|
بسم الله الرحمن الرحيم
ورد عن الرسول محمد أنه قال: ”فاطمة بضعة مني يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها“
صدق الرسول الكريم
هناك ثلاثة أدوار في مسيرة الزهراء تستحق الوقوف عندها بخشوع وإكبار:
الدور الأول: الدور الرسالي.
والذي تجسد في إصرار الزهراء على المطالبة بأرض فدك، أرض فدك نخيل مترامي الأطراف بين المدينة وخيبر، وكان هذا النخيل من أكبر الموارد الاقتصادية لأهل المدينة لسعته وكثرة نخيله وترامي أطرافه، فدك من الفيء الذي وصل إلى النبي ، حيث قالت الآية المباركة:﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿6﴾ مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾.
فدك من الفيء؛ لأنها لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، يعني فتحت صلحًا ولم تفتح بالسلاح، وكل أرض تفتح صلحًا فهي خالصة للنبي بحكم القرآن الكريم، ﴿مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ الرسول الأعظم وهب فدكًا في حياته للسيدة الزهراء لعلمه بأنها ستكون مشكلة حول هذه الأرض، وستصبح هذه الأرض رمزًا لقضية مهمة، وهي قضية مظلومية الزهراء سلام الله عليها. وهب هذه الأرض للزهراء، وبقي عامل الزهراء عليها إلى أن توفي رسول الله ، ففدك كانت تحت يد الزهراء عند وفاة أبيها المصطفى . بعد وفاة النبي أقامت الزهراء دعويين:
الدعوى الأولى: المطالبة بفدك كنحلة.
طالبت بفدك كنحلة، قالت فدك وهبها لي أبي، نحلها إياي أبي وأنا أطالب بما وهبه لي أبي، هنا الطرف المقابل طالبها بالبينة، قال لها: أقيمي بينة على أن فدك نحلت لك من قبل أبيك رسول الله ، فأشهدت أمير المؤمنين وأشهدت الحسنين وأشهدت أم أيمن، فردوا جميع هذه الشهادات وقالوا: أما علي فهو زوجها وأما الحسنان فهما ابناها وأما أم أيمن فهي تحت ظل بيت علي، يعني أنها تعيش معهم في منزل واحد، فهؤلاء يجرون النار إلى قرصهم، لذلك شهادتهم متهمة، شهادتهم في محل التهمة، فهي مرفوضة. وهنا يتبين الخلل الفقهي عند جميع المسلمين لا خصوص الشيعة، عند جميع المسلمين هذه المحاكمة مشتملة على الخلل.
أولا: الزهراء ذات يد على الأرض، وذو اليد لا يطالَب بالبينة بإجماع المسلمين، أنا عندما يكون عندي بيت، عندما أكون أسكن في بيت معين، ويأتي شخص آخر ويقول لي: لا، هذا ليس بيتك، الشخص الآخر هو الذي يطالَب بالبينة، وأما الذي يسكن في البيت فلا يطالَب بالبينة، من يسكن في البيت صاحب يد وصاحب اليد لا يطالب بالبينة، والزهراء كانت ذات يد على أرض فدك عند وفاة النبي ، وهذا ما أخبر به الإمام أمير المؤمنين : ”كانت تحت أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت بها نفوس قوم وسخت بها نفوس قوم آخرين“.
ثانيًا: صحيح أن عليًا زوجها والحسنين ابناها ولكنهم من مصاديق آية التطهير: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾وهذا ما احتج به الإمام أمير المؤمنين: ”لو أن رجلًا من المسلمين أقام شهودًا على أن فاطمة بنت محمد قد أتت بفاحشة أكنت تقيم عليها الحد؟ قال: بلى أقيم عليها الحد، قال: إذن خالفت كتاب الله الذي يقول: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾“.
مشهورة قضية خزيمة بن ثابت، ويذكرها الطبري ويذكرها أحمد بن حنبل في مسنده، أن الرسول داعاه رجل في جمله، كان بيد النبي جمله، أقبل رجل قال: هذا الجمل لي وقد أخذ مني، الرسول نظر من حوله، قال: من يشهد أن هذا الجمل لي؟ قال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أن هذا الجمل لك، قال: كيف عرفت ولم تحضر وقت شرائه؟ كيف عرفت أنه لي؟ قال: يا رسول الله! أنت تأتينا وتخبرنا عن السماء وتقول: قالت السماء صلوا وصوموا وحجوا وأعطوني الزكاة من أموالكم فنصدقك بكلامك ونعطيك زكاة أموالنا بلا تردد ولا نصدقك في جمل؟! أنت تخبرنا عن السماء وتأخذ زكاة أموالنا فنصدقك على ذلك ولا نصدقك على جمل؟! هذا كيف يجتمع؟! الرسول أجاز شهادته «شهادة خزيمة» واعتبرها شهادتين فسمي بذي الشهادتين.
يعني المعصوم لا يُكَذب، المعصوم لا يطلب منه بينة، بما أن فاطمة من أهل آية التطهير، بما أن عليًا من أهل آية التطهير، بما أن الحسنين من أهل آية التطهير، فلا مجال بمطالبتهم بالبينة، ولا مجال لتكذيبهم، ولا مجال للتردد في قبول دعواهم.
الدعوى الثانية: دعوى الميراث.
قالت: افترض جدلًا أن النبي ما وهبني فدكًا وما نحلها لي في أيام حياته، على أي حال هي ميراث لأنها كانت ملكًا لرسول الله فهي تركته، والوارث الوحيد له بعد زوجاته هي ابنته، إذن فدك ميراث، تمسكًا بالعمومات القرآنية: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ﴾. الطرف المقابل قال لها: نحن سمعنا من رسول الله أنه قال: ”نحن معاشر الأنبياء لا نورث“، نحن هكذا سمعنا وهذا الحديث حجة علينا فلا نستطيع أن نورث ورثة النبي عملًا بهذا الحديث. وهنا تبدو أوجه الخلل أيضًا، الخلل الفقهي عند جميع المسلمين.
الخلل الأول: الطرف المقابل جعل نفسه خصمًا وحكمًا في آن واحد، هو خصم للزهراء لأنها تطالب بفدك وهو يرفض، وهو في نفس الوقت القاضي والحكم في هذه الخصومة! ولا يمكن في الفقه الإسلامي أن يكون شخص واحد هو خصم وهو الحكم في قضية واحدة، هو الخصم وهو القاضي في قضية واحدة، هذا أمر غير ممكن فكيف اجتمعا في شخص الطرف المقابل للسيدة الزهراء سلام الله عليها؟!
الخلل الثاني: أنه استشهد بحديث يدعي أن الأنبياء لا يورثون، فاحتجت الزهراء في المقابل بأن القرآن صريح في أن الأنبياء يورثون، ”أفعلى عمد تركتم كتاب الله وراء ظهوركم إذ قال: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا ﴿5﴾ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾“، إذن القرآن صريح في أن الأنبياء يرثون ويورثون، فلماذا الزهراء استثنيت من هذه العمومات القرآنية؟!
الخلل الثالث: هذا الحديث الذي ينسب إلى النبي المصطفى ”نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة“ من يشهد على صحته؟ طيب حديث يخصص القرآن لا بد من أن يثبت بشكل قطعي، من يثبت أن هذا الحديث ورد عن النبي ؟ بحث الطرف المقابل عمن يشهد له فرأى أعرابيًا واحدًا شهد بأنه سمع هذا الحديث من النبي ، ولم يشهد له أحد، يقول ابن عباس: أعرابي بوّال على عقبيه، قُبِلَت شهادته في حديث نُسِبَ إلى النبي ولم تقبل شهادة أمير المؤمنين سلام الله عليه في انتساب فدك إلى الزهراء وفي نحلة الرسول الأعظم فدكًا إلى السيدة الزهراء ، هذه من المفارقات العجيبة.
لماذا الزهراء أصرت على فدك واحتجت وجادلت؟ هل لأنها تطلب دنيا؟! أم لأنها تطلب أموالًا!؟ أم لأنها تطلب ثروة؟! وهي تعلم بأنها قصيرة العمر، وأنها أول الناس لحوقًا بالنبي وقد أخبرها النبي كما روت عائشة قالت: أسر إليها رسول الله فبكت ثم أسر إليها فضحت، فقلت لها: ما أبكاك وما أضحكك؟ قالت: أسر إلي أولًا أنه نعيت إليه نفسه فبكيت ثم أسر إلي ثانيًا قال: أنت أول أهل بيتي لحوقًا بي، فابتسمت… الزهراء كانت تعلم بقصر عمرها والتحاقها بالنبي المصطفى ، فما الذي دعاها إلى الإصرار على هذه الثروة والإصرار على المطالبة بفدك؟ لماذا؟ أرادت الزهراء بالمطالبة بفدك تحقيق ثلاثة أهداف:
الهدف الأول: إضعاف المورد الاقتصادي للحكومة آنذاك.
أكبر مورد اقتصادي هو فدك، ثروة ضخمة جدًا، كانت تقدّر بآلاف الأمنان من الرطب والتمر سنويًا، فكانت عصبًا أساسيًا لاقتصاد الدولة، وخزينة أساسية لاقتصاد الدولة، فإذا سحبتها الزهراء انهارت الدولة آنذاك انهيارًا اقتصاديًا، وكان هذا مجالًا رحبًا لتوطيد الأرضية لخلافة الإمام أمير المؤمنين .
الهدف الثاني: أن فدك كانت رمزًا للخلافة.
اتخذته الزهراء رمزًا للخلافة، اتخذته الزهراء رمزًا للقيادة، وهذا ما صرّح به عدة من الأئمة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين». هارون الرشيد لما استلم الحكم أراد أن يظهر ولاءه لأهل البيت في بداية أمره، فعرض على الإمام الكاظم تسليمه فدكًا، قال: أنا أسلم لكم فدكًا، أرجعها لكم بتمامها، كتب إليه الإمام الكاظم : إذا أردت أن ترجعها فإن فدكًا من شمال إفريقيا إلى سيف البحر ومن الشام إلى اليمن، قال: ما سمعنا أن فدكًا بهذه المساحة وبهذا المقدار.
أراد الإمام الكاظم أن يقول له: فدك ليست أرضًا، فدك ليست نخيلًا، فدك ليست ثروة مادية، فدك هي الخلافة، إذا أردت أن تسلم فدك ففدك كانت رمزًا للخلافة، يعني أن تسلم الإمبراطورية الإسلامية بتمام أصقاعها وأرجائها إلى أهل النبوة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، هذه هي فدك. الزهراء ما جادلت وما دافعت وما نهضت إلا للأجل المطالبة بحق الأمة في القيادة الرشيدة آنذاك في خلافة أمير المؤمنين .
ابن أبي الحديد يذكر أنه سأل أستاذه علي بن المفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد، سأله، قال له: ما ضر فلانًا لو أعطى فدكًا لفاطمة؟ ماذا كان يضره؟ قال: لو أعطاها اليوم فدك لجاءت اليوم الثاني تطالب بخلافة بعلها وزوجها منه، فأراد أن يقطع عليها الباب من أول الأمر. إذن من الواضح أن الجميع كان ملتفتًا إلى أن مسألة فدك هي مسألة شكلية، وهي مسألة صورية، وأن الهدف الأساس وراء ذلك هو المطالبة بالخلافة.
الهدف الثالث: تسجيل المظلومية.
كانت الزهراء تريد من خلال المطالبة بفدم أن تسجل أول مظلومية لأهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، أن يقترن تاريخ أهل البيت بتاريخ المظلومية والحزن والأسى والكآبة، فأرادت أن تصبغ تاريخ أهل البيت بصبغة المظلومية وبصبغة الاهتضام، وبصبغة الحزن والأسى، منذ أول يوم من أيام وفاة رسول الله .
الدور الثاني: الدور الجهادي.
ضحّت ببدنها وضحّت بشبابها وضحّت بعنفوان عمرها، ضحّت في سبيل حق الإمام أمير المؤمنين ، فهي أول من ضحّى في سبيل حق الخلافة، وأول شهيد في هذا الطريق، وأول من خط تاريخ التضحية وتاريخ الدماء السيدة الزهراء .
وخطبت في النساء: ”ويحهم! أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبن بأمور الدنيا والدين؟! ألا ذلك هو الخسران المبين! أما والله لو تكافوا عن زمام نبذه إليه رسول الله لاعتلقها، ثم لسار بهم سيرًا سجحًا، لا يكلم خشاشه، ولا يتتعتع راكبه، ولأوردهم منهلًا رويًا فضفاضًا، لا تطفح ضفتاه، ولا يترنق جانباه، ولأصدرهم بطانًا، ونصح لهم سرًا وإعلانًا، ولم يكن يُحْلَى من الغنى بطائل، ولا يحظى من الدنيا بنائل، غير ري الناهل، وشبعة الكافل، وماذا نقموا من أبي الحسن؟! نقموا منه والله نكير سيفه، وقلة مبالاته بحتفه، وشدة وطأته، ونكال وطأته، وتنمره في ذات الله، واجتهاده في أمر الله“.
الدور الثالث: الدور الاجتماعي.
كانت الزهراء عطاءً متدفقًا، كانت الزهراء ضميرًا حيًا بآلام مجتمعها ومعانات مجتمعها، كانت الزهراء مصدرًا للعطاء والخير، هي التي ربت أبناءها المعصومين على العطاء والبذل والتضحية، منذ ذلك اليوم وهو يوم الإطعام.
مرض الحسن والحسين فنذرت الزهراء وعلي إن شفيا أن يصوموا ثلاثة أيام، شفي الحسنان من مرضهما، بدأ الصوم من علي وفاطمة والحسن والحسين، وكانوا كل ليلة إذا أرادوا أن يفطروا ووضعوا أقراصهم للإفطار أقبل المسكين أو اليتيم أو الأسير على بابهم يسألهم الصدقة فيبادر الأطفال قبل الأبوين، يبادر الحسنان قبل أبويهما لأنهما عُلِّمَا على الصدقة، عُلِّمَا على البذل، عُلِّمَا العطاء، عُلِّمَا على التضحية، إلى أن مرت الأيام الثلاثة ولم يكونوا يذوقون إلا الماء، دخل عليهم رسول الله فرآهم يرتعشون كالفراخ فتأثر قلبه، فنزل قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴿8﴾ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾.
كانت الزهراء حتى في عبادتها وحتى في محرابها، الإمام الحسن الزكي يقول: ”ما رأيت أعبد من أمي فاطمة، وكانت إذا قامت إلى صلاتها لا تنفتل حتى تتورم قدامها من طول الوقوف بين يدي ربها، وما رأيتها دعت لنفسها قط، وإنما تدعو للمؤمنين والمؤمنات، أقول لها: أماه فاطمة، لم لا تدعين لنفسك؟ فتقول: بني حسن، الجار ثم الدار“.
كان حنانها يتدفق، كان قلبها الرحيم منهلًا على الفقراء وعلى المحتاجين وعلى المؤمنين وعلى ذريتها وعلى أبنائها، كانت الزهراء طاقة من الحنان ومن العطف ومن الرحمة، وخصوصًا على أيتامها: حسن وحسين وزينب.
——————-
موقع سماحة السيد منير الخباز حفظه الله
اترك تعليقاً