدية.
الأصل الثاني: المشهور بيننا أن الأصل الثاني هو العدل، والواقع هو أن الأصل الثاني هو الكمال؛ بمعنى أنه بما أن الله واحد وهذا الأصل الأول إذن هو كامل كمالاً مطلقاً، الكمال المطلق الذي لا يشوبه نقص ولا عيب هو الأصل الثاني من أصول الدين، لكن الكمال المطلق له مظاهر أربعة: الغنى، الحكمة، العدل، والرحمة، فلما تجلى لنا بهذه الصفات الأربع أدركنا أنه تعالى هو الكمال المطلق.
- الصفة الأولى: الغنى، السيدة الزهراء تذكر ذلك «اِبْتَدَعَ الأَشَياءَ لا مِنْ شَيْءٍ كانَ قَبْلَها، وَأَنْشَأَها بِلا احْتِذاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَها، كَوَّنَها بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَها بِمَشِيَّتِهِ، مِنْ غَيْرِ حاجَةٍ مِنْهُ إلى تَكْوينِها، وَلا فائِدَةٍ لَهُ في تَصْويرِها» وهذه إشارة من الزهراء إلى الغنى أنه غني عما خلق.
- الصفة الثانية: الحكمة، ثم تقول: «إلاّ تَثْبيتاً لِحِكْمَتِهِ، وَتَنْبيهاً عَلى طاعَتِهِ، وَإظْهاراً لِقُدْرَتِهِ» وهذه إشارة للصفة الثانية صفة الحكمة أن له حكمة من ذلك.
- الصفة الثالثة: العدل، ثم تقول: ثُمَّ جَعَلَ الثَّوابَ على طاعَتِهِ، وَوَضَعَ العِقابَ عَلى مَعْصِيِتَهِ» وهذه إشارة إلى الصفة الثالثة وهي صفة العدل.
- الصفة الرابعة: الرحمة، ثم تقول: «ذِيادَةً لِعِبادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ، وَحِياشَةً مِنْهُ إلى جَنَّتِهِ» وهذه إشارة إلى الصفة الرابعة صفة الرحمة.
الأصل الثالث: النبوة، فقالت: «وَأَشْهَدُ أنّ أبي مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله عبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اخْتارَهُ وَانْتَجَبَهُ قَبْلَ أَنْ أَرْسَلَهُ، وَسَمّاهُ قَبْلَ أنِ اجْتَبَاَهُ، وَاصْطِفاهُ قَبْلَ أنِ ابْتَعَثَهُ، إذِ الْخَلائِقُ بالغَيْبِ مَكْنُونَةٌ، وَبِسِتْرِ الأَهاويل مَصُونَةٌ، وَبِنِهايَةِ الْعَدَمِ مَقْرُونَةٌ» يعني أن النبي مر بعدة مراحل: اختيار، تسمية، اصطفاء، وابتعاث.
المرحلة الأولى: الاختيار، يقول الأزري:
قَلَّبَ الْخافِقَيْنِ ظَهْراً لِبَطْنٍ لَمْ يَكُن أَشْرَفَ النَّبِيينَ |
فَرَأى ذاتَ أحْمَدٍ فَاجْتَباها حَتَّى عَلِمَ اللهُ أَنَّهُ أَزْكَاهَا |
عندما نقرأ قوله تعالى ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَ﴾ [البقرة: 31]، فما الذي ظهر لأدم؟ ظهرت لآدم حقائق نورية لما رآها أذعن بالله تبارك وتعالى، وتلك الحقائق النورية محمد وآل محمد عليهم أفضل الصلاة والتسليم.
المرحلة الثانية: التسمية، هذا محمد وهذا علي، هذا حسن، وهذا حسين، هذه فاطمة، «وَسَمّاهُ قَبْلَ أنِ اجْتَبَاَهُ».
المرحلة الثالثة: الاصطفاء، «وَاصْطِفاهُ قَبْلَ أنِ ابْتَعَثَهُ» هناك نبوة واقعية ونبوة ظاهرية، فهو نبي منذ ولادته وهذا معنى الاصطفاء والاجتباء، لكن لم يبعثه إلى قومه إلا بعد أربعين سنة ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [الحديد: 25] بعد عمر معين لذلك قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا «45» وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا «46»﴾ [الأحزاب: 45 – 46].
فهناك نبوة حقيقية وهي الاصطفاء، وهناك نبوة ظاهرية وهي الابتعاث ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2].
الأصل الرابع: الإمامة، قالت : «وَطاعَتَنا نِظاماً لِلْمِلَّةِ، وَإمامَتَنا أماناً مِنَ الْفُرْقَةِ»، وقالت : «وَزَعَمْتُمْ حَقٌّ لَكُمْ للهِ فِيكُمْ، عَهْدٌ قَدَّمَهُ إِلَيْكُمْ» أي عهد الإمامة كما قال تبارك وتعالى في الحديث عن إبراهيم ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124]، «وَبَقِيَّةٌ استَخْلَفَها عَلَيْكُمْ» إني مخلفكم فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي.
الأصل الخامس: المعاد، عندما قالت: «فَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ، وَالزَّعِيمُ مُحَمَّدٌ، وَالْمَوْعِدُ الْقِيامَةُ، وَعِنْدَ السّاعَةِ يخسَرُ المبطلون، وَلا يَنْفَعُكُمْ إذْ تَنْدَمُونَ، ﴿وَلِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ﴾»
المحور الثالث: مقاصد الشريعة في خطبة السيدة الزهراء .
مقاصد الشريعة هو علمٌ أول من كتب فيه من علماء إخواننا أهل السنة إمام الحرمين الجويني في كتابه «البرهان في أصول الفقه المتوفى» عام 474 هـ ، ثم توالت الكتابات إلى أن كتب فيه الشاطبي المتوفى عام 790 هـ كتب «الموافقات في الشريعة»، لكن بالنسبة إلى الشيعة فهم قبل ذلك، فأول من كتب في هذا العلم هو أبو الفضل بن شاذان في كتاب «العلل» وهو المتوفى سنة ه260؛ أي أن الإمامية كتبت في علل الشريعة ومقاصدها قبل غيرها من المذاهب، ثم جاء الشيخ الصدوق وكتب كتاب «علل الشرائع» المتوفى سنة 381 هـ ، ثم توالت الكتب، كما ذكره الشهيد الأول في كتابه «القواعد والفوائد» وهو المتوفى سنة 786 هـ .
ومقاصد الشريعة في خطبة السيدة الزهراء س نتحدث عن ملامح أربعة لمقاصد الشريعة في خطبتها :
الملمح الأول:
السيدة الزهراء قسمت التشريعات إلى جوانحيه وجوارحيه، والجواريحية إلى خاصة وعامة، والخاصة إلى فردية واجتماعية، وكل ذلك في هذه الخطبة التي ألقتها في مسجد الرسول فقالت: «فَجَعَلَ اللهُ الإيمانَ تَطْهيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ» «وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِيجابِ الأْجْرِ» فالإيمان والصبر عبادتان جوانحيتان، التشريع الجوارحي: «وَالصَّلاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الكِبْرِ» «والصِّيامَ تَثْبيتاً للإِخْلاصِ».
ثم تعرضت إلى تقسيم هذه العبادات الجوارحية إلى عبادات خاصة مثل الصلاة والصوم، وإلى عبادات عامة مثل: الزكاة «والزَّكاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْق» الزكاة ضريبة مالية عامة، والحج «والحَجَّ تَشْييداً لِلدّينِ» لأنه يشكل عبادة عامة.
وتعرضت في تقسيمها إلى الوظائف الخاصة الفردية والوظائف الاجتماعية «وَالنَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ تَنْزِيهاً عَنِ الرِّجْسِ» «وَتَرْكَ السِّرْقَةِ إيجاباً لِلْعِفَّةِ» قضايا فردية، وأما القضايا الاجتماعية عندما قالت «وَالْجِهادَ عِزاً لِلإْسْلامِ» «وَالأْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعامَّةِ»
الملمح الثاني:
يذكر فقهاؤنا أن هناك فرقاً بين العلة والحكمة، فالعلة هي الغاية من التشريع، والتشريع يدور مدارها، وأما الحكمة هي فائدة تترتب على العمل بالتشريع لا أن التشريع يدور مدارها، ومثال على ذلك عندما نأتي إلى علة تحريم الخمر وأن علته الإسكار، فالخمر محرم لأنه مسكر حكم يدور مداره، أو عندما يقول الله تبارك وتعالى في علة تحريم الربا ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 279].
وأما الحكمة للمطلقة عندما تعتد ثلاثة قروء ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228] والمراد بها ثلاثة حيضات، وقد بررت بعض الروايات ذلك لمنع اختلاط المياه والأنساب، ولو كانت هذه المرأة لم يجامعها زوجها سنين ومن ثم طلقها، هنا أيضا تحتاج إلى عدة مع أنه لا اختلاط في المياه هنا، أو فرضاً أن هذه المرأة في الأسبوع الأول من طلاقها تستطيع أن تعرف أنها حامل أو ليست بحامل من خلال التحليل والفحص الطبي مع ذلك تحتاج إلى عدة، إذن منع اختلاط الأنساب والمياه ليست علة للحكم، وليست غاية للتشريع، وإنما هي فائدة من فوائده، وحكمة من حكمه.
الزهراء في خطبتها عندما تقول: «والزَّكاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْق» الأولى علة والثانية حكمة، أي أن الغاية التي من أجلها شرع الله الزكاة هي تزكية النفس؛ لأن الإنسان إذا تخلص من الأموال حصل على تزكية لنفسه ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14] التخلص من هذه الروابط يزكي النفس، وهذه غاية في تشريع الزكاة، ولكن إذا زكى أمواله فإنها تنمو، وهذه فائدة من فوائد الزكاة فتسمى حكمة، فهناك فرق بين العلة والحكمة.
الملمح الثالث:
الأحكام الشرعية على نوعين: متغير وثابت، كل حكم يتغير بسبب الحرج أو يتغير بسبب الضرر فهو حكم متغير، يجب عليك رد السلام إذا سلم عليك مسلم، لكن لو كان رد السلام حرجاً شديداً عليك يسقط عنك وجوب رد السلام، إذن هذا الحكم متغير لأنه يسقط في حالة الحرج ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].
الصوم، صوم شهر رمضان واجب ولكن إذا كان الإنسان مريضاً يسقط عنه الصوم ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، إذن وجوب الصوم صار حكماً متغير.
أما عندما نأتي لحرمة قتل النفس فالحكم ثابت لا يسقط بالحرج ولا بالضرر، حرمة هتك الأعراض حكم ثابت لا يسقط بالحرج ولا بالضرر، إذن هناك متغير وهناك ثابت وقد أشارت السيدة الزهراء في خطبتها إلى الحكم المتغير والحكم الثابت.
أيضاً من الحكم المتغير: كالصلاة يقول بعض الفقهاء إذا فقدت الطهورين لا تجب الصلاة أداء وتجب قضاء.
فتعرضت إلى الأحكام المتغيرة وتعرضت إلى الأحكام الثابتة، كل حكم يرتبط بمظهر الدين هو حكم ثابت، وكل حكم يرتبط باستقرار الحياة الاجتماعية هو حكم ثابت، قالت: «والحَجَّ تَشْييداً لِلدّينِ» الحج حكم ثابت، ما ورد عن الإمام الصادق يقول في صحيحة معاوية بن عمار: ”لو أن الناس تركوا الحج لوجب على الوالي أن يجبرهم على الحج والمقام عنده، ولو أن الناس تركوا زيارة النبي محمد لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك والمقام عنده، فإن لم تكن لديهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين“ إذن الحج مظهر للدين وتشييداً له هو حكم ثابت.
العدل هو حكم ثابت «وَالعَدْلَ تَنْسيقاً لِلْقُلوبِ»؛ لأن بها قوام استقرار الحياة الاجتماعية.. وهكذا بقية الأحكام.
الملمح الرابع:
هناك بحث يذكره الفقهاء كيف نكتشف علة الحكم؟ فهل نستطيع بعقولنا أن نستكشف علل الأحكام وملاكاتها؟ لا يمكن ذلك، ففي الرواية عن الإمام الصادق يقول: ”إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة ولا بالآراء الفاسدة“، طريقة استكشاف علة الحكم ولفهم المبرر للحكم هناك عدة طرق:
الطريق الأول: النص، أن يأتي نص من الإمام على أن علة الحكم كذا، كما ذكرنا رواية الإمام الصادق يقول: ”إنما حرمت الخمر لإسكارها“.
الطريق الثاني: يسميه السيد الصدر قدس سره الفهم الاجتماعي للنص، أي مناسبة الحكم والموضوع كما يعبر الفقهاء ترشد إلى مناط الحكم وملاكه، ومثال على ذلك ما ورد عن النبي : ”من أحيا أرضاً مواتاً فهي له“. فعندما تأتي إلى أرض في الصحراء فارغة لا يملكها أحد وتحييها بالزراعة أو تحييها بالبناء فشرعاً أصبحت تملكها، لكن هل هذه خصوصية في الأرض؟ السيد الصدر يقول علة الحكم ليست الخصوصية في الأرض، بل إن علة الحكم هي بذل الطاقة والجهد، من بذل طاقة وجهد فله حق فيما بذل، وله نتيجة جهده وله نتيجة عمله، لذلك بعض الفقهاء يرى حق الاختراع والبراءة هو حق لصاحبه، هذا باعتبار أنه نتيجة جهد ونتيجة طاقته وعمله.
الطريق الثالث: إلغاء الخصوصية، تأتينا أحكام واردة في مورد معين، لكن نحن نعممها لأننا نفهم علة الحكم، مثلا ما ورد عن الرسول : ”لا سبق إلا في ثلاث خف وحافر ونصل“.
سابقاً كانوا يتسابقون إما بالخيول وهو الحافر، وإما بالسهام وهو النصل، وإما بالناقة وهي الخف، يعني هل المسابقة المباحة تختص بالمسابقة بالنياق والخيول والسهام فقط؟ لا، بل كل مشروع رياضي، اجتماعي، خيري، وثقافي تتحقق فيه مسابقة، فهي أمر مشروع، يعني هذه الرواية لا خصوصية فيها للخف والحافر والنصل، المهم أن المسابقة في أمر له أثر اجتماعي وله منفعة اجتماعية حينئذ تكون المسابقة فيه جائزة.
الطريق الرابع: الاستقراء، والاستقراء أن نجد حكماً وروايات مضمونها يتكرر في عدة أبواب فنستنطق منها قاعدة عامة، فيكون الاستقراء طريقاً لفهم ملاك الحكم وعلة الحكم، مثلاً عندما نأتي لباب الحج لدينا صحيحة عبد الصمد بن بشير: ”إيما امرئ ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه“. مثلاً ارتكب انسان بعض المحظورات في الحج عن جهل قصوري، كلبس المخيط، وتظليل الرأس، وفي الصلاة إنسان يصلي ولا يقرأ السورة لا يعلم أن السورة واجبة بعد الفاتحة، أو لا يأتي بالتشهد في الركعة الثانية لجهل قصوري، فلا شيء عليه، ورد عن الإمام الصادق في صحيحة زرارة: ”لا تعاد إلا من خمسة: القبلة، الوقت، والطهور، الركوع، والسجود، والقراءة سنة والتشهد سنة ولا تنقض السنة الفريضة“.
فإذن هذه الأحكام في باب الحج وفي باب الصلاة وبعض الفقهاء يعممه في باب الصيام أيضاً، مثلاً إنسان في الصوم ارتكب مفطراً من غير المفطرات الموجودة في القرآن الكريم عن جهل قصوري، كالدخان الغليظ لو إنسان استنشقه عن جهل قصوري ثم عرف أن هذا مبطل للصوم فصومه صحيح.. وهكذا.
من الأمثلة على دخل الاستقراء في تعميم الحكم أو تخصيصه ما تعرض له فقيه أهل البيت صاحب الجواهر الشيخ محمد حسن الجواهري في كتابه جواهر الكلام في شرائع الإسلام قال: الرواية التي وردت أن المسلم إذا هو مسافر مخير بين القصر والتمام في أربعة مواطن: مكة، المدينة، حائر الحسين ، ومسجد الكوفة، في هذه المناطق الأربعة يكون الإنسان مخير بين القصر والتمام، بعض الشيعة كالسيد مرتضى عممها لكل قبور أهل البيت، أيُّ عتبة من العتبات المقدسة يكون فيها ولم يقصد إقامة عشرة أيام يكون مخيراً فيها بين القصر والتمام، ويذكر صاحب الجواهر ويقول لا نص على ذلك، ولكن لعل من ذهب إلى ذلك علله بأن قبورهم متساوية في الشرف، ولعله أنه فهم أن العلة أن قبورهم متساوية في الشرف فعممها لكل قبور أهل البيت ، وهذه خاصية من الصعب تجاوزها، فالإمام أمير المؤمنين أفضل من الحسين ومع ذلك فالرواية وردت في قبر الحسين، أي من لم يقم عشرة أيام في كربلاء وهو في الحائر الحسيني منطقة الحائر الماء الذي حار حول القبر الشريف هو مخير بين القصر والتمام، بينما لو كان عند الإمام علي في النجف الأشرف ولم يقصد إقامة عشرة أيام يكون حكمه القصر وليس التمام؛ والعلة أن لتربة الحسين خصوصيه، ولتربة كربلاء خصوصية، ولذلك جاءت الروايات الكثيرة التي تحث على السجود على تربة الحسين ، وأن السجود على تربة الحسين يخرق الحجب السبع، خصوصاً تربة الحائر مقدارها ستة وعشرون ذراع من حول القبر من الجهات الأربع، هنا لما أرسل المتوكل العباسي الماء على قبر الحسين، أمر المتوكل العباسي بإنهاء قبر الحسين، فأمر بحرث القبر ومحوه وإرسال الماء عليه حتى ينمحي أثره، فلما أرسل عليه ماء الفرات من أجل محوه حار الماء حول القبر في هذه المنطقة ولم ينفذ إليه فسميت المنطقة منطقة الحائر الحسيني، وكانت تربة هذه المنطقة أفضل الترب ويستحب السجود عليها، وأن الله جعل الشفاء في تربته والإجابة تحت قبته، وكانت هذه القبة الشريفة وهذه التربة الشريفة مهبطاً للملائكة ومصلى للأنبياء والمرسلين.
اترك تعليقاً