|
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾
صدق الله العلي العظيم
من أبرز مصاديق أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا: السيدة الزهراء «صلوات الله وسلامه عليها». حديثنا عن شخصية السيدة الزهراء من خلال عدة صفحات نقرؤها ونتأمل فيها.
الصفحة الأولى: حديث أبيها المصطفى عنها.
حيث ورد عنه أنه قال: ”فاطمة بضعةٌ مني، يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها“، وهنا يتبادر لذهن الإنسان سؤالٌ وهو يقرأ هذا الحديث: كيف يكون رضا الخالق معلّقًا على رضا المخلوق؟ الصحيح أن رضا المخلوق هو الذي يكون معلقًا على رضا الخالق، رضا المخلوق يجب أن يكون منوطًا ودائرًا مدار رضا الخالق، وليس الأمر بالعكس، بينما الحديث النبوي يصرّح بعكس ذلك، يقول: رضا الله يدور مدار رضا فاطمة، فكيف يتصوّر أن يكون رضا الله منوطًا ودائرًا مدار رضا المخلوق، ألا وهي السيدة الزهراء ؟
هذا التعبير ”يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها“ للإشارة إلى أن الزهراء تملك الهداية الأمرية، وربما بعضكم أول مرة يسمع هذا المصطلح، فما معنى الهداية الأمرية؟ ذكرتُ في الليلة السابقة أن القرآن الكريم قسّم الوجود إلى عالمين: عالم الخلق وعالم الأمر، القرآن الكريم يقول: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾، هناك عالم خلق وهناك عالم أمر، عالم الأمر هو الموجودات التي وُجِدَت بأمر الله عز وجل ومن دون واسطة مادية، كالأرواح، الأرواح وُجِدَت بأمره تعالى ومن دون واسطة مادية، لذلك يعبّر عن الأرواح بأنها من عالم الأمر، القرآن الكريم يتحدث عن الروح، يقول: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ ولم يقل: من خلق ربي.
بينما الجسد العنصري المادي، هذا الجسد ليس من عالم الأمر، هذا الجسد من عالم الخلق؛ لأن هذا الجسد وُجِدَ بواسطة مادية، ما وُجِد بمجرد أمر الله، مضافًا إلى أمر الله هناك واسطة مادية، كما لو تكون هذا الجسد من تراب، أو من نطفة تستقر في رحم المرأة، هذا الجسد وُجِد بواسطة مادية، هذا يسمى عالم الخلق، فعندنا عالم أمر وعندنا عالم خلق.
الهداية أيضًا على قسمين: هداية خلقية، وهداية أمرية، هناك هداية ترتبط بالخلق، وهناك هداية ترتبط بالأمر، فما هو الفرق بينهما؟ أنا تارة أصعد المنبر وأتحدث معك في سبيل أن أهديك إلى فكرة معينة أو إلى سلوك معين، هذا يسمى هداية خلقية؛ لأنني أخاطب جسدك، أخاطب سمعك، كلامي يتناغم مع سمعك، كلامي يتصل بسمعك، أنا أخاطب سمعك، أخاطب جسدك، هذه تسمى بهداية خلقية؛ لأنها خطاب مع عالم المادة، خطاب مع عالم الخلق، تسمى هداية خلقية، وهذه وظيفة الأنبياء والرسل والأئمة والأولياء والصالحين، وجميع المبلغين يقومون بالهداية الخلقية.
لكن هناك قسمًا آخر يسمّى بالهداية الأمرية، ليس خطابًا مع عالم الخلق، بل هو خطاب مع عالم الأمر، يعني خطاب مع الروح مباشرة وليس خطابًا مع الجسد، هناك خطاب يتصل بالروح بشكل مباشر، يتصل بالنفس بشكل مباشر، وليس خطابًا مع الجسد، وليس خطابًا مع الحواس، الخطاب الذي يتصل بالروح مباشرة يسمى هداية أمرية، وليس هداية خلقية، هذه الهداية الأمرية خاصة بالمعصومين، القرآن الكريم تلاحظ أنه يقول: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ يعني هداية أمرية، ما قال: يهدون لخلقنا، بل بأمرنا، أي أن هداية الأئمة هداية أمرية، وليست هداية خلقية.
مثلًا: سلمان الفارسي، أبو ذر الغفاري، كميل بن زياد، هؤلاء الذين رباهم الإمام علي، هؤلاء كيف غزاهم الإمام علي؟ كيف أثر على قلوبهم؟ ما أثّر بالهداية الخلقية، الهداية الخلقية الإمام علي يطرحها على كل البشر، لكن هؤلاء خصمهم الإمام علي بالهداية الأمرية، الإمام علي نقل إليهم شعاعه، نقل إليهم نوره، زرع في قلوبهم وغرس في قلوبهم وأرواحهم نور الإيمان، ونور الهداية. كميل بن زياد عندما يأتي يجلس أمام الإمام علي، الإمام علي وهو جالس أمامه يبث إليه نورًا من نوره، وشعاعًا من شعاعه، فيجعله إنسانًا مهتديًا هاديًا هداية أمرية، خطاب مع الروح بشكل مباشر.
ربما الإنسان يستغرب، يقول: ما هذا الكلام؟! جعلتم الأئمة آلهة! الإمام يجلس مع شخص فيزرع في قلبه الهداية من دون سمع ومن دون حواس! هل هو إله؟! لا. أضرب لك مثالًا بسيطًا جدًا: ماذا تقول في إبليس؟! إبليس ألا يؤثر في النفس بدون حواس؟! القرآن الكريم يقول: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾، هو لا يتحدث معك، إذن تأثيره على النفس مباشرة، تأثيره على الروح مباشرة، يوسوس في صدور الناس، الشيطان له إضلال، لا إضلال خلقي، بل إضلال أمري، بمعنى أن الشيطان يخاطب الروح بشكل مباشر، يخاطب النفس بشكل مباشر، ويبث وساوسه، ويبث سمومه، ويبث أحاديثه الشيطانية.
أنت تتقبل أن الشيطان يقوم بهذا، ولا تتقبل أن الإمام المعصوم يقوم بهذا! لماذا؟! ما هي الميزة للشيطان؟! كما أن الشيطان يخاطب الروح ويبث وساوسه، المعصوم يخاطب الروح فيبث إليها الهداية والنور، ويغرس فيها الصلاح، وهذا ما صنعه الإمام أمير المؤمنين مع الخُلَّص من أصحابه بالهداية الأمرية، ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾. إذن، الهداية الأمرية هي زرع الهدى وزرع الصلاح في النفس، وهذا ليس غريبًا على المعصوم.
الرسول الأعظم محمد يريد أن يقول لنا: إنَّ الزهراء تملك هذا المنصب، إن الزهراء تملك هذا المقام، إن الزهراء قادرة على الهداية الأمرية كما يقدر عليها سائر المعصومين، لأجل أن يبيّن لنا هذا المعنى قال: الزهراء مظهرٌ لإرادة الله، ”يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها“، مظهر لإرادته، رضاها مظهر لرضاه، إرادتها مظهر لإرادته، هي وجه الله، ربما إنسان يسمع كلمة «وجه الله» فيقول: ما معنى أن الزهراء وجه الله؟!
أنت تقرأ في دعاء الندبة، تخاطب الإمام صاحب العصر والزمان، تقول: ”أين وجه الله الذي إليه يتوجه الأولياء“، الإمام وجه الله، أي: يحكي قدرة الله، يحكي علم الله، يحكي حكمة الله، يحكي إبداع الله، الإمام المعصوم وجه الله، مظهر لقدرته، مظهر لحكمته، مظهر لآياته. الزهراء أيضًا وجه الله، يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها. هذا حديثنا في الصفحة الأولى؛ نحن لا نريد أن نطيل، فنكتفي من كل صفحة ببعض الشذرات عن السيدة الزهراء «صلوات الله وسلامه عليها».
الصفحة الثانية: الصفحة التكوينية.
كيف تكوّنت الزهراء؟ كيف تألّفت روح فاطمة وحقيقة فاطمة؟ تألّفت حقيقة فاطمة بما لم يتألف به لا نبي ولا رسول ولا وصي، خُصَّت الزهراء بحقيقةٍ لم تحصل لأحد غيرها من البشر، كيف؟
تفاحة من سدرة المنتهى ذابت بصلب المصطفى فازدهى من تربة الأرض وماء الجنانْ لو كان إنسانٌ له معنيانْ |
تألّفت من الشذا والبها وأشرقت من نوره الزهراءُ تورّدت في وجهها وجنتانْ فإنها الإنسيةُ الحوراءُ |
هذا الحديث طبعًا لا يختص بالشيعة، الشيعة يروون، صاحب البحار وغيره، وأهل السنة أيضًا يروون، راجع العسقلاني في كتابه [لسان الميزان، الجزء الرابع]، راجع عبد الرحمن الشافعي في كتابه [نزهة المجالس، الجزء الثاني]، يروون نفس الرواية، أن الله تبارك وتعالى أمر النبي بأن يعتزل خديجة أربعين يومًا، فاعتزلها، وتفرّغ للعبادة وللذكر، بعد أربعين يومًا نزل جبرئيل بتفاحةٍ من الجنة، فتناولها النبي ، والتقى بخديجة، فحملت بالسيدة الزهراء .
أحمد بن حنبل في مسنده يروي عن عائشة أنها قالت لرسول الله: أراك تكثر تقبيل فاطمة وتكثر لثمها – إذا دخلت قمت إليها وقبّلت ما بين عينيها وضممتها إلى صدرك – وهي ذات زوج؟! قال لها: ”إني أشم منها رائحة الجنة“، ثم ذكر النبي القصة، أن جبرئيل نزل عليه بتفاحة من الجنة، تناولها والتقى بخديجة، فحملت بالسيدة الزهراء .
نحن عندما نتأمل.. نحن لا نقرأ الروايات قراءة عابرة ونمشي عنها، بل نقف، نتوقف في مدلول الروايات، ماذا تعني هذه الرواية؟ ماذا يعني أن الزهراء تألّفت من ثمر الجنة، أو تألّفت من تفاحة من الجنة؟ أنت سمعت أو مرت عليك نظرية الفلاسفة التي تسمى بالحركة الجوهرية، فما معنى هذه النظرية؟ أشرح لك النظرية وأربطها بهذه الرواية.
الفلاسفة يقولون: الحركة قد تكون حركةً مكانيةً، وقد تكون حركةً جوهريةً. الحركة المكانية ما معناها؟ أنت تأتي من خارج الحسينية وتدخل وتجلس، هذه حركة، لكن هذه الحركة مكانية، انتقال من مكان إلى مكان، وأحيانًا تكون الحركة حركة جوهرية وليست مكانية، أنت الآن جالس أمامي، أنت لا تتحرك، وأنا أطرح عليك معلومات، وأنتقل من معلومة إلى معلومة أخرى، عقلك يتحرك، أنا أتحدث وعقلك يتحرك مع المعلومات التي أشرحها لك، والتي أنقلها لك، هذه حركة العقل ليست حركة مكانية، العقل لا ينتقل من مكان إلى مكان، هذه تسمى حركة جوهرية، العقل يتحرك في صميم ذاته، في جوهر ذاته، هذا يسمى بالحركة الجوهرية.
نفس الشيء بالنسبة للنطفة، عندما يلتقي الزوج بالزوجة، والنطفة تعلق بجدار الرحم، إذا علقت النطفة بجدار الرحم، هي ليست عندها حركة مكانية، لكن عندها حركة جوهرية، هذه النطفة العالقة بجدار الرحم تتحرك، تتحرك باتجاهين: اتجاه مادي، واتجاه تجريدي. الاتجاه المادي: تنتقل النطفة من طور إلى طور، ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾، ينتقل من طور إلى طور، القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا﴾، إذن هناك انتقال من طور إلى طور، هذا نسميه اتجاهًا ماديًا.
هناك اتجاه آخر للحركة – حركة النطفة – يوازي هذا الاتجاه تمامًا، هذا اتجاه تجريدي، النطفة تنتقل من لون من ألوان الحياة إلى لون آخر من ألوان الحياة، النطفة ليست كائنًا ميتًا، ليست مثل التراب، النطفة كائن يختزن الحياة، يحمل في قلبه بذرة الحياة، النطفة كائن حي. إذن، هذه الحياة الموجودة داخل النطفة طاقةٌ تتنقل من شكل إلى شكل، أولًا حياة نباتية” حياة نمو، ثم حياة حيوانية: حياة الإحساس، ثم حياة إنسانية: حياة العقل والفكر.
إذن، النطفة تتحرك في اتجاه مادي «نطفة، علقة، مضغة» وتتحرك في اتجاه تجريدي «حياة نباتية، حياة حيوانية، حياة إنسانية». إذا وصلت إلى النهاية – نهاية الحركة – النطفة بعد 14 أسبوعًا تصل إلى نهاية الحركة، تكتسب الروح، تكتسب النفس، فالنفس والروح التي تكتسبها النطفة نتيجة حركة، حركة خاضتها النطفة إلى أن صارت مؤهلة ومعدة لأن تكتسب الروح الإنسانية، لأن تكتسب النفس الإنسانية.
إذن، الروح تأتي بعد الحركة، بعد حركة جوهرية في صميم النطفة وفي صميم المادة تأتي الروح. بناء على هذا، إذا كانت النطفة طاهرة تأتي الروح طاهرة؛ لأنها جاءت بعد حركة من النطفة، فإذا كانت النطفة طاهرة أصبحت الروح طاهرة، لأنها جاءت نتيجة حركة جوهرية في داخل النطفة، ولذلك أنت تقرأ في الأحاديث الشريفة، كما ورد عن النبي محمد : ”إنَّ ابن الزنا ليحنّ إلى الخطيئة التي وُلِد منها“، تأثير النطفة على الروح، الروح نتيجة حركة النطفة، إذا النطفة كانت عن حرام، وكانت تعيش اضطرابًا نفسيًا حين وضعها، تنعكس على الروح، الروح وليدة حركة النطفة، فلا بد أن تكون النطفة طاهرة.
ولذلك أنت تقرأ في الأحاديث الواردة عن الإمام الصادق أنه يكره أن يباشر الرجل زوجته مستقبلًا للقِبْلة، يستحب أن يباشر الرجل زوجته وهو على طهارة ووضوء، كل هذا ينعكس على النطفة، فينعكس على حركتها، فينعكس على الروح التي تولّدت نتيجة هذه الحركة، ونتيجة هذا المسار.
من هنا نفهم، الله تبارك وتعالى أراد لهذه الروح – روح السيدة الزهراء – أن تكون أمًا لأحد عشر معصومًا، لأحد عشر إمامًا، لذلك يجب أن تكون نطفتها طاهرةً بمعنى الكلمة، نطفة فيها سمات الجنان، وفيها سمات الصفاء، وفيها سمات النقاء، وفيها سمات الطهارة، ولذلك نزلت التفاحة من الجنة، فتكوّنت منها نطفة السيدة الزهراء «صلوات الله وسلامه عليها».
فضيلة تبتلها عن الدماء:
من هنا، أريد أن أنقلك إلى موضوع مختصر يتعلق بهذه النقطة. أنت تسمع أن الزهراء سمّيت البتول؛ لأن الله بتلها من الحيض والنفاس، هذا الدم الذي يخرج كل شهر أو عند الولادة بالنسبة للمرأة، الله بتل الزهراء منه. يأتيك بعض الكتاب ويقول لك: هذا مرض! المرأة التي لا تحيض مريضة؛ لأن طبيعة هرمونات جسد الأنثى أن يؤدي إلى نزول هذا الدم شهريًا من المرأة، فإذا لم تنزل دمًا فهي امرأة مريضة، إذن هي امرأة شاذة، فعدم الحيض نقص وليس كمالًا، عدم الحيض مضرة، مرض، وليس كمالًا حتى تُمْدَح به الزهراء، هذا ذم للزهراء وليس مدحًا لها! بعض الأقلام هكذا تكتب، فكيف نناقش هذا الكلام؟ نقول:
أولًا: جسم الزهراء يختلف عن غيرها؛ لأن الروايات الصحيحة ذكرت أن جسمها تألّف من تفاحة من الجنة، فكيف تذهل عن هذه الحقيقة؟! لو كان جسمها كسائر الأجسام لكان عدم الحيض نقصًا ومرضًا فيها، أما إذا كان لها جسم خاص، كان لها تركيبة مادية خاصة، وهي أنها تألّفت من تفاحة الجنة، من ثمار الجنة، إذن أي غرابة في أن يكون خصائصها الجسمية تختلف عن خصائص الأجسام الأخرى؛ لأنها تكونت مما لم يتكون منه جسم آخر؟! هذا ليس أمرًا غريبًا.
ثانيًا: الحيض أو النفاس، فترة الدورة الشهرية التي تمر بالمرأة، أليست فترة حرجة على المرأة؟ المرأة في فترة الدورة الشهرية تصاب باضطراب نفسي، تصاب بتوتر نفسي، تصاب بقلق داخلي، المرأة في فترة الدورة يضعف تركيزها العقلي، لذلك أسقط الله عنها الصلاة، أسقط عنها الصلاة لأنها في هذه الفترة يضعف تركيزها العقلي، وتصاب باضطراب وتوتر نفسي، فشاءت حكمة الله أن يصون هذه الجوهرة القدسية لكيلا تمر بما تمر به النساء من التوتر والاضطراب النفسي، لكيلا تمر بما تمر به النساء من ضعف في التركيز العقلي، لكي تكون مظهرًا للعصمة والطهارة والنقاء في تمام أحوالها ومراتبها، فسمّيت البتول لأن الله بتلها من الدم.
الصفحة الثالثة: الصفحة العلمية.
نكتفي في هذه الصفحة بما يسمّى بمصحف فاطمة، فما هو مصحف فاطمة؟ الرواية عن الإمام الصادق رواية معتبرة: لما قُبِضَ رسول الله دخل على فاطمة غمٌّ شديدٌ، فنزل ملكٌ يحدّثها، تسمعه ولا ترى شكله، وكانت تلقي الحديث الذي تسمعه من الملك على الإمام أمير المؤمنين وهو يدوّنه، فسمّي مصحف فاطمة. أنت تأتي وتسمع الكلمات إلى يومنا هذا: والله هؤلاء كفار! عندهم مصحف غير المصحف المعروف، والملائكة تنزل على أئمتهم، فماذا يريد أن يقول هؤلاء؟! نقول: أنت تأمل، تدبّر قليلًا، شيئًا فشيئًا، واحدةً فواحدة.
أولًا: هل التحديث – تحديث الملائكة للإنسان – أمر ممكن، أم هو أمر مستحيل؟ طبعًا أمر ممكن وواقع، القرآن الكريم نفسه يقول: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾، ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾، الملائكة تحدثت مع مريم، ومريم بشر، ما كانت من الأنبياء، الملائكة تحدثت مع مريم وهي ليست من الأنبياء، فما الذي يمنع أن تتحدث مع فاطمة، والتي قد صرّح أبوها المصطفى: ”أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين؟ قالت: يا رسول الله، ومريم؟ قال: مريم سيدة نساء عالمها، وأنتِ سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين“؟! إذا صح في مريم صح في فاطمة، فلماذا أنت مستغرب؟!
أنت راجع صحيح مسلم، ترى حديثًا عن النبي : ”لقد كان في أمم قبلكم أناس محدّثون“ قبل أمتكم هذه كان هناك أناس تحدثهم الملائكة، ”فإن كان في هذه الأمة أحد فهو عمر“! موجود في صحيح مسلم، فهل يصح في عمر ولا يصح في الزهراء؟! لماذا؟! إذا كان أمرًا غير ممكن فهو غير ممكن لأي أحد، وإذا كان أمرًا ممكنًا وواقعًا، وقع لمريم، أو وقع لغيرها، فلماذا لا يقع للسيدة الزهراء ؟! هذا أولًا.
ثانيًا: كلمة مصحف تعني مجمع صحف، تجمع بعض الصحف في ملف، يسمى الملف مصحفًا، ليس المقصود بالمصحف القرآن، مصحف يعني مجمع صحف، وهذا كان مجمعًا لعدة صحف، فسمّي مصحفًا، وليس المراد بالمصحف القرآن الكريم.
ثالثًا: أنت اقرأ الروايات، روايات أهل البيت، الحسين بن أبي العلاء في رواية معتبرة عن الإمام الصادق يقول: ”وإن عندنا مصحف فاطمة، لا أزعم أنه قرآن“ هو الإمام يقول ”لا أزعم أنه قرآن“، أنا لا أقول هو قرآن، ”ولكن فيه حديث ما كان وما يكون“، أي أنه كتاب تاريخي ليس إلا، مجرد كتاب تاريخي، مصحف فاطمة كتاب تاريخي، أخبرت به السماء، دوّنه الإمام أمير المؤمنين ، سمّي بمصحف فاطمة، لا أكثر من ذلك، فلماذا تهوّل القضية وتعظّمها؟!
الزهراء وعلم التأويل:
رابعًا: افترض أن الزهراء نزل عليها من العلم ما لم ينزل على غيرها، نزل عليها علم التنزيل وعلم التأويل، ما هو الفرق بينهما؟ علم التنزيل هو تفسير الآيات، مثلًا: قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾، لو سألك شخص: ما هو معنى ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾؟ لماذا لم تقل الآية: امسحوا رؤوسكم؟ الآية قالت: اغسلوا وجوهكم، ولم تقل: بوجوهكم، فعرفنا أن الوجه يغسل، ولكن لم تقل: امسحوا رؤسكم، بل قالت: اسمحوا برؤوسكم، فلماذا هذه الباء؟ اقرأ كل كتب التفسير لإخواننا المسلمين من أهل السنة، لا يجدون تفسيرًا صحيحًا للباء، التفسير عندنا، عند من عندهم علم التنزيل.
زرارة كان من أهل السنة، ثم استبصر وتشيع، وصار من فقهاء أهل البيت ، زرارة يسأل الإمام الصادق : من أين علمتَ أن المسح ببعض الرأس؟ لماذا أنتم الإمامية تمسحون بعض الرأس ولا تمسحونه كله؟ قال: لمكان الباء، لو كان المسح لتمام الرأس لقالت: وامسحوا رؤوسكم، لكنها قالت: وامسحوا برؤوسكم، فعلمنا ببركة الباء أن المسح لبعض الرأس، وليس لتمام الرأس.
علم التنزيل هو معرفة النكات الدقيقة في ألفاظ القرآن الكريم. أنت عندما تفتح تفسير الطبري أو تفسير ابن كثير مثلًا تجد: قال قتادة وقال الحسن البصري وقال فلان.. هذا قتادة الذي يعتبر مصدرًا للتفسير دخل على الإمام الباقر ، قال له الإمام الباقر: ”يا قتادة، بلغني أنك تفسّر القرآن؟ قال: نعم، قال: من أين تفسّره؟ إن كنت تفسّره من عقلك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت تفسّره من الرجال فقد هلكت وأهلكت، إنما يعرف القرآن من خوطب به، وما هو إلا عند الخاصة من ذرية نبينا محمد ، وما ورّثك الله من كتابه حرفًا“. هذا نسمّيه علم التنزيل.
أما علم التأويل فمعناه رد المتشابهات إلى المحكمات، القرآن يقول: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ أي: القواعد العامة في الكتاب ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾، التأويل من الأَوْل، والأَوْل يعني الرجوع، تُرْجِع المتشابهات إلى المحكمات، إذا أرجعت المتشابهات إلى المحكمات، إذا أرجعت المتشابهات إلى المحكمات عرفت تأويل هذه الآية، هذا يسمّى بعلم التأويل. نزل على الزهراء علم التنزيل وعلم التأويل، فكانت مصدرًا من مصادر علم القرآن، الإمام العسكري يقول: ”نحن حجج الله على الخلق، وفاطمة حجةٌ علينا“، كيف تكون فاطمة حجة على الأئمة؟
لأنها مصدر من مصادر علومهم، بعض العلوم ما وصلت إلى الأئمة إلا عن طريق الزهراء، لولا الزهراء لما وصلت إلى الأئمة بعض العلوم التي نزل بها مصحف فاطمة. لا تستغرب من هذا، أنت ما رأيك في موسى بن عمران؟ أليس موسى بن عمران من أولي العزم؟! أليس أفضل أهل زمانه؟! لكنه استفاد بعض المعلومات من الخضر، كيف يستفيد موسى معلومات من غيره؟! لا يوجد مانع، موسى حجة، والخضر أيضًا كان حجة، وقد جعل الله الخضر مصدرًا من مصادر علم موسى. كذلك الأئمة حجج، والزهراء حجة، وقد جعل الله الزهراء مصدرًا من مصادر علم الأئمة من أهل البيت .
عندنا رواية صحيحة معتبرة، لا تقل أنني آتي بروايات من هاهنا وهاهنا! بل هي رواية معتبرة، ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾، في بعض الروايات المعتبرة عن الإمام الصادق: ”ليلة القدر: أمي فاطمة“. القرآن نزل في ليلة اسمها ليلة القدر، فما معنى أن ليلة القدر فاطمة؟ يعني نزل علم التأويل وعلم التنزيل على روح فاطمة. كما نزل القرآن في ليلة سمّيت بليلة فاطمة، نزل علم التنزيل وعلم التأويل على قلب فاطمة، فصارت كليلة القدر في نزول القرآن فيها. ألم تسمع بنظرية البطون؟ ”إن للقرآن سبعين بطنًا“، القرآن له ظهر وله بطن، آية واحدة تحمل عدة معانٍ، ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ لها معانٍ، من معانيها: هذا الزمن، ليلة 23 من شهر رمضان، ومن معانيها: فاطمة الزهراء «صلوات الله وسلامه عليها».
ونحن ما نقوله كله مجرد قشور، حروف، وإلا معرفة الزهراء لا يمكن لا لي ولا لك ولا لأي أحد، ورد عن الإمام الصادق : ”إنما سمّيت فاطمة لأن الله فطم الخلق عن معرفتها“، نحن مجرد قشور نتكلم، مجرد كلمات عابرة، وإلا لا نصل إلى حقيقة معرفة السيدة الزهراء.
الصفحة الأخيرة: الصفحة التربوية.
أول بيتٍ أصبح مصدرًا للإشعاع، ومصدرًا للعطاء، هو بيت علي وفاطمة، جديرٌ بنا هذه الليلة أن نتأمل في هذا البيت العظيم، أن نقرأ مظاهر هذا البيت العظيم، هناك عدة مظاهر تربوية يتمتع بها هذا البيت العظيم، البيت الفاطمي العلوي الحسني الحسيني الزينبي، بيت علي وفاطمة.
المظهر الأول: البساطة والبُعْد عن الدنيا.
الإمام علي يتحدث عن بيته، يقول: ”كان لنا نطعٌ من أُدُم“ أي: من جلد، ”وكان لنا وسادةٌ محشوةٌ بليف النخل، وقربةٌ للماء، وقعبٌ للبن، وسريرٌ من سعف النخل، ورحى نطحن بها الدقيق“ فقط، هذا بيت علي وفاطمة. تعال وانظر إلى بيوتنا، بيوت الترف، بيوت البذخ، بيوت المبالغة والإغراق في مظاهر الترف وفي مظاهر البذخ وفي مظاهر الزينة، وانظر إلى بيت علي وفاطمة، بيت يحكي البساطة، يحكي القناعة، يحكي الزهد والإعراض عن الدنيا، ليس المطلوب منا أن نصبح كعلي وفاطمة، ولكن المطلوب منا على الأقل أن نعيش بالمستوى المتوسط، وإن كنا نقدر على أعلى مستوى، أن نعيش بالمستوى المتوسط، حتى نتذكر فقر الفقراء، ونتذكر ضعف الضعفاء، نعيش بنوع من البساطة، في أثاثنا، في بيوتنا، في حاجاتنا، حتى نشعر بآلام الآخرين ومعاناتهم.
المظهر الثاني: التعاون بين الزوجين.
كيف كان علي مع فاطمة؟ كان علي يذوب حبًا في فاطمة، وكانت فاطمة تذوب حبًا في علي.
قد زُوِّجَت في السما بالمرتضى شرفًا هي النور من نورٍ وبالنور زُوّجَت فنور علي قد غشى نور فاطمٍ |
والشمس يقرنها في الرتبة القمرُ تبارك ربٌّ فيهما جمع الخيرَ فأولدها نجمًا وأعقبها بدرًا |
عليٌ يقول: ”كفلت لي فاطمة الطحن بالرحى وقمَّ الثياب، وكفلتُ لها قمَّ البيت وجمع الحطب“، كانا يتعاونان على أمور المنزل، كانا يتعاونان على أمور البيت، أرادا بذلك أن يقولا لأي زوجين أن سعادة الأسرة في تعاون الزوجين، إذا أراد الأبوان أن يتعلم أطفالهما روح التعاون، روح التعاطف، روح الأخوة، فليتعاون الأبوان كي يقتدي بهما الأولاد في التعاون، وفي المحبة، وفي التعاطف، وفي التقارب، هكذا كان علي وفاطمة.
المظهر الثالث: مظهر العبادة.
بيت العبادة بيت علي وفاطمة، علي يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، يعني ثمان ساعات يستغرقها من اليوم في العبادة، وفاطمة إذا قامت إلى محرابها لا تنفتل حتى تتورم قدماها من طول الوقوف بين يدي ربها. بيت غارق في العبادة، غارق في الذكر، غارق في التسبيح، أما سمعت قصة تسبيح فاطمة؟! يقول عليٌ : “لقد طحنت بالرحى حتى مجلت يداها، وأثّر في صدرها، وقمّت البيت حتى اغبرت ثيابها، فأصابها من الضعف ما أصابها، فقلت له: سلي أباكِ خادمًا، فأقبلت إليه وحوله أناس يتحدثون، فخجلت ورجعت إلى المنزل، علم الرسول بها، أقبل إليها وهي متلحفة بفراشها، ما عندك يا فاطمة؟ استحت أن تقول له شيئًا، قال أمير المؤمنين: قلت له: يا رسول الله، هي تخجل، هي كانت تريد أن تسألك خادمًا، قال: ألا أخبركما بما هو خيرٌ لكما من الخادم؟ إذا قمتما إلى منامكما أو من صلاتكما فسبّحا الله ثلاثًا وثلاثين، واحمداه ثلاثًا وثلاثين، وكبّراه أربعًا وثلاثين – على اختلاف الروايات في التقديم والتأخير – وسمّي تسبيح الزهراء.
يقول الإمام الصادق : ”إنا نُلْزِم أولادنا بتسبيح الزهراء كما نُلْزِمهم بالصلاة، فما لزم عبدٌ تسبيح الزهراء فشقي أبدًا“. علّموا أبناءكم تسبيح الزهراء، من أفضل المستحبات تسبيح الزهراء، ليس في خصوص الصلاة فقط، بل في جميع الأوقات. تسبيح الزهراء يكتب لك الأجر والسعادة، ويرفع عنك الغمّ والنكد من نفسك. إذن، بيت الزهراء بيت العبادة، بيت التسبيح.
تعال وانظر إلى بيوتنا، بيوت خلت من ذكر القرآن، خلت من التسبيح، خلت من مظاهر العبادة، بيوت تحدث عنها النبي محمد : ”البيت الذي يُقْرَأ فيه القرآن تحضره الملائكة، تهجره الشياطين، يضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدري لأهل الأرض، والبيت الذي يُعْزَف فيه الغناء تهجره الملائكة، وتحضره الشياطين“. بيوتنا بيوت موسيقى وغناء، وألوان من هذه الصور، بيوت بعيدة عن التسبيح، وعن الذكر، وعن التعلق بالعبادة. إذن، أيننا عن بيت علي وفاطمة؟! بيت الصلاة، وبيت العبادة، وبيت العطاء.
البيت الذي كان رسول الله حبًا لهذا البيت يقف على بابه عند صلاة الفجر في كل ليلة ويقول: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، الصلاة الصلاة! ثم إذا فرغ من صلاته رجع مرة أخرى لبيت علي وفاطمة، وطرق الباب: فاطمة، أأدخل؟ تقول: أبه، البيت بيتك، لا تحتاج إلى إذن.
اترك تعليقاً