|
تعريف: | أربعين الإمام الحسين بن علي (ع) |
المدة: | 01:19:02 |
المكان: | حسينية السنان | القطيف |
https://youtu.be/Dh0iZZ4t0Is
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 104]
صدق الله العلي العظيم
في حديثنا حول الحركة الحسينية، نتناول ثلاثة محاور:
المحور الأول: مبررات دراسة الحركة الحسينية.
ما هي المبررات لدراسة الحركة الحسينية؟ في الوسط الشيعي يوجد اتجاهان: اتجاهٌ يرفض دراسة الحركة الحسينية، واتجاهٌ يرى أنّ من اللازم دراسة الحركة.
الاتجاه الأول: الاتجاه الرافض.
الاتجاه الذي يرفض دراسة الحركة الحسينية يقول: نحن لسنا معنيين بدراسة الحركة، وليس من شأننا أن ندرس مبرّراتها أو أن نعيّن أهدافها، لماذا؟ لأحد أسباب ثلاثة:
السبب الأول: أنّ تكليف الإمام الحسين بالحركة كان تكليفًا شخصيًا يخصّ الحسين، فلأنه تكليفٌ شخصيٌّ نحن لا نفقه واقعه، ولا نستطيع أن نحدّد سماته، فلسنا معنيين بالبحث عن حركة الحسين ما دام التكليف لا يعنينا، لأنه كان تكليفًا شخصيًا بالإمام الحسين نفسه. وربما يستشهد على ذلك بقول الحسين : ”أمرني رسول الله بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه“، يعني هذا شيء يخصني وأنا ماضٍ فيه.
السبب الثاني: لنفترض أن التكليف الذي خوطب به الحسين تكليف عام، يشمل المسلمين في كل مكان ولا يختص بالحسين ، ولكن تشخيص شروط هذا التكليف وتحديد الظروف الموضوعية لتطبيق هذا التكليف يختصّ بالإمام المعصوم، الإمام المعصوم هو الأعرف بتشخيص الشروط وتحديد الظروف، فلماذا نشغل أنفسنا ببحثٍ حول تكليف لا نستطيع أن نحدد شروطه أو أن نشخّص ظروفه؟!
السبب الثالث: أن الأئمة من أهل البيت بعد مقتل الحسين لم يتعرضوا لشرح أهداف ثورة الحسين ولا لبيان مبررات حركة الحسين، وإنما صار اهتمامهم بربط المجتمع الإسلامي بالحسين ربطًا شعائريًا من خلال الزيارات والطقوس أو ربطًا عاطفيًا من خلال البكاء والندبة والرثاء، فإذا لم يتصدَّ الأئمة – وهم الأعرف بحركة الحسين – لشرح الحركة وتحديد مبرراتها وبيان أهدافها فلماذا نحن نتجشم بحثًا لم يتطرق له الأئمة، ولم يولوه أهمية رغم كثرة رواياتهم وأحاديثهم؟! إذن هذا الاتجاه في الوسط الشيعي يرفض دراسة الحركة الحسينية، يعتبرها حركة غيبية لا معنى لدراستها.
الاتجاه الثاني: الاتجاه المؤيد.
هذا الاتجاه يرى من الضرورة دراسة الحركة الحسينية، وتسليط الضوء على الحركة، معرفة أهدافها ومبرراتها، تحديد شروطها وظروفها، هذا من الضروري، لماذا؟ لأحد أسباب ثلاثة:
السبب الأول: إنَّ تكليف الحسين بالحركة لم يكن تكليفًا خاصًا مشخّصًا بالحسين، بل كان تكليفًا عامًا، تكليف الحسين بالخروج ورفض البيعة تكليف عام، ولم يكن تكليفًا خاصًا ولا تكليفًا شخصيًا غيبيًا، لأن الحسين نفسه شرح التكليف، الحسين نفسه من خلال خطاباته أوضح أنه ينطلق من تكليف عام لا من تكليف خاص، حيث قال: ”ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر“، هذا تكليف عام، كل الأمة مسؤولة عن الإصلاح، فالحسين انطلق من المنطلقات القرآنية، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 104]، وأما تشخيص شروط هذا التكليف أو تحديد ظروفه الموضوعية فباستطاعة المسلمين في كل زمان كما يشخصون تكاليفهم الأخرى يشخصون هذا التكليف، كما أن المسلمين قادرون من خلال ما يعبَّر عنه في الفقه بالإحراز التعبدي، قادرون عبر أمارات ودلائل وطرق أن يشخصوا الشروط ويحدّدوا الظروف وتبعًا لذلك يجرون ويأتمرون وراء هذا التكليف، إذن أي مشكلة في البين في شرح أهداف حركة الحسين .
السبب الثاني: معرفة حركة الحسين هي عبارة عن معرفة مقام من مقامات الإمام المعصوم، كل إمامي مطلوبٌ بأن يتعرف على مقامات الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، ومن مقامات الإمام حركته، فإن حركته إحدى مقاماته، مثلًا: عندما نأتي للشهادة، توّج الحسين حركته بالشهادة، الشهادة مقام من المقامات العظيمة، الشهادة قرب من الله، فناء في الله، اتصال ملكوتي بالله، هذا مقام من مقامات الإمام المعصوم.
نفس حركة الحسين هي حركة هداية، حركة الحسين حركة هداية، وحركة الهداية مظهرٌ من مظاهر الهداية الإلهية، ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ [السجدة: 24]، إذن عندما نتعرف على أسرار حركة الحسين وأهدافها فإننا بذلك نتعرف على مقام من مقامات الإمام المعصوم ، كما نتعرف على الإمام علي من خلال حكومته وعدالته، نتعرف على النبي المصطفى من خلال حروبه وإدارته الحكيمة، نتعرف على مقامات الحسين من خلال قراءة حركته ودراسة مشروعه الذي انتهجه .
وشرح هذه الأهداف والمبررات هو مصداق من مصاديق إحياء أمر آل محمد ، ”يا فضيل، أتجلسون وتتحدثون؟ قلت: بلى، قال: إني أحب تلك المجالس، فأحيوا فيها أمرنا، من جلس مجلسًا يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب“، شرح مبررات ثورة الحسين، شرح أهداف حركة الحسين هو في نفسه إحياءٌ لأمر آل محمد.
السبب الثالث: عندنا مصطلحان: سنن اجتماعية وسنن إلهية، السنن الاجتماعية مصطلح في علم الاجتماع، كل مجتمع يخضع لنفس السنن، حركة التاريخ تخضع لسنن ثابتة تتكرر في كل زمن وفي كل مجتمع، مثلًا القرآن الكريم عندما يقول: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112]، القرآن لا يتحدث عن قضية تاريخية، بل يتحدث عن سنة، كل مجتمع عنده ثروة سواء ثروة نفطية أو زراعية أو صناعية، كل مجتمع يمتلك ثروة ولا يقوم بتوزيع الثروة توزيعًا عادلًا مصيره الانهيار الاقتصادي شاء أم أبى، هذه سنة من السنن الاجتماعية التي تحكم مسيرة التاريخ.
كما أن هناك سننًا اجتماعية تحكم مسيرة التاريخ، هناك سنن إلهية تحكم مسيرة الدين، الدين يمشي في ضوء سنن إلهية، أضرب لك مثالًا: عندما نقرأ مجموعة آيات ماذا نستوحي منها؟ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [الحديد: 26]، نأتي إلى آية أخرى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران: 33 – 34]، وعندما نقرأ قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124]، ونقرأ قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: 129]، هذا المجموع ماذا نستفيد منه؟
نفهم منه أن النبوة والإمامة كلها في عائلة واحدة، كلها أسرة واحدة، أسرة واحدة جمعت الأنبياء والأوصياء والأولياء، أسرة واحدة انحدرت من نوح إلى إبراهيم إلى محمد ، هذه سنة إلهية، شاء الله أن تكون سلسلة الأنبياء والأئمة من أسرة واحدة، من أعراق واحدة، لكي تؤثر العوامل الوراثية أثرها، لكي تتناقل الكتب والمعلومات والتجارب من خلال هذه الأسرة، من خلال هذا الامتداد النسبي، ولذلك أنت تقرأ في زيارة الحسين : ”أشهد أنك كنت نورًا في الأصلاب الشامخة“ أنت من إبراهيم ”في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها“، وتقول في زيارة الحسين: ”السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوح نبي الله، السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله“، إذن من السنن الإلهية التي حكمت مسيرة الدين أن جعل المسيرة في قادة من أسرة واحدة، هذه سنة إلهية.
لذلك، التعرف على حركة الحسين هو عبارة عن استكشاف سنن إلهية، لأننا عندما نتعرف على حركة الحسين ونقوم بمقارنتها مع حركة الإمام علي ومع حركة النبي نستكشف سننًا إلهية مشتركة بين الحركات الثلاث، خضعت لهذه السنن مسيرة الدين ومسيرة الإسلام، إذن لا بد من التعرف على حركة الحسين ومعرفة مبرّراتها وأهدافها.
المحور الثاني: أبعاد الحركة الحسينية وتعدّد القراءات.
إنّ حركة الحسين حركة تاريخية ملفتة للنظر فمن الطبيعي أن تقتضي قراءات متعددة من مسلمين وغيرهم، كثير من الأقلام المسيحية قرأت ثورة الحسين وحللتها ووضعت لها أبعادًا وعوامل ومبرّرات، إذن هناك تعدّدٌ في القراءات لحركة الحسين ، نحن نصنّف هذه القراءات إلى صنفين: قراءة بشرية، وقراءة مدرسية.
الصنف الأول: القراءة البشرية.
هي القراءة التي لا تنطلق من الإمامة والعصمة، هناك أقلام غربية كتبت عن الحسين وهي لا تعترف بأن الحسين إمام معصوم مفترض الطاعة، فهي تقوم بقراءة حركته انطلاقًا من مقاييس إنسانية بحتية، لا من مقاييس دينية ككونه إمامًا أو كونه معصومًا أو كونه مقدسًا، بل هي منطلقات بشرية محضة، هذه القراءة البشرية أهمّها ثلاث نظريات:
النظرية الأولى: المطالبة بالسلطة.
وهي التي ذهب إليها كثير من الباحثين من إخواننا أهل السنة، أن حركة الحسين تتلخص في المطالبة بالسلطة، الحسين خرج مطالبًا بالسلطة عبر أهل الكوفة الذين كتبوا له الرسائل العديدة يطالبون بأن يحقّق لهم هذا الأمل وهو إعادة السلطة للبيت العلوي وانتزاعها من البيت الأموي، الحسين خرج مطالبًا بالسلطة، وليس عيبًا في الحسين أن يطالب بذلك، الحسين لم يذنب ولم يرتكب جريمة عندما طالب بالسلطة، الحسين من حقّه المطالبة بالسلطة، لأن وثيقة الصلح تنصّ على ذلك، وثيقة الصلح بإجماع المؤرخين سنة وشيعة، وثيقة الصلح التي أبرمت بين الخليفة الشرعي في زمانه، وهو الإمام الحسن الزكي ، خليفة شرعي بويع من قبل المسلمين، جرت وثيقة الصلح بين الخليفة الشرعي – وهو الحسن بن علي – وبين معاوية، وكان من بنود الصلح: إن حدث بمعاوية حدث يعود الحكم إلى الحسن بن علي، فإن حدث بالحسن حدث يعود الحكم للحسين بن علي، وثيقة الصلح نصّت على ذلك، فإذا كان خروج الحسين مطالبة بالسلطة إذن خرج انطلاقًا من وثيقة الصلح، فلم يكن خروجه تمرّدًا ولا فتنة ولا عدوانًا، وإنما خرج انطلاقًا من وثيقة شرعية، وهي وثيقة الصلح التي أبرمت بين الخليفة الشرعي – الإمام الحسن بن علي – ومعاوية بن أبي سفيان.
النظرية الثانية: صرخة في وجه الظلم.
إن حركة الحسين صرخة في وجه الظلم، لا هي مطالبة بالسلطة ولا هي ثورة، مجموعة من الأقلام المسيحية تبّنت هذه القراءة، الحسين صرخة في وجه الظالمين، ليس مطالبة بالسلطة، لماذا؟ افترض أن الحسين ليس إمامًا ولا معصومًا وليس عنده علم بالمغيبات، لنفترضه إنسانًا عاديًا، أي إنسان يمتلك نصيبًا من الحكمة لن يطالب بالسلطة آنذاك، لثلاثة عوامل: العامل المادي والعامل العسكري والعامل الاجتماعي، كل هذه العوامل لا تخدم الحسين في مطالبته بالسلطة.
العامل الأول: العامل المادي.
بعض الناس يظنون أن الحسين عنده أموال! لا، عندما نرجع للمؤرخين نجدهم يقولون: معاوية أفقر الحسين، يعني جرّده من كل الروافد المالية، استطاع معاوية في عصره أن يسدّ كل الروافد أمام الحسين، بحيث لا يجد مجالًا لتحصيل المال، أفقر الحسين بعبارة صريحة، يعني الحسين ليس عنده مدد مالي أبدًا، مع أن الحسين في ذلك الوقت شيخ بني هاشم، ومتحمل مؤونة العائلة الهاشمية ومتحمل مؤونة الأيتام والفقراء، لكن معاوية أفقره حتى يجعله لا يقوى على أي معارضة ولا أي حركة ولا أي مواجهة، لأن أي حركة تحتاج إلى مال، الحسين لا يملك مالًا، العامل المادي مفقود عند الحسين، وهذا عامل مهم للمطالبة بالسلطة.
العامل الثاني: العامل العسكري.
الجيش الأموي جيش معبَّأ بالسلاح وآلاف تخضع تحت قيادة هذا الجيش، وكان جيشًا عقائديًا مستعدًا للتضحية في سبيل الحكم الأموي، الحسين ما كان يملك جيشًا يستطيع مقاومة الجيش الأموي به أبدًا، فهذا العامل العسكري أيضًا غير موجود عند الحسين.
العامل الثالث: العامل الاجتماعي.
الحسين ريحانة رسول الله، ابن بنت رسول الله، لكن الإمام زين العابدين يقول: ما بمكة والمدينة محبٌّ لنا أهل البيت، لا توجد أرضية اجتماعية، أرضية يتكئ عليها الحسين في المطالبة بالسلطة غير موجودة، العامل الاجتماعي مفقود، الحزب الأموي استشرى وهيمن على مقاليد الأمور في الحجاز والعراق، واشترى الناس بأمواله ورشواته وهداياه. إذن، مع هذه الهيمنة والقبضة الحديدية على مقاليد الأمور، لم تكن هناك أرضية اجتماعية مهيَّأة يتكئ عليها الحسين في المطالبة بالسلطة. ولأجل ذلك، لا يمكن… الحسين إنسان عاقل يمتلك حكمة، لا يمكن لأي إنسان عاقل أن تكون حركته مطالبة بالسلطة مع أن عوامل المطالبة كلها مفقودة، إذن ليست مطالبة بالسلطة.
والحركة ليست ثورة، لأن الثورة – بحسب الاصطلاح في علم التاريخ – حركة لديها التفاف جماهيري، الحركة إذا لديها التفاف جماهيري عريض تسمّى ثورة، حركة الحسين ما كان لديها التفاف جماهيري، كان هناك تعاطف وليس التفافًا، الحسين عندما سأل الفرزدق: كيف تركت الناس خلفك؟ قال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك، يعني لا يوجد التفاف جماهيري، بل يوجد تعاطف جماهيري، إذن حركة الحسين لم تكن محاطة بالتفاف جماهيري كي تسمّى ثورة، إذن هي ما هو واقعها؟ واقعها صرخة، أراد الحسين أن يسطر وجه الظلام بشعلة نور، أمام ذلك الظلم المخيّم أراد الحسين أن يصرخ صرخة في وجه الظلم، فرفض بيعة يزيد بن معاوية، وقال: ”لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد“، وقال: ”مثلي لا يبايع مثله“.
النظرية الثالثة: الثورة التدريجية.
وهي أن حركة الحسين ثورة وليست مجرد صرخة، لأن الثورة على قسمين: هناك ثورة دفعية وهناك ثورة تدريجية، الثورة الدفعية هي التي تنهض في وقت واحد، ثورة المختار مثلًا على بني أمية ثورة دفعية، ثورة أهل المدينة على يزيد بن معاوية في واقعة الحرة، هذه ثورة دفعية، لكن هناك ثورات تأخذ سنين طويلة حتى تنتج فتسمى ثورة تدريجية، حركة النبي المصطفى ثورة تدريجية، الرسول مدة 23 سنة بدأت من مكة وانتهت بفتح مكة، هي ثورة لكنها ثورة تدريجية.
أيضًا الحسين لا يمكن أن نحصر ثورته في يوم كربلاء، في ساعات واجه بها الجيش الأموي، لا، ثورة الحسين بدأت عندما قال: ”ومثلي لا يبايع مثله“، ولكنها امتدت بعد مقتل الحسين، قُتِل الحسين فثار أهل المدينة، وبعد ثورة أهل المدينة ثار التوّابون في الكوفة، وبعد ثورة التوّابين ثار المختار في الكوفة، وبعد ثورة المختار ثار زيد بن علي في الكوفة، وبعد ثورة زيد بن علي ثار الحسين بن علي صاحب معرفة فخ، بعد ثورته ثار الحسنيون، امتدت الحركات منذ يوم الحسين إلى أن سقط الحكم الأموي، إذن هي كانت ثورة ولكنها ثورة تدريجية، حركات متتابعة افتتحها الحسين بن علي بأول يوم رفض فيه بيعة يزيد بن معاوية. هذه ثلاث نظريات ضمن القراءة الإنسانية البشرية.
الصنف الثانية: القراءة المدرسية.
وهي منطلقة من كون الحسين إمامًا، الحسين إمامٌ معصومٌ مفترض الطاعة، كل الدراسات الشيعية الإمامية لحركة الحسين تدخل تحت القراءة المدرسية لأنها انطلقت من مدرسة الإمامة والعصمة، ولذلك تسمّى قراءة مدرسية، والقراءة المدرسية تبحث عدّة نظريات وعدّة اتجاهات في تحليل الحركة الحسينية، وهذا ما نتناوله في المحور الأخير.
المحور الثالث: تنوّع الاتجاهات في تحليل أهداف الحركة الحسينية.
وهذه الاتجاهات التي نتعرض لها هنا كلها مدرسية، كلها ضمن الدراسات الإمامية.
الاتجاه الأول: أن حركة الحسين تكليفٌ شخصيٌّ.
بمعنى أنه تكليف خوطب به الحسين، وهذا التكليف لا يقبل الاقتداء به، انتهى مع الحسين، وهذا الاتجاه يستند إلى مجموعة من الروايات، منها: ما عن الإمام الصادق : ”فلما توفي الحسن ومضى فتح الحسين الخاتم الثالث“، لكل إمام خاتم، الإمام علي له خاتم، الإمام الحسن الخاتم الثاني، الإمام الحسين الخاتم الثالث، ”فتح الحسين الخاتم الثالث فوجد فيه أن قاتِل فاقتل تُقْتَل، واخرج بأقوام للشهادة لا شهادة لهم إلا معك“، تكليف للحسين أن يخرج ويقاتل.
الرواية الأخرى: رواية حريز: قلت لأبي عبد الله الصادق : جعلت فداك، ما أقلّ بقاءكم أهل البيت وأقرب آجالكم بعضها من بعض، مع حاجة الناس إليكم. فقال: ”إنّ لكل واحد منا صحيفة، فيها ما يحتاج إليه أن يعمل به في مدته، فإذا انقضى ما فيها مما أمر به عرف أن أجله قد حضر، فأتاه النبي ينعى إليه نفسه، وأخبره بما له عند الله، وإن الحسين قرأ صحيفته التي أعطيها وفُسِّر له ما يأتي فخرج للقتال“، كل إمام له صحيفة، الإمام الحسين قرأ صحيفته فعرف أنه مأمور بالخروج فخرج.
هذا الاتجاه يتبناه الشيخ المجلسي صاحب البحار ويقول: عدم التفكير في هذه المسألة – وهي مسألة حركة الحسين – أحوط وأولى، لا تفكر فيها، غضّ النظر عنها. وذكر صاحب الجواهر رحمه الله: «له تكليف خاص قد قدم عليه وبادر إلى إجابته». هذا الاتجاه عندنا عليه ملاحظتان:
الملاحظة الأولى: كل الروايات التي ذُكِرَت تدلّ على أنّ الحسين مكلّف بالخروج، لكنها لا تدل على أنه تكليف خاص يختصّ بالحسين دون غيره، لكل إمام صحيفة، ولكل إمام تكليف، فللحسين كان له صحيفة وكان له تكليف، أما أنّ ذلك التكليف كان تكليفًا شخصيًا لا يتكرر ولا يقبل الاقتداء فلا دلالة في هذه الروايات على ذلك، ولذلك نقول: لا ملازمة بين كون الحسين مكلفًا وبين عدم كون تكليفه قاعدة عامة يقتدى بها، إذا توفّرت شروطها وتمّت ظروفها.
الملاحظة الثانية: افترض أنه تكليف خاص، هذا لا يعني أننا لا نستطيع أن نعرف حكمته، فليكن تكليفًا خاصًا، هل كل تكليف خاص لا يمكن معرفة حكمته وأهدافه وأسراره؟! ممكن، النبي الأعظم كانت له أحكام خاصة، النبي واجب عليه أن يصلي عليه صلاة الليل، نحن تستحب في حقنا صلاة الليل، أما النبي يجب عليه صلاة الليل، حكم خاص في حق النبي، النبي من أحكامه الخاصة أن له أن يتزوج أكثر من أربع زوجات، لكن هذا لا يعني أننا لا نعرف حكمة هذا التكليف، حكمته نشر رحمته وكفالة الأرمال والأيتام، أكثر زوجات النبي أرامل ومعهم أيتامهم وأطفالهم، النبي له حكم خاص أن يتزوج أكثر من زوجة، أما السر في هذا الحكم الخاص واضح وليس خفيًا، فكون تكليف الحسين تكليفًا خاصًا لا يعني أنه تكليف غامض غيبي لا يمكن معرفة حكمته وأسراره.
الاتجاه الثاني: الحسين شهيد الفداء.
وهذا الاتجاه ذكره الشيخ النراقي في محرق القلوب ص4، ما معنى هذا الاتجاه؟ معنى هذا الاتجاه أن الحسين مستجاب الدعوة، ولو دعا على القوم الذين حاربوه لأهلكهم، ولكنه شاء أن يموت شهيدًا، لكي يكون مصرعه وسيلة للبكاء عليه، ويكون البكاء عليه وسيلة لغفران الذنوب ونيل الشفاعة، فالحسين هدفه من حركته أن ينال شيعته الشفاعة ببركة البكاء عليه والحزن عليه. الشيخ النراقي قال: لقد رضي الحسين بالشهادة من أجل بلوغ مقام الشفاعة الكبرى، وبه استخلاص جميع الموالين، ولم يمكن بلوغ هذه المرتبة بدون قتله، لأن تطهير الأمة من المعاصي متوقف على إراقة دمه وتألمه.
وعندنا على هذا الاتجاه ملاحظتان:
الملاحظة الأولى: لا إشكال في أنّ إقامة الشعائر فيها اقتضاء لغفران الذنوب ونيل الشفاعة، لكن هذا لا يختص بالحسين، بل كل الأئمة إحياء مصائبهم سببٌ لغفران الذنوب واستحقاق الشفاعة، ورد عن الإمام الرضا : ”من ذكر مصابنا وبكى لمن ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن جلس مجلسًا يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب“، نحن نبحث عن هدف لثورة الحسين، أما هذا فهو مشترك بين جميع الأئمة، كل الأئمة إحياء مصائبهم فيه اقتضاءٌ لغفران الذنوب ولنيل الشفاعة.
الملاحظة الثانية: هناك فرقٌ بين الأثر والهدف، عندما قُتِل الحسين أصبح يوم عاشوراء يومًا مقدسًا، دعك من الروايات التي تقول إن يوم عاشوراء هو يوم أنجى الله فيه موسى بن عمران من الغرق! ويوم أنجى فيه إبراهيم من نار نمرود! هذه العقل لا يصدّقها، لأنه أساسًا قبل بعثة النبي لم يكن هناك تاريخ هجري، التاريخ الهجري صار بعد وفاة النبي أصلًا، في زمن الخليفة عمر بن الخطاب صار التاريخ الهجري، واختلفوا هل نجعل بداية التاريخ ميلاد النبي أم هجرته؟ اتفقوا على الهجرة وصار التاريخ الهجري، قبله لا يوجد تاريخ هجري، وكان التاريخ في زمن موسى وعيسى تاريخًا عبريًا، وما كان هذا المصطلح أصلًا موجودًا، وهو كلمة عاشوراء، اقرأ التوراة، اقرأ التلموذ، اقرأ الأناجيل، لا يوجد فيها كلمة اسمها عاشوراء، فمن أين جاءت قضية أن يوم عاشوراء يوم أنجى الله فيه موسى وأنجى فيه إبراهيم… إلخ؟! عاشوراء يوم من التاريخ الهجري، ولم يكن للتاريخ الهجري وجود قبل النبي ، والتاريخ العبري ليس لمصطلح عاشوراء فيه عينٌ ولا أثرٌ.
إذن، يوم عاشوراء قبل مقتل الحسين كان يومًا عاديًا مثله مثل بقية الأيام، فلما قُتِل الحسين أصبح اليوم يومًا عظيمًا، يستحب فيه زيارة الحسين، وينبغي للشيعة أن يعرضوا عن الطعام والشراب لما بعد العصر مواساةً لأطفال الحسين ، هذا يسمّى أثرًا وليس هدفًا، لم يكن هدف الحسين أن يكون يوم عاشوراء يومًا عظيمًا، لكن لما قُتِل أصبح يوم عاشوراء يومًا عظيمًا، هذا أثر لمقتله وليس هدفًا لحركته. كذلك البكاء عليه والحزن عليه الذي هو سببٌ لغفران الذنوب وسببٌ لنيل الشفاعة أثرٌ من آثار مظلوميته وليس هدفًا لحركته.
الاتجاه الثالث: إحياء الدين.
وهو ما ذكره السيد هبة الله الشهرستاني في كتابه «نهضة الحسين»، قال: الهدف هو إحياء الدين، الحسين مقتول على كل حال بايع أم لم يبايع، كان يشكّل خطرًا، الإمام الحسن سلّم الحكم لمعاوية ومع ذلك لم ينجُ، بل قُتِل بالسم، كذلك الحسين مقتول مقتول على كل حال، بايع أو لم يبايع هو مقتول على كل حال، فأراد الحسين ألا يكون قتله بدم بارد، أراد الحسين أن يكون قتله مقترنًا برفض بيعة يزيد بن معاوية، مقترنًا بموقف بطولي، مقترنًا بصرخة لا يتنازل عنها، حتى يكون في قتله إحياء للدين، حتى يكون في قتله صوتٌ للإسلام، حتى يكون في قتله من ينادي يا للمسلمين، فالحسين أراد أن يكون قتله إحياءً للدين، فقرن مقتله برفض بيعة يزيد بن معاوية. وهذا المعنى موجود، عندما تسمع رجز العباس :
والله إن قطعتم يميني | إني أحامي أبدًا عن ديني |
نحن خارجون للدفاع عن الدين. إذا نقرأ كلمات سيدنا الخوئي «قدس سره» في كتابه «التنقيح، ج4، ص257» يشير إلى هذا الاتجاه، يقول: التقية واجبة لكن قد يكون في التقية اضمحلالٌ للدين واندراسٌ للحق، فحينئذ يتوجب ترك التقية من أجل إحياء الدين وإماتة الباطل، ولعل من هنا أقدم الحسين على رفض بيعة يزيد، لأن في العمل بالتقية مفسدة أعظم من مفسدة قتله، حيث في خروجه إحياء للدين.
الاتجاه الرابع: نيل الشهادة.
وهو أن يكون هدف الحسين الشهادة، هو يريد أن يصل إلى الشهادة، هدف الحسين من خروجه هو الشهادة، إما لأن في الشهادة مقامًا ملكوتيًا قدسيًا، كما عبّرت بعض الروايات أن الحسين قال: ”قال لي رسول الله : إنّ لك لدرجة في الجنة لا تنالها إلا بالشهادة“، فأنا الشهادة هي هدفي، طلبي هو الشهادة. أو لما يعبر عنه… هناك كتاب في المجتمع الإيراني «شهيد جاويد»، هذا الكتاب للصالحي نجف آبادي، يقول: هدف الحسين من حركته أن تكون له شهادة أسطورية، ومعنى أن تكون له شهادة أسطورية يعني شهادة فوق الزمن وفوق المكان، بحيث يصبح الحسين رمزًا للثائرين في كل الأمم وفي كل المجتمعات، ويصبح الحسين منارًا للمواجهين للظلم على مدى الزمن، هدف الحسين أن يتحول إلى أسطورة، أن يتحول إلى الرمز الأول، الشهيد الأول على مستوى الإنسانية.
نحن هذا الاتجاه عندنا عليه ملاحظات، الشهادة في حد ذاتها ليست هدفًا، الشهادة وسيلة وليس هدفًا، الشهادة طريق وليست هدفًا في حد ذاته.
أولًا: هذا الاتجاه لا يدعمه نصٌّ من النصوص، ليس عندنا دليل من روايات أهل البيت أو من خطب الإمام الحسين تدعم هذا الاتجاه.
ثانيًا: الحسين إمام، والإمام وجه الله في الأرض، الإمام مرآة لله في الأرض، ”السلام على محال معرفة الله ومساكن بركة الله ومعادن حكمة الله وحفظة سر الله“، الإمام وجه الله، فبما أن الإمام وجه الله لا يمكن أن يكون للإمام هدف إلا في إطار الانتصار لله والانتصار لدين الله والانتصار لأهداف السماء، لا أن يكون الإمام هدفه هدفًا بشريًا، أن يكون رمزًا للثائرين، وأن تكون له شهادة أسطورية تتحدى الزمن والمكان، الحسين وجه الله فهدفه الانتصار لله تبارك وتعالى، كما قالت السيدة زينب : ”اللهم تقبّل منا هذا القربان“.
الاتجاه الخامس: الاستجابة لأهل الكوفة ثم الشهادة.
ما ذكره جمعٌ من علماء الإمامية – منهم الشيخ الطوسي والشيخ المفيد في المسائل العكبرية ص69 – أن حركة الحسين تتلخص في مرحلتين: المرحلة الأولى: الاستجابة لطلب أهل الكوفة، حيث دعاه أهل الكوفة وكتبوا له الرسائل العديدة، والحسين يوم عاشوراء ذكر ذلك، وقال: ”إني لم آتكم حتى أتت إليّ كتبكم“، وقال: ”ألم تكتبوا لي أن أقبل إلينا فلقد اخضر الجناب وأينعت الثمار“، وقال: ”فإني كرهتم مقدمي عليكم دعوني أنصرف إلى مأمني من الأرض“، إذن هناك رسائل وصلت إلى الحسين وخرج الحسين استجابةً لأهل الكوفة، لأنه لو لم يخرج لاحتج عليه أهل الكوفة وقالوا: ليس لك حجة، بعثنا إليك الرسائل وأعددنا الأنصار وهيّأنا لك الأرضية وأنت لم تستجب لنا، فأنت لستَ معذورًا أمام الله لأنك لم تستجب لشيعتك ومواليك، فأراد الحسين أن يقيم الحجّة عليهم فأقبل إليهم من الحجاز لإقامة الحجة عليهم، هذه المرحلة الأولى.
المرحلة الثانية: اكتشف الحسين أن أهل الكوفة ليسوا معه، فواجه الموت، أي تلقى الشهادة، اختلف الآن الهدف، كان الهدف الاستجابة لأهل الكوفة، بعد أن تبيّن غدرهم ونقضهم للمواثيق أصبح هدف الحسين الإقبال على الشهادة بشهامة وطلب لرضا الله تبارك وتعالى.
هذا الاتجاه أيضًا عليه ملاحظات:
الملاحظة الأولى: الحسين ليس شخصًا بسيطًا! أي شخص يمتلك مقدارًا من الحنكة والعقلانية لا يسلّم نفسه لأهل الكوفة، أهل الكوفة أثبتوا بعدّة إثباتات تاريخية أنهم ليسوا أهل ميثاق، ليسوا أهل عهد، ليسوا أهل ثبات، طبعًا لا نقصد أهل الكوفة في زماننا! بل نقصد أهل الكوفة في ذلك الزمان، غدروا بالإمام علي ، وغدروا بالإمام الحسن الزكي ، فكانت معالم الغدر ونقض العهد واضحة لدى الحسين ، وجاءه خبر مقتل مسلم بن عقيل قبل أن يصل إلى الكوفة، ومع ذلك واصل المسير، إذن مقتضى المعطيات التاريخية لكل عاقل ألا يكون هدفه الاستجابة إلى أهل الكوفة، لأن هذا يتنافى مع المعطيات التاريخية التي يقتنصها ويتكئ عليها أي عاقل يقرأ الظروف آنذاك.
الملاحظة الثانية: فرقٌ بين مكان الحركة وأصل الحركة، أصل الحركة بدأ من المدينة عندما قال الحسين: ”يزيد رجل فاسق شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله“، هذا أصل الحركة، أما من أين ينطلق؟ هذا يسمى تحديد مكان الحركة، الحسين سيتحرك على كل حال، كتب إليه أهل الكوفة أو لم يكتبوا، سيرفض بيعة يزيد على كل حال، كتب إليه أهل الكوفة أو لم يكتبوا، أصل الحركة لا علاقة لها برسائل أهل الكوفة، وإنما رسائل أهل الكوفة حدّدت مكان الحركة لا أصل الحركة، إنما اختار الحسين العراق مكانًا لحركته بعد رسائل أهل الكوفة، فالرسائل حدّدت مكان الحركة وليست هدفًا لنفس الحركة.
الملاحظة الثالثة: الحسين يعلم بمقتله، كل الأخبار واضحة، واضحة أمام الحسين منذ أن كان في المدينة، الإمام أحمد بن حنبل في مسنده يروي عن الرسول : ”دخل ملكٌ البيت لم يدخل عليّ قبلها وقال: إنّ ابنك هذا – أعني حسينًا – مقتول، وإن شئت أرأيتك من تربة الأرض التي يُقْتَل بها“، وقال الحسين نفسه: ”والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي“، وقال الحسين: ”لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم، والله ليعتدن عليّ كما اعتدى اليهود في السبت“، وكما كان يعلم الحسين بمقتله كان مسلم يعلم بأنه سيقتَل على كل حال، الحسين أخبره حين خروجه، لما أرسل مسلمًا إلى الكوفة قال له: ”وسيقضي الله من أمرك ما يحب ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء“، فمن كان يعلم بمقتله كيف يستجيب أهل الكوفة وهو عالم بأنه سيُقتَل على كل حال ذهب إلى الكوفة أو لم يذهب؟! فهذا الاتجاه أيضًا محل مناقشة.
الاتجاه السادس: الأهداف المتوازية.
حركة الحسين مجمع الأهداف المتوازية، الحسين جمع بين عدة أهداف في إطار واحد وفي مسار واحد.
الهدف الأول: حفظ منصب الإمامة عن الإذلال.
الحسين يمثّل الإمامة، والإمامة أسمى منصب في الإسلام بعد منصب النبوة، وبيعة يزيد بن معاوية إذلالٌ لمنصب الإمامة، وإذلال منصب الإمامة إذلالٌ للدين، فحفظًا للدين عن الإذلال وحفظًا لمنصب الإمامة عن الإذلال رفض بيعة يزيد بن معاوية، هذا الهدف الأول الذي حققه، بمجرد أن رفض بيعة يزيد بن معاوية رفع الشرعية عن حكم يزيد، وبمجرد أن رفض بيعة يزيد بن معاوية انكشف للأمة آنذاك أن العزة في رفض بيعة يزيد بن معاوية، فقال: ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وجذور طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبية أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام“.
الهدف الثاني: تحرير إرادة الأمة.
الأمة بعد مقتل الإمام علي تخدرت إرادتها، ومات ضميرها، وأصبح كل الناس يسعى نحو المال ولقمة العيش وطلب المقام عند الحكام الأمويين، أصبح الناس مشغولين بالأموال والرشوات والمقامات والمناصب، ماتت الإرادة وتخدر ضمير الأمة وأصبحت الأمة جثة هامدة لا نبض فيها ولا حراك، فأراد الحسين أن يهزّ ضمير الأمة ويحرّك إرادتها ويبعث فيها الغيرة والحمية من جديد، ويحرّك غليان دمها، فكان الطريق إلى تحريك إرادة الأمة تضحيته بدمه، لأنه أغلى دم على الأرض آنذاك، فإذا سُفِك دمه تحركت الإرادة وانبعث الضمير، وهذا ما حصل، كل الحركات جاءت بعد مقتل الحسين نتيجة تضحية الحسين بن علي . وهذا ما عبّر عنه الحسين بقوله: ”ألا ترون إلى الحق لا يُعْمَل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه، ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برمًا“.
الهدف الثالث: هدف الإصلاح.
”ما خرجت أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر“، حركة الحسين التي تعني رفض بيعة يزيد هي في حد ذاتها إصلاحٌ للأمة، لأن فيها تنبيهًا للأمة أن تمارس دورها، وذلك بتسليم القيادة إلى أهلها من آل بيت محمد ، وكان للحسين أهدافه، حقّق الحسين أهدافه من خلال حركته المباركة، وترتّبت الآثار العظيمة على تلك الحركة المباركة، وكان من أعظم آثارها أن أصبح قبره قبلة للزوار، وملاذًا للمؤمنين، ومهبطًا للملائكة المقرّبين.
موقع السيد منير الخباز
اترك تعليقاً