|
المدة: | 00:24:29 |
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
وصل بنا الكلام إلى ما أفاده السيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره في بحثه حول حجية الدليل العقلي، حيث ذكر في «ج4، ص130» أن المدركات الحسية ليست من القضايا البديهية، وقد أبان نظريته من خلال ذكر بحثين:
البحث الأول: إنَّ هناك بحثًا فلسفيًا منذ القدم مفاده: هل المدركات الحسية – كإدراكنا أن أمامنا طاولة وإدراكنا أننا بين أصدقائنا – مدركات بديهية أم لا؟ وهنا عدة نظريات:
النظرية الأولى: نظرية المنطق الصوري – وهو المنطق الأرسطي – الذي يعتبر القضايا الحسية من جملة القضايا الضرورية، حيث يذكر هذا المنطق – كما في منطق المظفر – أن القضايا الضرورية ستة:
- القضايا الأولية، كإدراكنا أن النقيضين لا يجتمعان، وأن الكل أكبر من الجزء.
- والقضايا الفطرية، وهي القضايا التي قياساتها معها، كإدراكنا أن الأربعة زوج؛ لأنها تنقسم إلى متساويين.
- والقضايا المتواترة.
- والقضايا التجريبية.
- والقضايا الحدسية.
- والقضايا الحسية.
النظرية الثانية: ما ذكره السيد الشهيد في كتابه «فلسفتنا»، حيث اختلف رأيه فيه عمّا ذكره في «الأسس المنطقية للاستقراء»، فعندما كتب «فلسفتنا» كان يرى أن القضايا الحسية قضايا مستنبطة عن طريق مبدأ العلية، فحينما ندرك مثلًا أن الطاولة أمامنا فهذا الإدراك – المرتسم في أذهاننا – معلول يحتاج إلى علة، ومقتضى مبدأ العلية أن علته وجود خارج عن أذهاننا، وهكذا نصل للمدركات الحسية عبر الاستنباط المبني على إيماننا بمبدأ العلية.
النظرية الثالثة: ما ذكره السيد الطباطبائي قدس سره في كتابه «أصول الفلسفة» من أنَّ هناك فرقًا بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي، فعلمنا بأصل وجود حرارة مثلًا علم إجمالي، وهو علم بديهي ضروري، وأما إدراك أن تلك الحرارة هي ناشئة عن حرارة الشمس أو النار أو الحركة، وإدراك أنها بدرجة معينة، وأنها حارقة أو غير حارقة، فكلّ ذلك علم تفصيلي، وهو ليس علمًا بديهيًا ضروريًا، بل هو يعتمد على دليل حساب الاحتمالات، وعلى المقارنة بين الصور وجمع القرائن والعوامل المختلفة لكي يصل الذهن إلى قرار جازم بمصدر هذه الحرارة وخصائصها التفصيلية.
النظرية الرابعة: في مقابل النظريات السابقة، طرح السيد الشهيد قدس سره في أصوله وفي كتابه «الأسس المنطقية للاستقراء» أن الإدراك للحسيات يعتمد دائمًا على دليل حساب الاحتمالات، وهذا يعني أنَّ القضايا الحسية تدخل في القضايا النظرية لا في القضايا الضرورية.
وبعبارة أخرى: القضايا الضرورية هي خصوص قسمين:
أ/ القضايا الأولية: وهي القضايا التي يحكم بها العقل بالبداهة، كامتناع اجتماع النقيضين.
ب/ القضايا الفطرية: وهي القضايا التي قياساتها معها؛ كإدراكنا أن زوايا المثلث تساوي قائمتين، وإدراكنا أن الأربعة زوج.
وما سوى القضايا الأولية والفطرية – من المتواترات والتجريبيات والحدسيات والحسيات – كلها قضايا نظرية لا ضرورية، ولذلك القضايا الحسية تحتاج إلى دليل، وهو دليل الاستقراء وحساب الاحتمالات.
فخلاصة البحث الأول الذي طرحه السيد الشهيد: إنَّ هناك مجموعة نظريات في القضايا الحسية، وقد اختار منها النظرية الرابعة، وهي أنّ الحسّيات قضايا نظرية يعتمد إدراكها والجزم بها على دليل حساب الاحتمالات.
البحث الثاني: أراد الشهيد الصدر أن يقيم دليلًا وبرهانًا على ما يدّعيه، فذكر أنَّ الإحساسات على قسمين: داخلية وخارجية.
القسم الأول: الإحساسات الداخلية.
وهي ما يعبر عنه في علم المنطق بالعلم الحضوري، كإحساس الإنسان بالجوع والشبع، والألم واللذة، والفرح والحزن، وما شاكل ذلك من المشاعر والعواطف والأفكار والخواطر.
وهذا الإحساس الداخلي ليس من القضايا النظرية، بل هو من القضايا الضرورية؛ إذ العلم بالجوع – مثلًا – لا يحتاج إلى واسطة، بل هو إدراك مباشر، وسرّ ذلك أنَّ المعلوم حاضر بنفسه لدى العالم، وليس حاضرًا عبر صورة، فالجوع بنفسه حاضر لدى الجائع، وفكر الإنسان حاضر بنفسه لدى ذهنه، وخواطر الإنسان بنفسها حاضرة لدى النفس، فالمُدرَك حاضرٌ بنفسه لدى المدرِك ولا توجد واسطة بينهما، ولذلك فالعلم الحضوري من قسم القضايا الضرورية، لا من القضايا النظرية.
القسم الثاني: الإحساسات الخارجية.
كشعوري أن هنا حرارة، وشعوري أن صديقي أمامي، وشعوري بالبيت والأولاد وبكل الواقع الذي يحيط بي، فهذا الإحساس ليس من القضايا الضرورية كمل يدّعي المنطق الصوري الأرسطي، بل هو من القضايا النظرية التي يحتاج اليقين بها إلى إقامة دليل، وذلك من خلال دليل حساب الاحتمالات.
ومن الأدلة الواضحة على أن هذه القضايا من قسم القضايا النظرية التي تحتاج إلى إقامة دليل: المقارنة بين الصور في حالة النوم والصور في حالة اليقظة، فإنَّ الإنسان في حالة النوم عندما يعيش حلمًا من الأحلام فإنّه أيضًا يرى صورًا، بمعنى أنه في حالة النوم ترتسم في ذهنه صور، فيرى صورة شارع، وصورة سيارة، وصورة صديق، وصورة شخص غريب… إلخ، فهذه صور ترتسم في الذهن حالة الحلم الذي يراه الإنسان في نومه، كما توجد ور ترتسم في الذهن حالة اليقظة، كما لو رأى الإنسان أمامه نارًا وقدرًا وطعامًا.
إذن كما أنّ ما يدركه الإنسان في حالة اليقظة هو صور في ذهنه للأشياء التي حوله، فكذلك ما يدركه الإنسان في حالة النوم هو صور ترتسم في ذهنه وليس شيئًا آخر، فلا فرق بين الأمرين من حيث ارتسام الصور، بل كلاهما علم حصولي.
ولكننا إذا قمنا بالمقارنة بين هذين العلمين نرى أن الصور التي يراها الإنسان في نومه ليس لها واقع موضوعي، وهذا يرشدنا إلى أن مطابقة الصورة للواقع تحتاج إلى دليل، وإلّا فالصورة في حال اليقظة كالصورة في حالة النوم من حيث إنهما ارتسام صورة، وإذا لم يكن فرق بينهما من حيث الارتسام فحيث اكتشفنا أن الصور التي حالة النوم ليس لها واقع موضوع فهذا يؤكد لنا أن الصور التي نشعر بها حالة اليقظة يحتاج إثبات أنها مطابقة للواقع إلى دليل.
ولذا يقول الشهيد الصدر: ولا يكفي في هذا الدليل ما سلكناه في «فلسفتنا» وهو مبدأ العلية،؛ لأن مبدأ العلية غاية ما يثبت لنا أن لهذه الصورة علة فقط، كما لو سلّطنا بصرنا على الطاولة فحصلت في أذهاننا صورة لها، فإننا نقول: هذه الصورة لا بد لها من علة، لكن ما هي هذه العلة؟ نحن في «فلسفتنا» ذكرنا أن علتها الوجود الخارجي للطاولة، إذ لولا وجود خارجي للطاولة انعكست الأشعة من خلاله على شبكة العين فارتسمت صورة لما حصلت صورة في الذهن، لكننا الآن نقول: وجود صورة للطاولة في الذهن يدل على وجود علة؛ لأن المعلول يحتاج إلى علة، وأما أن هذه العلة خارجية أم داخلية؟ فهذا أمر لا يثبته مبدأ العلية، بل لعل هذه العلة – كما يقول «باركلي» – علة خارجية، بمعنى أنَّ النفس خلاقة وقادرة على اصطناع الصور، فلعل هذه الصورة التي حصلت في الذهن علتها من داخل النفس لا من خارجها، وهذا يعني أنَّ مجرد الإيمان بمبدأ العلية لا يعيّن أن لهذه الصورة مطابَقًا خارجيًا.
إذن فدعوى أن العلّيات مستنبطة من مبدأ العلية نظرية خاطئة، فتعيّن أننا لا نستطيع أبدًا إثبات أن وراء صورة الطاولة طاولة واقعًا إلا بالعقل الثالث بحسب تعبيره، وهو دليل الاستقراء.
فهناك عقل أول وهو الذي يدرك القضايا الأولية، كالعقل الذي يدرك أن النقيضين لا يجتمعان، وعندنا عقل ثانٍ وهو العقل النظري الذي يستنبط المجهولات من المعلومات، وعندنا عقل ثالث سمّاه العقل الاستقرائي القائم على تراكم الاحتمالات، فالذهن عندما تحصل عنده صورة الطاولة يقوم بالمقارنة بين الصور بملاحظة القرائن المختلفة ومراكمة الخصوصيات المتكثرة، فيجمعها ونتيجة تراكم الاحتمالات يحصل له يقين بأن وراء هذه الصورة يوجد طاولة في الواقع.
وعلى ذلك فالحسيات نظريات تعتمد على دليل حساب الاحتمالات، وليست قضايا ضرورية كما ذكر المنطق الأرسطي، كما أنه ليس هناك فرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي كما ذهب إليه السيد العلامة في «أصول الفلسفة»، بل العلم بتفاصيل المحسوسات كالعلم بأصل المحسوسات كلاهما يعتمد على دليل حساب الاحتمالات، غاية ما في الأمر أن النفس تسرع في تنظيم دليل حساب الاحتمالات فلا نشعر بذلك، فعندما تقف أمامي حالًا أقول: أنت قطعًا واقف أمامي، إذ النفس خلال لحظة نظّمت دليل حساب الاحتمالات ووصلت إلى اليقين بوجود الشيء.
وكذلك عندما أضع كفي على جسم حار فأدرك إدراكًا يقينيًا أن هنا حرارة وأقول: هذا إدراك بديهي لا يحتاج إلى دليل أبدًا، لكنه في الحقيقة إدراك نظري يعتمد على دليل حساب الاحتمالات، حيث تنظّم النفس مقدمات هذا الدليل لتدرك النتيجة إدراكًا يقينيًا خلال واحد بالمليار من الثانية، فسرعة الجزم بالخارج لا تعني أبدًا أن إدراك الحس إدراك ضروري وبديهي، بل هو إدراك نظري يعتمد على دليل حساب الاحتمالات.
وإن شاء الله سنتعرّض في الجلسة القادمة لبعض الملاحظات التي سنؤيّد بها كلام العلامة الطباطبائي في أصول الفلسفة على المطلب الذي ذكره السيد الشهيد قدس سرهما.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
اترك تعليقاً