|
تعريف: | ذكرى شهادة الإمام الرضا عليه السلام |
المكان: | حسينية السنان | القطيف |
المصدر: | موقع السيد منير الخباز |
https://youtu.be/11T1W2QIe1U
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]
صدق الله العلي العظيم
الصدق هو عبارة عن تطابق القول والسلوك والمعتقد، فمن طابق قولُه فعلَه وطابق فعلُه معتقدَه فهو الشخصية الصادقة، فهو لا يقول إلا ما يفعل، ولا يفعل إلا ما يعتقد، وبذلك فهو يعيش الصدق في كلّ زاوياه وأنحائه، لذلك نرى القرآن الكريم عندما يعرّف الشخصية الصادقة يقول: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]، الصدق مجموعة عناصر، ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾، الصدق ليس مسألة شكلية طقسية حتى أتجه للمشرق أو المغرب، الصدق ليس شكلًا ولا طقسًا، العنصر الأول: الإيمان، ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ، العنصر الثاني: العطاء والبذل ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾، والعنصر الثالث: العبادة ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾، والعنصر الرابع: المبدأ والالتزام ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾، والعنصر الخامس: الصبر ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾.
الصدق على نوعين: صدق ظاهري وصدق واقعي، الصدق الظاهري أن تكون صادقًا في تعاملك مع الناس، لا يرى منك الناس إلا الصفحة البيضاء، حيث إن تعاملك معهم خال من الكذب والغش والنفاق، كما ورد عن الرسول : ”بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه شاهدًا ويأكله غائبًا“، عندما تتعامل مع الناس بوجه واحد فأنت تمتلك الصدق الظاهري، وأما الصدق الواقعي فهو أن تكون صادقًا مع نفسك حتى لو لم يكن هناك مجتمع، هل أنت صادق مع نفسك؟ هل عملك لله؟ ربما تعمل أشياء كثيرة أمام الناس بهدف الشهرة والتفوق والبروز، المهم عملك بينك وبين الله، هذا هو الصدق الواقعي، هل عملك لله؟ ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 79]، إذا كنت صادقًا في السر بينك وبين الله بأن يكون عملك لله فهذا هو الصدق الواقعي، ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ [القيامة: 14 – 15].
الصدق درجات: أولها صدق القول، وأعلاها درجة العصمة، فإن العصمة هي أعلى درجات الصدق، ومن هنا ننطلق في الحديث حول محورين يتعلقان بمبدأ العصمة:
المحور الأول: العصمة برؤية تحليلية وقرآنية.
ما هي العصمة بحسب الرؤية التحليلية والقرآنية؟ هناك فرقٌ بين التسديد والعصمة، التسديد شيء والعصمة شيء آخر، التسديد عامل خارجي، العصمة عامل داخلي، التسديد يقول عنه تبارك وتعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ [الجن: 26 – 28]، هذا تسديد، هذا ليس جبرًا، الرسول ليس مجبورًا، لكن هناك رقابة حوله، هناك عيون حوله من قبل الملائكة، هذا الرصد الذي يراقب الرسول ويرصده تسديدٌ من قبل الله، هذا غير العصمة، هذا التسديد هو الذي يقول عنه تبارك وتعالى: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: 253] إشارة إلى عيسى بن مريم، وهو الذي يقول عنه تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 74]، هذا تسديد، هذا عامل خارجي، لكن ما هو العامل الداخلي؟ ما هو العامل الذي يعيش المعصوم في داخله ونسميه بمبدأ العصمة وبمعتقد العصمة؟ العصمة تتقوم بثلاثة عناصر: العلم الحضوري، وحضور العقل مع قوة الالتفات، وطهارة السلوك.
العنصر الأول: العلم الحضوري.
العلم نوعان: حصولي وحضوري، ما هو الفرق بين علمي بك وعلمي بنفسي؟ هل علمي بنفسي مثل علمي بك؟ لا، علمي بك علم حصولي، أنا لا أعلم بك إلا عن طريق صورة، صورتك ترتسم في ذهني، إذا غبت عني أتذكر صورتك، أعلم بك عن طريق صورة ترتسم في ذهني، هذا يسمى علمًا حصوليًا، وأما العلم بنفسي، أنا أعلم بنفسي بلا صورة، نفسي حاضرة، لا يحتاج إلى وساطة صورة بيني وبين نفسي، علمي بنفسي، علمي بأفكاري، علمي بمشاعري، كله علم حضوري، لأن نفسي وأفكارها ومشاعرها حاضرة عندي بلا حاجة على وساطة صورة، هذا يسمى علمًا حضوريًا، العلم الحضوري أقوى من العلم الحصولي.
العصمة من العلم الحضوري، كيف؟ نحن والمعصوم نشترك في العلم بالفضيلة وقبح الرذيلة، أنا أعلم بجمال الفضيلة وأعلم بقبح الرذيلة، المعصوم أيضًا يعلم بجمال الفضيلة ويعلم بقبح الرذيلة، ما هو الفرق بيننا؟ علمي بجمال الفضيلة وقبح الرذيلة علم حصولي، صورة عندي للفضيلة والرذيلة، إذا قيل ما الفضيلة؟ تذكرت صورة معينة، وإذا قيل ما الرذيلة؟ تذكرت صورة معينة، علمي بجمال الفضيلة وقبح الرذيلة علم حصولي عبر صورة من الصور، لذلك هذا العلم لا يحثني على الفضيلة، هو مجرد علم، لا يبعثني نحو الفضيلة ولا يزجرني عن الرذيلة، لأنه مجرد صورة مرتسمة في دماغي.
وأما علم المعصوم بجمال الفضيلة وقبح الرذيلة فهو علم حضوري، يعني جمال الفضيلة حاضر في قلبه وقبح الرذيلة حاضر في قلبه، يشعر بلذة الفضيلة وبألم الرذيلة شعورًا وجدانيًا، أنت الآن بينك وبين نفسك تشعر بلذة حنان أبويك، تشعر بحب أبويك، شعورك بحنان أبويك ليس علمًا حصوليًا بل هو علم حضوري، شعورك بقبح القذارة، أنت تشمئز من البول والدم والقيح، هذا الاشمئزاز علم حضوري، علمك بحب أبويك لك علم حضوري، لأنه وصل إلى مستوى الشعور والوجدان، علمك بقبح القذارات علم حضوري لأنه وصل إلى مستوى الشعور والوجدان، هكذا العلم الحضوري عند المعصوم، هو يشعر في داخل وجدانه بلذة الفضيلة فينبعث إليها، هو يشعر في عمق وجدانه بقبح الرذيلة فيشمئز منها وينصرف عنها، هو يعيش لذة الطاعة وألم المعصية، لذلك ينبعث بشكل عفوي تلقائي نحو الطاعة، ينصرف بشكل أوتوماتيكي عن المعصية، علم المعصوم علم حضوري، وهذا هو منشأ العصمة، وهو العنصر الأول من عناصر العصمة.
هذا العلم يقول عنه القرآن الكريم: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113]، ثلاثة أشياء: كتاب، حكمة، وعلم، ما هو هذا الشيء الثالث؟ علم الكتاب واضح، أنزل عليك الكتاب، الحكمة واضح، هي القيم والمبادئ، ما هو هذا الشيء الثالث الذي أنزله الله وعلمه النبي ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾؟ العلم الثالث هو العلم الحضوري الذي عطّر الله به قلب نبيه محمّد . في آية أخرى يقول تبارك وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]، وصلوا إلى درجة اليقين، والوصول إلى درجة اليقين يعني العلم الحضوري، وصلوا إلى درجة اليقين فاستحقوا الإمامة.
قد يسأل سائل: هل المعصوم لا يستطيع أن يعصي الله؟ هل هو مجبور على فعل الطاعة وترك المعصية؟ لا، ليس مجبورًا، القرآن يقول: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقة: 44 – 46]، ويقول القرآن الكريم: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65]، هو ليس مجبورًا، كيف؟ هناك فرقٌ بين الإمكان الذاتي والإمكان الوقوعي، أنت هل يمكنك أن تشرب ملعقة بول؟! يمكن، يمكن للإنسان أن يشرب فنجان بول أو فنجان دم أو فنجان قيح، هذا يسمى إمكانًا ذاتيًا، لكن هذا الممكن ذاتًا لا يتحقق وقوعًا، هناك إمكان ذاتي لكن ليس هناك إمكان وقوعي، بمعنى أن الإنسان حالة حضور عقله وحال حضور التفاته لا يتناول القاذورات، ما دام عاقلًا ملتفتًا لا يتناول القاذورات، يمكن أن يتناول لكنه لا يتناول لحضور عقله وقوة التفاته، إذن أنت معصوم أيضًا عن أكل القاذورات، لأنك تنصرف عن أكل القاذورات لعلمك بقذارتها فتنصرف عنها باختيارك، وتشعر باشمئزاز تجاهها مع أنك قادر على فعلك.
نفس القضية في المعصوم، المعصوم عندما يواجه المعصية كما تواجه أنت القذارات تمامًا، بإمكانه أن يفعل المعصية، الإمكان الذاتي موجود، لكن بحسب الإمكان الوقوعي لا تتحقق منه المعصية لحضور عقله وقوة التفاته وشعوره الوجداني بقذارة المعصية وقبحها، فينصرف عنها باختياره وإرادته.
العنصر الثاني: حضور العقل.
المعصوم لا يغيب وعيه، بل هو حاضر الوعي، ربما يقول قائل: هذا غير معقول، كيف لا يغيب وعيه؟! ألا يخطئ؟! ألا ينسى؟! دائمًا حاضر العقل والالتفات والوعي، يعيش حضورًا في وعيه وعقله والتفاته، هذا عنصر مهم، ولذلك المعصوم لا يخطئ ولا ينسى، قد يقول قائل هل هذا معقول لإنسان؟! هو بشر بالنتيجة، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الكهف: 110]، مقتضى أنه بشر أن يخطئ وينسى ويسهو ويلهو! نقول: لا، حضور الوعي عنصر مقوم للعصمة، ألا يغفل ولا يخطئ ولا ينسى، أنت بشكل وجداني ترى هذا، مثلًا إنسان درّس الرياضيات ثلاثين سنة، خبر الرياضيات أولها وآخرها، أصبح الرياضيات مثل العجينة بيده، حينئذ لا يخطئ، نتيجة لسيطرة عقله وخبرته على الرياضيات تصبح الرياضيات كماء يشربه، لا تغيب الرياضيات عن وعيه ولا يخطئ فيها ولا يغفل عن مسائلها أبدًا، هذا إنسان يمتلك عصمة عقلية في الرياضيات. أو مثلًا امتحان في الفيزياء بقي عليه شهر، أنت الآن وضعت رأسك في الفيزياء يوميًا، ضبطت المادة كلها، استوعبت المادة كلها، أصبحت المادة حاضرة في عقلك بتمامها، تدخل قاعة الامتحان، من المستحيل أن تخطئ أو أن تنسى، إذا كانت المادة حاضرة في ذهنك لن تخطئ، لن تنسى، لن تغفل، لأنها أمامك كأنها في شاشة.
إذن، حضور العقل، حضور الالتفات عنصر مقوّم لمبدأ العصمة، وقد أشار إلى هذا العنصر القرآن الكريم في قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 41]، الرسول شهيد، هل الشهيد يخطئ؟! إذا يخطئ فإن الشهادة تكون خاطئة، الرسول شهيد على الأمة، والشهادة حتى تكون مقبولة لا بد ألا يكون فيها خطأ ولا نسيان ولا غفلة ولا ارتباك، بل تكون مطابقة للواقع حتى تكون شهادة واقعية، إذن قول القرآن: ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ يعني أن لك شهادة هي عبارة عن عصمتك العقلية، حيث لا تخطئ ولا تغفل ولا تسهو، ولذلك شهادته مقبولة. ورد عن الإمام الصادق : ”إن الله جعل مع النبي محمد روح القدس، لا يغفل ولا ينام ولا يسهو ولا يلهو“.
العنصر الثالث: طهارة السلوك.
من ملك العلم الحضوري وملك حضور العقل وقوة الالتفات من الطبيعي أن يصل إلى الدرجة الثالثة، وهي طهارة السلوك، سلوكه نقي وطاهر، العصمة هي طهارة السلوك ونقاء العمل استنادًا إلى العلم الحضوري واستنادًا إلى حضور العقل، هذه الطهارة السلوكية يعبر عنها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33]، ويقول القرآن الكريم: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾ [الأنبياء: 73]، دائمًا يفعلون الخيرات.
المحور الثاني: مساحة العصمة في ميدان الحياة.
الباحث الإيراني محسن كديور له نظرية في كتاب مطبوع يسمّى «القراءة المنسية»، ما هي القراءة المنسية؟ يقول: الإمامة لها قراءتان: القراءة السائدة بين الشيعة في الزمن الحاضر، والقراءة المنسية، أما القراءة السائدة للإمامة في الزمن الحاضر فهي تعني أن الإمامة تعني ثلاثة أركان: النص، الإمام من يكون منصوصًا عليه بالإمامة، وثانيًا العصمة، من يكون معصومًا عصمة مطلقة، وثالثًا: من له الولاية على التكوين، فهو مصدر المعاجز والكرامات، الإمامة في العقل الشيعي في زماننا هذا تعني هذه الأركان الثلاثة، النص والعصمة والولاية، هذه تسمى القراءة السائدة.
وأما القراءة المنسية فيقول محسن كديور: من زمن الأئمة إلى القرن الثالث والرابع كان معنى الإمامة غير هذا الإمامة، كان للإمامة قراءة غير هذه القراءة، نسى الشيعة تلك القراءة واعتقدوا بهذه القراءة، ما هي القراءة التي نُسِيَت وكانت هذا السادة الشائعة في زمن الأئمة إلى القرن الثالث والرابع، يعني إلى الغيبة الصغرى؟ القراءة المنسية هي أن الأئمة علماء أبرار، الأئمة من علي إلى العسكري علماء أبرار، هم أفهم الناس بالقرآن والسنة، هم رواياتهم أوثق الروايات، ولذلك وجب اتباعهم، لا نص ولا عصمة ولا ولاية تكوينية، كل هذه نشأت في الأخير، الإمامة إلى القرن الرابع تعني أن هؤلاء علماء مثل غيرهم من العلماء، أبو حنيفة إمام المذهب الحنفي كان عالمًا، مالك أيضًا كان عالمًا وهو إمام المذهب المالكي، وهكذا هم أهل البيت، علماء أبرار أتقياء، وجب اتباعهم لأنهم الأعرف بالقرآن والسنة، والأخذ برواياتهم لأنهم الأوثق، لا أكثر من هذا.
هذه القراءة نُسِيَت واعتقد الشيعة بقراءة أخرى، وهذه القراءة التي اعتقد بها الشيعة في أزمنتنا الحاضرة من أين جاءت للشيعة؟ إذا كان الشيعة إلى القرن الثالث والرابع هم معتقدون على أن أهل البيت علماء، فمن أين جاءت هذه القراءة الأخرى؟! أنهم منصوص عليهم وأنهم معصومون وأنهم ولاية ومعاجز، من أين كل ذلك؟! يقول: بعد القرن الرابع اقترن التصوف بالتشيع، التصوف غزا التشيع، نتيجة غزو التصوف للتشيع تأثر التشيع بنظريات المتصوفة، ومنها: نظرية الإنسان الكامل، أن هناك إنسانًا كاملًا في كل شيء، وتأثرًا بهذه النظرية – وهي نظرية الإنسان الكامل – ابتكر الشيعة وعلماؤهم في العصور المتأخرة مفهومًا للإمامة ينسجم مع نظرية الإنسان الكامل، الإنسان المعصوم عصمة مطلقة، الإنسان صاحب الولاية التكوينية، الإنسان المنصوص عليه بالإمامة، كل هذا انطلق من نظرية صوفية وهي نظرية الإنسان الكامل، ولذلك ينبغي للشيعة أن يرجعوا للقراءة الأولى الأصيلة، أنهم علماء كسائر العلماء.
نحن نذكر بعض الملاحظات، لأن مناقشة النظرية بتمام تفاصيلها تحتاج إلى وقت أكثر، نحن نقدم بعض الملاحظات لنربطها بمبدأ العصمة الذي هو حديثنا.
الملاحظة الأولى: الإنسان الكامل حقيقة قرآنية.
إن مبدأ الإنسان الكامل ليس نظرية صوفية بل حقيقة قرآنية، القرآن طرح عنوان الإنسان الكامل، القرآن الكريم هو الذي طرح مفهوم الإنسان الكامل، وليس نظرية صوفية، القرآن الكريم عندما يتحدث عن عيسى بن مريم يقول: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ [النساء: 171]، كلمة الله، روح الله، ثم يقول عنه في آية أخرى: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 49] يعني ولاية تكوينية، القرآن الكريم يقول في حق موسى بن عمران: ﴿إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ [طه: 40 – 41]، ويقول في آية أخرى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: 39]، أي كمال أعظم من هذا؟! إنسان يُصْنَع بعين الله، يصطفيه الله لنفسه، القرآن يقول: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ [ص: 45] يعني عندهم أيد وأبصار؟! لا، اليد كناية عن العطاء والأبصار كناية عن بصيرة القلب، ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ﴾ [ص: 46 – 47] أخلصناهم من كل شيء، ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص: 82 – 83].
الملاحظة الثانية: عدم استناد الإمامة على نظرية الإنسان الكامل.
عندما نرجع إلى علمائنا الذين تناولوا بحث الإمامة، هل فعلًا انطلقوا من نظرية الإنسان الكامل وعرّفوا الإمامة بأنها عبارة عن الكمال الإنساني؟ صحيح أن الإمام هو إنسان كامل، لكن هل هذا هو تعريف الإمامة؟ هل هذا هو منطلق الإمامة؟ لا، راجع كتب علمائنا، المفيد في كتاب الإفصاح، المرتضى في كتاب الذخيرة، ربما يقول قائل: هؤلاء من القرن الرابع؟! طبعًا هؤلاء من القرن الخامس، نأتي إلى المحقق الحلي من القرون المتأخرة في كتابه المسلك في أصول الدين، نأتي إلى العلامة الحلي في كتابه الألفين، في كتابه معارج الفهم، نأتي إلى المقداد السيوري في كتابه الاعتماد، كل هؤلاء علماؤنا عندما تناولوا بحث الإمامة لم ينطلقوا من نظرية الإنسان الكامل، وإنما عرّفوا الإمامة بقولهم: الإمامة هي الرئاسة في أمور الدين والدنيا، فمن أين أن التشيّع اقترن بالتصوّف واكتب النظرية وعرّف الإمامة بها؟!
الملاحظة الثالثة: قصور شواهد النظرية عن إثبات المدّعى.
كديور استقرأ بعض الروايات واستشم منها أن صحابة الأئمة ما كانوا يعتقدون أن الأئمة بهذه الضخامة، وأخذ بعض العبارات من علمائنا استكشف منها أنهم لا يعتقدون بأن الأئمة بهذه الضخامة التي نتعقد بها في زماننا الحاضر، أنا لا أريد أن أذكر الشواهد، تستطيع الرجوع إلى كتابه، إنما ما أتى به استقراء ناقص، لم يستوعب تاريخ أهل البيت، لم يستوعب مجوع روايات أهل البيت، لم يستوعب مجموع كلمات علمائنا، بنى النظرية على استيحاء من استقراء ناقص، لو فرضنا أن هذا الاستقراء تام فماذا يثبت هذا الاستقراء؟ يثبت عدم وضوح العصمة لا عدم ثبوت العصمة، لا بد من أن نفرّق بين هذين العنوانين، العصمة ما كانت واضحة لبعض أصحاب الأئمة، لا أن العصمة لم تكن ثابتة، هذه الشواهد لا تنفي ثبوت العصمة، وإنما لو تمّت تنفي وضوح العصمة، وفرقٌ بين عدم وضوح العصمة وبين عدم ثبوت العصمة، لا يقع خلطٌ بين الأمرين.
الملاحظة الرابعة: مخالفة هذه النظرية للمنهج العلمي.
أنت عندما تريد أن تؤسّس نظرية، فما هو المنهج العلمي؟ أنت أمامك نظرية أخرى موجودة عند الشيعة يقول بها علماؤهم وعوامّهم، كلهم يقولون بهذه النظرية، أنت الآن تريد أن تصل إلى نظرية أخرى، المنهج العلمي يفرض عليك أن تقرأ أدلتهم للنظرية الأولى، وتبحثها بحثًا كلاميًا عقليًا، وتبيّن ضعفها والخدشة فيها، لكي تنتقل إلى النظرية البديلة، لأن النظرية الأولى ناقشتها وناقشت أدلتها واتضح بطلانها، فانتقلت بشكل علمي إلى النظرية الثانية، وهذا لم يحصل من قِبَل الباحث محسن كديور، كتب علم الكلام عندنا من زمان المفيد إلى زمان الخوئي، كلهم كتبوا في الإمامة، كلهم بحثوا في العصمة، كلهم طرحوا الأدلة والبراهين بشكل دقيق مفصّل، الذي يريد أن يطرح نظرية أخرى مقتضى المنهج العلمي أن يقرأ هذه الكتب الكلامية ويستعرض أدلتها ويناقش براهينها، ثم يثبت بطلانها ثم ينتقل إلى النظرية البديلة، أما أن يعرض عن كل هذا العلم المسمّى بعلم الكلام، ويطرح نظرية بديلة لمجرّد استقراء تاريخي، فهذا ليس منهجًا علميًا في اختيار النظرية وفي طرحها وتحريرها.
لذلك، أي باحث تسمع أنه يقول أنا لا أؤمن بالعصمة المطلقة! لماذا؟! هل استقرأت كتب علم الكلام؟! هل ناقشت أدلة علمائنا؟! هل عرفت بطلانها إلى أن وصلت إلى هذا الرأي المختار لديك، وهو أنك لا تؤمن بالعصمة المطلقة؟! المنهج العلمي يرفض مثل هذه الدعاوى ما لم تستند إلى مناقشات علمية في إطار علم الكلام وفي ضوء علم الكلام.
من هنا نحن ننطلق إلى ثلاثة أدلة على العصمة المطلقة، ما معنى العصمة المطلقة؟ الرسول الأعظم محمد معصومٌ في تلقي الوحي، معصومٌ في تبليغ الوحي، معصومٌ في تطبيق الوحي، معصومٌ في تعاملاته مع الناس، هذا معنى العصمة المطلقة، لا يخطئ وهو يتلقى الوحي، لا يخطئ وهو يبلّغ الوحي، لا يخطئ وهو يطبّق الوحي، لا يخطئ في تعامله مع زوجته، في تعامله مع جاره، في تعامله مع الناس في السوق، في إدارته لحياته الخاصة، في إدارته لحياته العامة، معصومٌ في تمام جهاته، هذا معنى العصمة المطلقة. الإمام كالنبي معصومٌ عصمةً مطلقةً، لماذا؟ ربما يقول قائل: لا داعي لذلك، هو معصومٌ في تبليغ الوحي، فلماذا هو معصومٌ أيضًا في تعامله مع زوجته وفي تعامله مع جاره وفي إدارته لشؤون الحياة؟! ما هو الداعي لأن يكون معصومًا في هذه الأمور؟! عندنا ثلاثة أدلة:
الدليل الأول: عدم قابلية العلم الحضور للتجزئة.
لقد ذكرنا أن العصمة هي عبارة عن العلم الحضوري، فهل العلم الحضوري يقبل التقسيم والتجزئة؟ حتى نقول: من هذه الجهة عنده علم حضوري، ومن تلك الجهة ليس عنده علم حضوري! العلم الحضوري لا يقبل التجزئة والتقسيم عقلًا، الفلاسفة يقولون: فرقٌ بين الكم والكيف، الذي يقبل التقسيم هو الكم، وأما الكيف فلا يقبل التقسيم، الكم يقبل التقسيم، أرض تقسمها إلى نصفين، كتاب تقسمه إلى نصفين، معلومات تقسمها إلى نوعين، الكم يقبل التقسيم، وأما الكيف فلا يقبل التقسيم، كيف؟
إنسان عنده ملكة الشجاعة والجرأة، إذا عنده هذه الملكة فهل الملكة تقبل التقسيم؟! تقول: والله هذا إنسان جريء عندما يواجه أعداءه، ولكنه جبان عندما يواجه الوزغة والذبابة!! الشجاعة لا تقبل التقسيم، وكما يقول الشاعر:
وفي الهيجاء ما جرّبت نفسي | ولكن في الهزيمة كالغزالِ |
لا يمكن أن يكون شجاعًا جريئًا في مواجهة الأعداء ولكنه جبان أمام الزهيوي – بتعبير الكويتيين – أو أمام الذبابة أو الوزغة أو الفأر! لا يمكن هذا، الشجاعة من مقولة الكيف، والكيف لا يقبل التقسيم. إنسان عنده ملكة الكرم، نقول: والله كريم مع أصدقائه وجيرانه لكنه بخيل على أولاده! هذا ليس كريمًا، الكرم لا يقبل التقسيم.
كذلك العصمة من مقولة الكيف، والكيف لا يقبل التقسيم، فلا معنى لأن يكون معصومًا في جهة وليس معصومًا في جهة، إما عقله حاضر، مقتضى حضور عقله ألا يخطئ في تعامله مع زوجته ولا في تلقي الوحي، أو عقله غير حاضر، أما أن يكون هناك تقسيم وتصنيف وتنويع فهذا يتنافى مع كون العصمة من العلم الحضوري، يعني من مقولة الكيف.
الدليل الثاني: الوثوق فرع العصمة.
لو لم يكن الإمام معصومًا حتى في الموضوعات الخارجية لما حصل الوثوق بشخصيته، وإذا انتفى الوثوق بشخصيته انتفى الهدف من نصبه إمامًا، إذا لم نؤمن بأن النبي معصوم في علاقته مع زوجته أو في تعامله مع جاره، يمكن أن يخطئ، فمن الذي يضمن لنا أنه لا يخطئ في الأمور التشريعية؟! ما دام يخطئ هنا فمن المحتمل أن يخطئ هناك، ما الذي يضمن لنا أنه إذا نزل عليه جبرئيل لا يخطئ؟! لعل النازل عليه شيطانٌ من الجن، وهو ظنه جبرئيل، وأخذ منه المعلومات، وأوصلها إلينا وقال هذه وحي!! ما دام قد يخطئ في تعامله مع زوجته، ما دام قد يخطئ في تعامله مع الناس في السوق، إذن من الممكن أن يخطئ فيتصوّر أنّ من يحدّثه جبرئيل والحال أن من يحدّثه شيطان من شياطين الجن، فما الذي يضمن لنا أنه صادق في أن من يحدّثه جبرئيل؟!
النبي حجّ حجة الوداع، وجاء ووقف مع الناس في عرفة، قال: أيها الناس هذه عرفة وقفوا بها، وقف الناس معه في عرفة، من الذي يضمن لنا أنه لم يكن مخطئًا؟! لعله وقف في أرض غير أرض عرفة، لعله لم يشخّص المكان تشخيصًا صحيحًا، من الذي يضمن لنا أن تشخيصه صحيح ما دام قد يخطئ في الأمور الأخرى؟!
نأتي إلى الإدارة، قال للجيش: لا تنزل إلى الميدان، ابقَ على الجبل، يوم أحد قال للرماة: لا تنزلوا للميدان، ابقوا على رأس الجبل، هذا ليس أمرًا تشريعيًا، بل هو أمر إداري من الجائز أن يخطئ فيه! ما الذي يفرز لنا هذا عن هذا؟! كيف نعرف أنّ قوله صلوا كما رأيتموني أصلي تشريعٌ بينما قوله للرماة يوم أحد ابقوا على الجبل ليس تشريعًا، ما الذي يفرز الأول عن الثاني؟! هو لا بد من أن يفرز، وإلا نحن لا نعلم، هو أتى وفرز لنا، قال: الأول تشريع والثاني إدارة وليس تشريعًا، لعله أخطأ في فرزه، فلم نضمن ما هو تشريع مما هو إدارة، لم نضمن ما هو تشريع مما هو فعل شخصي خارجي له، لأنه لا طريق إلى الفرز إلا هو، ولعله أخطأ في الفرز، إذن هذه المسألة سوف تمتد، متى ما جوّزنا عليه الخطأ في أفعاله الخارجية جاز عليه الخطأ في الأمور التشريعية، وإذا جاز عليه الخطأ لم يحصل الوثوق به، وإذا لم يحصل الوثوق به لم تنقد الناس إليه، وإذا لم تنقد الناس إليه سقط الهدف من بعثته، فإن الهدف من بعثته هداية الناس، والهداية تتوقف على الوثوق، والوثوق لا يحصل إلا مع ضمان عدم خطئه في تمام أموره، يعني إلا مع الاعتقاد بعصمته المطلقة.
الدليل الثالث: قاعدة اللطف.
يقول علماء الكلام: مقتضى قاعدة اللطف أن يرسل الله لنا دينًا، المجتمع البشري يحتاج إلى الدين، والله يعلم بحاجتهم، وهو قادرٌ على تلبيتها، فمقتضى علمه بحاجة المجتمع البشري للدين وقدرته على تنفيذ الحاجة أن يعطي المجتمع البشري الدين، هذا يسمّى اللطف، اللطف واجبٌ على الله، مقتضى لطفه أن يبعث لنا دينًا، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]، نفس القاعدة نطبّقها على الإمام، كما أن البشرية تحتاج إلى دين فإنها تحتاج إلى قدوة، وكما أن البشرية تحتاج إلى نظام فإنها تحتاج إلى قدوة ومنار يشكّل الكمال المطلق في كلّ شيء، قد يقتدي به الناس في كلّ الزوايا وفي كلّ الكمالات وفي كلّ المجالات، فكما أن هناك حاجة بشرية للدين ولذلك أرسل الله لنا دينًا، كذلك هناك حاجة بشرية للقدوة، وهي الإنسان الذي يعيش الكمال المطلق، ليكون قدوة في كل نواحي الحياة، فكما وجب على الله أن يرسل دينًا وجب عليه أن ينصب رسلًا وأئمة يشكلون القدوة المطلقة، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21].
نختم ذلك بقول الإمام الرضا : ”إن الإمامة خصّ الله بها إبراهيم الخليل بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة وفضيلة شرّفه بها وأشاد بها ذكره، فقال عز وجل: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾، فقال الخليل سرورًا بها: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾، قال الله عز وجل: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124]، فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة، ثم أكرمه الله عز وجل بأن جعلها ذريته أهل الصفوة والطهارة، فقال عز وجل: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 72 – 73]… إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء، إن الإمامة خلافة الله عز وجل وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين … إن الإمامة أسّ الإسلام النامي وفرعه السامي… الإمام أمين الله في أرضه وحجّته على عباده وخليفته في بلاده… الإمام المطهّر من الذنوب المبرَّأ عن العيوب، المخصوص بالعلم المرسوم بالحلم“، هذا هو الإمام، أين أن الأئمة علماء أبرار؟! الإمام الرضا يقول شيئًا آخر.
خصال الإمام الرضا :
الإمام الرضا تمتّع بثلاث خصال:
الخصلة الأولى: كثرة المناظرات.
الإمام الرضا هو أكثر الأئمة مناظرات، إذا تقرأ كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي كله مناظرات الأئمة، مع علماء الأديان، مع علماء المذاهب الأخرى، كتاب الاحتجاج للطبرسي، أكثر الأئمة دخل في المناظرات وأفحم علماء الأديان وأئمة المذاهب الإمام علي بن موسى الرضا ، حتى لُقِّب بعالم آل محمد . الإمام الرضا لماذا قبل ولاية العهد؟ لعدة أسباب، منها أن ولاية العهد كانت فرصة لكي يلتقي بعلماء الأديان وأئمة المذاهب ويقوم بترسيخ مذهب أهل البيت، علماء الأديان ليسوا مثل زماننا هذا تراهم في كل مكان، لا، كان علماء الأديان لا يلتقى بهم إلا في إطار البلاط العباسي الحاكم، الإمام الرضا اتخذ ولاية العهد بابًا وفرصة للقاء هؤلاء ومناظرتهم وإفحامهم ونشر مذهب أهل البيت .
الخصلة الثانية: سمو الأخلاق.
إن الإمام الرضا كان أكثر الناس تواضعًا، يقول أبو الصلت الهروي: خرجنا معه من المدينة إلى خراسان، كان كلما وضع المائدة أتى بغلمانه، وجعلهم يأكلون معه، فيقول له بعض من حضر: اعزل لهؤلاء السود مائدة! فيقول: ”مه! إنّ الرب واحد، والأب واحد، والأم واحدة، والجزاء بالأعمال“، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، وكان لا يتكئ بين يدي جليس، بل يجلس هكذا كأنه مثلك، وكان لا يتفل أمام أحد، إذا يبصق يبصق في مكان آخر، لا ينفّر أحدًا منه، وكان لا يقهقه وإنما ضحكه التبسّم، وكان علي بن موسى كثير الصدقات والهبات، في المدينة وفي أرض خراسان.
الخصلة الثالثة: الإنباء بمقتله ومدفنه.
الإمام الثاني بعد الحسين الذي نُبِّئ بمقتله وقبره، كثير من الأخبار عن النبي وفاطمة الزهراء والإمام علي أخبرت بمقتل الحسين ومكان قبره، بعده من الأئمة لم تأتنا هذه الأخبار، الإمام الثاني الذي وردت في حقّه الأنباء بمقتله ومحلّ قبره هو الإمام علي بن موسى ، أنبأ الرسول والإمام علي والإمام الصادق قبل أن يولد علي بن موسى بمقتله وبمكان قبره، ويأتي الإمام الصادق ليقول: ”ستدفن بضعة مني بأرض خراسان، من زاره في غربته وجبت له على الله الجنّة“، أنت تستغرب لماذا صارت خراسان بهذه الدرجة، أصبح الإمام الرضا أكثر قبور الأئمة عزًا وسلطانًا ومكانة، وأصبح قبر الإمام الرضا موئل الشيعة وملاذ الزوّار من كلّ مكان، لأن الأئمة مهّدوا لهذا القبر، لأن الأئمة أعدّوا لهذا اليوم قبل أن يولَد علي بن موسى ، كانت الأنباء والأخبار أعدّت الشيعة والزوّار لهذا المكان المبارك قبل أن يولَد علي بن موسى. ورد عن الإمام الصادق : ”ستدفن بضعة مني بأرض خراسان، من زاره عارفًا بحقه ضمنت له على الله الجنة. قيل: وما عرفان حقّه؟ قال: العلم بأنه إمامٌ مفترض الطاعة غريب شهيد“.
اترك تعليقاً