|
المدة: | 00:56:51 |
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾
صدق الله العلي العظيم
حديثنا عن عظمة أهل البيت «صلوات الله عليهم أجمعين» في عدة محاور:
المحور الأول: سر الشخصية.
علماء النفس يقولون: سر الشخصية في عطائها وإنتاجها، إذا أردت أن تكتشف شخصية فاقرأ نتاجها، واقرأ عطاءها، فإذا كان العطاء والنتاج غزيرًا مثمرًا كشف ذلك عن عمق في هذه الشخصية، وعظمة في هذه الشخصية، فمقياس الشخصية الإنسانية بعطائها وإنتاجها، وهذا هو تطبيق لقاعدة السنخية بين العلة والمعلول، التفاحة الشهية تعبّر عن جذور زكية، الزيتونة الشهية تعبر عن شجرة مباركة، عمق الأثر يدل على عمق المؤثر، غزارة الإنتاج والعطاء تدل على غزارة الشخصية وعظمتها، فهناك مشاكلة بين الإنتاج وبين الشخصية.
وهذا ما يؤكده القرآن الكريم عندما يقول: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾، ويقول القرآن الكريم: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾، وهذا ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي حيث قال: ”قيمة كل امرئ ما يحسنه“، قيمتك في عطائك، قيمتك في إنتاجك، وورد عنه : ”المرء مخبوء تحت طي لسانه لا تحت طيلسانه“، فقيمة الشخصية وسرها في عطائها وإنتاجها.
من هنا يرد علينا السؤال: نحن إذا نظرنا إلى عمالقة المجتمع البشري، نظرنا إلى فلاسفة اليونان، نرى لهم عطاء ونتاجًا فكريًا واضحًا، إذا نظرنا إلى أرباب الاختراع والاكتشاف الذين سجلوا بصماتهم الواضحة في مجال المخترعات والمكتشفات، أيضًا يعتبر هؤلاء نجومًا وعمالقة في تاريخ البشرية، فما هو نصيب أهل البيت في هذا المجال؟ قد يقول قائل: نحن إذا قمنا بالمقارنة بين ما قدّمه هؤلاء العمالقة – أرسطو، أفلاطون، أديسون، أنشتاين، نيوتن – رأينا أنهم نجوم تستحق الإجلال والإكبار، لأن عطاءهم ونتاجهم الغزير يدل على عظمة شخصياتهم.
أما إذا نظرنا إلى أهل البيت فماذا قدموا؟ لم يقدموا سوى أحكام فقهية يمكن أن يقدمها أي راو يروي عن الرسول ، لماذا أهل البيت يستحقون النجومية، ويستحقون أن نعتبرهم من العمالقة ومن الأفذاذ، مع أنهم لم يقدموا للبشرية ما قدمه الفلاسفة، ما قدمه أرباب الاختراع والاكتشاف؟! فلماذا تعظيم أهل البيت وجعلهم نجومًا في سماء المجتمع البشري؟ هذا ما نريد أن نركز عليه في المحاور الآتية من حديثنا.
المحور الثاني: العلاقة بين الإمامة والهداية.
حتى نشرح هذا المضمون نقول: المعارف البشرية تتنوع تبعًا لتنوع طرقها ووسائل الوصول إليها، عندما نريد أن نقسّم المعارف البشرية نرى أنها تنقسم إلى أربعة أقسام، لكل قسم من هذه المعارف نجوم وعمالقة.
القسم الأول: المعارف المادية.
بمعنى المعلومات التي تتحدث عن عالم الطبيعة، مثلًا: قانون الجاذبية، تحكمه في مسارات المجموعات الشمسية، هذه معلومة مادية، مثلًا دماغ الإنسان، أجزاؤه، تفاصيله، هذه معلومات مادية، هذا القسم من المعلومات الطريق إليه هو الطريق التجريبي، التجربة هي الطريق لاكتساب المعلومات المادية، وفي هذا المجال برع نجوم وبرع عمالقة، أمثال أينشتاين، أمثال نيوتن، هؤلاء عمالقة في قسم من المعلومات، وهو قسم المعلومات المادية.
القسم الثاني: المعلومات النفسية.
وهي المعلومات التي تتعلق بالنفس، كانقسام العقل إلى عقل ظاهر وعقل باطن، وانقسام السلوك إلى سلوك سوي وسلوك شاذ، وانقسام السلوك الشاذ إلى عصاب، دهان، شخصية سكباتية، هذا التقسيم الذي يذكره علماء النفس يسمى معلومات نفسية، وليس من قسم المعلومات المادية، الطريق إلى هذا القسم من المعلومات هو الطريق الوجداني، عالم النفس يقوم بالتأمل في الوجدان، يقوم بتركيز عقله على الوجدان واستقراء الحالات الوجدانية حتى يصل إلى المعلومة النفسية، في هذا المجال – مجال المعلومات النفسية – أيضًا برز عمالقة وبرزت نجوم على مستوى المجتمع البشري.
القسم الثالث: المعلومات الفلسفية.
مثلًا: عندما نقسم الوجود إلى وجود جوهري ووجود عرضي ووجود رابط ووجود رابطي، هذه التقسيمات الفلسفية، هذه المعلومة كيف يحصل عليها الفيلسوف؟ الطريق إلى هذه المعلومات هو التحليل العقلي، يقوم الفيلسوف بتحليل الوجود، بتحليل عوارض الوجود، حالات الوجود، ليصل إلى هذه المعلومة التي يسطرها، فعندنا قسم نسميه المعلومات المادية، وله نجوم وعمالقة، عندنا قسم هو المعلومات النفسية، وله نجوم وعمالقة، وعندنا قسم وهو المعلومات الفلسفية، وله نجوم وعمالقة.
القسم الرابع: المعلومات التجريدية.
عندنا قسم رابع لا يمكن أن تصل إليه إلا عبر الأنبياء والأئمة، ألا وهو المعلومات التجريدية، المعلومات الأمرية، فإن هذا الكون الذي نحن نعيش فيه ينقسم إلى عالمين: عالم الخلق وعالم الأمر، عالم الخلق هو العالم المؤلف من مادة ومدة، كل موجود له مادة ومدة يسمى من عالم الخلق، جسد الإنسان له مادة، وله مدة معينة، إذن هذا الجسد من عالم الخلق، وهناك عالم آخر ألا وهو عالم الأمر، عالم الأمر عالم مجرد، ليس له مادة ومدة، هو وجود، لكن هذا الوجود لا ينقسم إلى مادة ومدة، مع أنه نوع من الوجود، لكنه لا يتألف من مادة ومدة، فهناك عالمان: عالم الخلق، وعالم الأمر.
والقرآن الكريم أشار إلى هذين العالمين: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾، وعندما تحدث عن الجسد عبر عنه بالخلق، قال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾، لكن عندما تحدث القرآن الروح لم يعبر عنها بأنها خلق، بل عبر عنها بأنها أمر، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾، ولم يقل: من خلق ربي.
الفلاسفة وعلماء النفس وأرباب الاختراع والاكتشاف انحصرت معلوماتهم في عالم الخلق، الفلاسفة يتحدثون عن عالم الخلق، علماء النفس يتحدثون عن عالم الخلق، نيوتن وأينشتاين وغيرهما يتحدثون عن عالم الخلق، لكن هناك عالمًا غامضًا، ألا وهو عالم الأمر، عالم ما وراء المادة، عالم ما وراء هذه الظواهر المادية، هذا العالم كيف نصل إليه؟ كيف نكتشفه؟ كيف نتعرف عليه؟ لا يمكن الوصول إلى هذا العالم واكتشافه والتعرف عليه إلا من خلال الأئمة من أهل بيت محمد «صلوات الله عليهم أجمعين».
إذن، عندما نقول بأن هناك عمالقة في التاريخ، جميع هؤلاء العمالقة انحصرت معلوماتهم وعطاؤهم ونتاجهم في قسم من العالم، ألا وهو عالم الخلق، بقي عالم آخر لا يستطيع الفيلسوف ولا عالم النفس ولا نيوتن ولا أينشتاين أن يصل إليه أو أن يكتشفه أو أن يتحدث عن حرف واحد منه، ألا وهو عالم الأمر، وهذا العالم حتى نصل إليه نحتاج إلى تراث أهل البيت «صلوات الله عليهم أجمعين».
ومن هنا يتبين لنا العلاقة بين الإمامة والهداية، الإمام هو الهادي الذي يهدينا إلى هذا العالم الخاص، ألا وهو عالم الأمر، ولذلك ركز القرآن على دور الإمامة: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾، أي: يهدون إلى عالم الأمر، وقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾، ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾.
إذن، لا يستطيع أحد أن يقول: أهل البيت أفراد عاديون! ماذا قدموا لنا؟! قدموا لنا أحكامًا فقهية! لا، أهل البيت قدموا لك عطاء ونتاجًا يتحدث عن عالم آخر، وهو عالم الأمر، بحيث لولا عطاؤهم ونتاجهم لما اكتشفت هذا العالم ولم تصل إليه، فإذا كان أرباب الاختراع والاكتشاف والفلاسفة نجومًا في سماء البشرية لأنهم نقلوا لك معلومات عن عالم المادة، فأهل البيت هم النجوم في سماء البشرية لأنهم هدوا المجتمع البشري إلى العالم الآخر، ألا وهو عالم الأمر.
المحور الثالث: العطاء الإنساني في تراث أهل البيت.
هل اقتصر دور أهل البيت على بيان الأحكام الفقهية؟ هل اقتصر عطاء أهل البيت على بيان المعلومات المتعلقة بالعالم الآخر، ألا وهو عالم الأمر؟ ليس الأمر كذلك. عندما نقوم باستقراء روايات أهل البيت، عندما نقوم بتتبع تراث أهل البيت، نكتشف أن العطاء الإنساني الذي تميز به أهل بيت النبي «صلوات الله عليهم أجمعين» لم يصدر عن أي مذهب آخر، ولم يصدر عن أي علماء آخرين، ولم يصدر عن أي عمالقة آخرين، أهل البيت تميزوا بعطاء غزير ونتاج ثر في مختلف الحقول المعرفية البشرية، وهنا أذكر لك عدة أمثلة في عدة حقول.
الحقل الأول: الحقل الفكري.
هل يستطيع إنسان أن يقول: إن الذي تحدث عن المعارف الفكرية هم الفلاسفة، ديكارت، سارتر، كانت، أفلاطون، أرسطو، أين حديث أهل البيت عن عالم الفكر؟! هذا خطأ، لأنه لم يقرأ تراث أهل البيت ، الفكر – كما يذكر الفلاسفة – مكون من عنصرين: صورة ومادة، الصورة تعني كيف تنظم أفكارك تنظيمًا منتجًا، وهذا العنصر تحدث عنه فلاسفة اليونان، وأما العنصر الآخر فهو المادة، أي: ما هي المنطلقات الفكرية التي إذا انطلقت منها وصلت إلى الفكر الصائب؟ هذه المنطلقات الفكرية تسمى بالمادة، هل تحدث أهل البيت عن هذا العنصر الضروري في مجال تصحيح الفكر؟
نعم، القرآن الكريم يقول: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، الكتاب معروف، يعني يفسر لهم القرآن، لكن ما معنى الحكمة؟ الحكمة هي المنطلقات الفكرية التي إذا بدأ الإنسان بها وصل إلى الفكر الصائب، الحكمة تجلت في فم أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».
ارجع إلى نهج البلاغة، 468 مقالة صدرت عن فم أمير المؤمنين علي لا تتحدث إلا عن الفكر، لا تتحدث عن الآخرة ولا عن الموعظة ولا عن الدين، 468 مقالة علوية في نهج البلاغة تتحدث عن الفكر الإنساني بما هو فكر، تتحدث عن المنطلقات التي لو انطلق منها الإنسان لوصل إلى الفكر الصائب. ”يا كميل، القلوب أوعية، وخيرها أوعاها“، ”يا كميل، احفظ عني، فإن الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع“، ”يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال“، الإمام أمير المؤمنين عندما يتحدث ويقول: ”قيمة كل امرئ ما يحسنه“، عندما يقول: ”من شاور الناس شاركهم في عقولهم“، عندما يقول: ”العلم نوعان: مسموع ومطبوع، ولا ينفع المسموع دون المطبوع“، عندما يقول: ”ما لابن آدم والفخر، وإنما أوله نطفة، وآخره جيفة“، كل هذه المقالات تتحدث عن الفكر الإنساني.
إذن، أهل البيت قدموا عطاء ونتاجًا غزيرًا على مستوى الفكر البشري، على مستوى تصحيح الفكر وجعله فكرًا مثمرًا منتجًا، ولذلك ترى المذهب الإمامي يتميز على المذاهب الأخرى بأنه مذهب عقلاني، علماء الإمامية يقولون: أدلة الأحكام الشرعية أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، العقل أحد مدارك الاستنباط، الإمامية يقولون بأن العقل له المجال في تحديد الفروع وتحديد الأصول.
أول من تكلم، أول من تحدث في مجال علم الكلام، الذي هو علم عقلي محض، أول من تحدث في ذلك الكميت بن زياد الأسدي الشاعر المعروف، هذا الشاعر الذي يقول:
وما لي إلا آل أحمد شيعة بنو أحمد آل النبي ورهطه |
وما لي إلا مذهب الحق مذهبُ بهم ولهم أرضى مرارًا وأغضبُ |
أول من تعاطى في علم الكلام الكميت بن زياد، وهو من الشيعة، هشام بن الحكم، هشام بن سالم. أول من تحدث في علم الكلام من المذاهب الإسلامية الأخرى واصل بن عطاء، وواصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، أخذ علم الكلام عن أبي هاشم، وأبو هاشم أخذه عن أبيه محمد بن الحنفية، وقد أخذه عن أبيه أمير المؤمنين علي ، إذن مذهب التشيع، فكر أهل البيت هو فكر عقلاني، ولذلك أول الفلاسفة على مستوى الفلسفة الإسلامية هم من الشيعة، صدر المتألهين، ابن سينا، المحقق الداماد، نجوم الفلسفة هم من الشيعة الإمامية، لأن المذهب نفسه مذهب عقلاني، لأن فكر أهل البيت نفسه هو فكر يخاطب العقل ويتحدث مع العقل، فكيف يقال بأن أهل البيت لا نصيب لهم في مجال الفكر البشري، وإنما مجالهم محصور في بيان الأحكام الفقهية المروية عن الرسول محمد ؟!
الحقل الثاني: الحقل الروحي.
المجال الروحي أهمله علماء النفس، وأهمله الفلاسفة، وتحدث عنه فكر أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، أليكسس كاريل في كتابه «الإنسان، ذلك المجهول» يقول: شخصية الإنسان مؤلفة من أبعاد أربعة، كل إنسان يمتلك أربع غرائز: غريزة حب النفس، كل إنسان يحب نفسه، غريزة حب الجمال، كل إنسان يحب الجمال بمختلف صوره وألوانه، غريزة الفضول والاكتشاف، كل إنسان لديه غريزة، يريد أن يكتشف الأشياء التي حوله، يصل إلى الأشياء الغامضة.
وهناك غريزة رابعة متأصلة في شخصية الإنسان، وهي غريزة التأله، كل إنسان يمتلك غريزة التأله، كل إنسان يتعلق بشكل أوتوماتيكي بما وراء الطبيعة، قد هو لا يعرف الله ما هو، قد هذا الإنسان لا يعرف أن هناك إلهًا أو خالقًا، لكنه إذا اكتشف وجدانه يرى في وجدانه تعلقا بقوة، تعلقا بما وراء الطبيعة، تعلقا بما وراء المادة، هذه الغريزة غريزة التعلق بما وراء المادة المعبر عنها بالتأله غريزة متاصلة في كل إنسان.
ولذلك التاريخ الجيولوجي يقرر أنه لم يمر عصر على البشرية إلا وكان فيه عبادة، لم يأت عصر من دون عبادة، منذ أول بشر وطأ على الأرض إلى الآن، لا يوجد قوم من البشرية إلا وكانوا يمارسون نوعًا من العبادة، لأن غريزة التأله غريزة متأصلة في عمق الإنسان، في هوية الإنسان، لذلك نحن نتساءل: الفلاسفة، علماء النفس، أرباب الاختراع والاكتشاف، أشبعوا الغرائز الأخرى وتحدثوا عنها، لكن بقيت هذه الغريزة الرابعة، وهي غريزة التأله، من الذي تحدث عنها؟! من الذي اكتشفها؟! من الذي وضع لها ضوابط وحدودًا وطرقًا لمعالجتها؟! ليس هناك إلا تراث محمد وآل محمد.
إذن، تراث أهل البيت تحدث عن المجال الروحي الذي لم يتحدث عنه المفكرون البشريون الآخرون، وهذا المجال.. وهو تغطية حاجة الإنسان إلى التأله بوضع الضوابط والطرق التي تنمي هذه الحاجة وتصقلها وتضعها في مكانها اللائق بها. ولذلك تأتينا الصحيفة السجادية، زبور آل محمد، الصحيفة السجادية مجالها غريزة التأله، الصحيفة السجادية تتحدث عن غريزة التأله، كيف تعالج هذه الغريزة؟ كيف تنظمها؟ كيف توصلها إلى خالقها تبارك وتعالى؟ إذن تراث أهل البيت يتحدث عن مجال لم يتحدث عنه المفكر البشري أو الفيلسوف البشري الآخر.
الحقل الثالث: المجال المادي.
ربما الإنسان إذا سمع بالمجال المادي يقول: هذا ليس من اختصاص أهل البيت، لم يتحدثوا في مجال الطبيعة ومجال المادة، هذا اختصاص نيوتن وأينشتاين ونحوهما، أهل البيت لا علاقة لهم بعالم الطبيعة، لا اختصاص لهم في هذا المجال كي يتحدثوا عن معلومات في إطار هذا المجال.
ولكن هذا التصور خاطئ جدًا. ارجع إلى تراث أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، عندنا رسالة في علم الطب عن المفضل بن عمر عن الإمام الصادق روتها كتب الإمامية، ومنها الشيخ المجلسي في كتاب البحار، رسالة تتحدث عن حقائق علم الطب، وليس عن نظريات علم الطب التي تقبل الخطأ والصواب والتطوير والتكامل، هناك رسالة أخرى للإمام الرضا تسمى الرسالة الذهبية في علم الطب، الدكتور محمد علي البار أستاذ في جامعة جدة، هذا هو بنفسه، وهو ليس من الشيعة، بل هو من المذاهب الإسلامية الأخرى، هو بنفسه حقق هذه الرسالة، ونقحها، وأرجعها إلى مصادر علم الطب، وهي رواية مروية عن علي بن موسى الرضا «صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطيبين الطاهرين».
تعال إلى مجال علم الكمياء، هذا علم مادي، علم طبيعي، هل تحدث عنه أهل البيت؟ نعم، ارجع إلى ما قام به هولميارت فيما طبعه من مصنفات جابر بن حيان، جابر بن حيان له مجموعة من المصنفات، منها مصنف في علم الطب، منها مصنف في علم السحر، منها مصنف في الطلسمات، منها ثلاثة مصنفات في علم الكيمياء، هذا الباحث المستشرق البريطاني هولم ميارد سنة 1891 ترجم مصنفات جابر بن حيان من العربية إلى الإنجليزية، وطبعها في الهند، ثم أعيد طبعها في باريس سنة 1928، هذه المصنفات في علم الكيمياء علق عليها هذا المستشرق، قال: حقيقٌ بجابر بن حيان أن يعد من أساطين علم الكيمياء، هو من أساطين هذا العلم، من هو جابر بن حيان؟ ومن أين استفاد هذا العلم؟
أنت ارجع بنفسك لهذه النسخ المطبوعة، جابر بن حيان يتحدث في هذه المصنفات التي تتكلم عن علم الكيمياء ويقول مخاطبًا القارئ: وحق سيدي جعفر بن محمد لولا أن سيدي أفاض هذه العلوم لما تعلمت منها حرفًا، لا أنت ولا غيرك، ويقول في موضع آخر: قال لي سيدي – أعني جعفرًا -، قلت: جعلت فداك، قال لي: هل تعرف لم سمي الطلسم طلسمًا؟ ثم يذكر المعرفة والمقالة عن الإمام الصادق ، راجع كتاب «الإمام الصادق ملهم الكيمياء» للدكتور محمد يحيى الهاشمي، يذكر لك أصول هذه المصنفات، والوثائق التي تحف بهذه المصنفات وترجعها من قلم جابر بن حيان إلى فم جعفر بن محمد الصادق .
إذن لم ينحصر عطاء أهل البيت في مجال الأحكام الفقهية، أو في مجال المعارف العقائدية، بل عطاؤهم ونتاجهم شمل حتى عالم الطبيعة، حتى العالم المادي، تحدثوا عنه بغزارة وبإسهاب.
المجال الأخير: مجال علم الحقوق.
هل تحدث أهل البيت عن مجال الحقوق؟ نعم، وسبقوا غيرهم فيه، علي بن أبي طالب أول من تحدث في مجال نظم الحقوق في عهده إلى مالك الأشتر، هذا العهد المفصل الذي قال فيه: ”وأشعر قلبك الرحمة للرعية، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا، يغتنم أكلهم؛ فإن الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق“.
علي بن أبي طالب الذي اعتبر جميع الأديان، واعتبر جميع الملل لا تصلح أن تكون فارقًا بين إنسان وإنسان، احتفظ بالكرامة البشرية للإنسان بما هو إنسان، علي بن أبي طالب يمر مع أصحابه على كنيسة، فيقول له بعض أصحابه: يا أمير المؤمنين، هذا مكان طالما عصي فيه الله، فيقول علي: مه! لا تقل هكذا، قل: هذا مكان طالما عبد فيه الله. علي أمير المؤمنين يمر على رجل متسول في الشارع، فيقول: ما هذا؟ لأنه رئيس دولة، فلا يريد أن يرى في دولته متسولًا أو فقيرًا، قالوا له: هذا رجل نصراني كان يخدم، فكبر سنه وعجز عن الخدمة، فأصبح يتسول، قال: أعطوه من بيت مال المسلمين، ولا تدعوه يتكفف الناس بالمسألة.
إذا نظرنا إلى رسالة الحقوق الواردة عن الإمام زين العابدين ، الإمام زين العابدين تحدث عن حقوق لم تتحدث عنها لائحة الحقوق الإنسانية في هيئة الأمم المتحدة، تحدث عن حقوق لم يتحدث عنها إلى اليوم، كحق الجار، وحق الأرض، وحق الزمن، وحق السمع، وحق البصر، وحق الرجل، وحق اليد، وحق الأموات على الأحياء، هل هناك لائحة تتحدث أن للأموات حقوقًا على الأحياء حتى بعد موتهم ودفنهم؟ هل هناك لائحة تتحدث عن حق الزمن والجار عليك؟ لائحة الحقوق التي صدرت من فم زين العابدين تؤكد لنا العطاء الإنساني الغزير الذي صدر عن أهل بيت النبوة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».
إذن لا معنى أن يقال: أهل البيت أفراد عاديون نقلوا أحكامًا فقهية فقط! لا، أهل البيت تحدثوا عن عالم الأمر، ولم يتحدث عنه مفكر آخر، أهل البيت تحدثوا في مختلف حقول المعرفة: الحقل الفلسفي والمادي والروحي والحقوقي، وبهذا كان أهل البيت نجومًا في سماء المعرفة البشرية.
المحور الأخير: هل النجومية تقتصر على المعارف والعلوم؟
هل الإنسان لا يصبح نجمًا إلا إذا كان بحرًا من العلوم أو كانت له معارف تخدم المجتمع البشري، وإلا لا يستحق أن يكون نجمًا في المجتمع البشري؟ ليس الأمر كذلك، إن هنالك مجالات يستطيع بها الإنسان أن يصل إلى النجومية والتألق وإن لم يكن له أي نصيب في المعارف والمعلومات، ما هي هذه المجالات؟
مجال المبادئ، مجال القيادة المبدئية، علماء الإدارة يقولون: هنالك مصطلحات ثلاثة لا نخلط بينها: مدير، رئيس، قائد، هنالك فرق بين المصطلحات الثلاثة، نأتي للمصطلح الثالث وهو القيادة، ليست القيادة منصبًا وراثيًا ولا اجتماعيًا ولا انتخابيًا ولا عسكريًا، الإنسان لا يكتسب القيادة من عائلته ولا من منصبه ولا من الانتخاب ولا من قوته، القيادة عند علماء الإدارة تعني الموقف.
من كانت له مجموعة من المواقف المؤثرة في قيادة المجتمع البشري استحق منصب القيادة، القيادة تعني الموقف، من كانت له مواقف دفاعية عن حقوق المجتمع البشري في مجال الكرامة، في مجال العزة، في مجال الإباء، في مجال الحياة، فهو قائد. لنفترض أن أهل البيت لم يقدموا للبشرية أية معلومات، أية معارف، يكفي في عظمة أهل البيت واستحقاقهم النجومية في المجتمع البشري مواقفهم المبدئية، يكفي في علي بن أبي طالب أن يكون قائدًا مواقفه، يكفي في الإمام موسى بن جعفر أن يكون قائدًا مواقفه، يكفي في الإمام الحسين أن يكون قائدًا مواقفه، الموقف يصنع القيادة.
لأجل ذلك، عندما نأتي لسيرة علي بن أبي طالب، علي لأنه وقف مع العدالة، وأصر على تطبيق العدالة، وبذل دمه وجسمه وفكره في سبيل العدالة تشريعًا وتطبيقًا، استحق علي أن يكون قائدًا للمجتمع البشري، ونجمًا في المجتمع البشري، ”والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت“، ”والله لو كان المال لي لساويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله؟!“.
هذا علي بن أبي طالب، وهذا الحسين بن علي، مواقفه، دفاعه، بطولاته، دون العدالة، دون الإباء، دون الحرية، دون الكرامة، دون العزة، هذا العطاء الذي قدمه الحسين من أجل هذه المبادئ جعلت الحسين قائدًا إنسانيًا، جعلت الحسين نجمًا في مستوى المجتمع البشري، سواء كانت للحسين معارف أو لم تكن له معارف، مواقفه جعلته نجمًا يستحق الإكبار والإجلال من المجتمع البشري بجميع أديانه ومذاهبه.
الحسين الذي كان يقول: ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وجذور طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام“، الحسين الذي كان يقول: ”والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد. ألا وإني زاحف بهذه الأسرة، مع قلة العدد، وخذلان الناصر“.
—————————–
موقع سماحة السيد منير الخباز
اترك تعليقاً