|
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾
آمنا بالله صدق الله العلي العظيم
هناك شبهة تطرحها بعض الأقلام الإسلامية ومضمون هذه الشبهة أن العلاقة على قسمين: علاقة انتماء، وعلاقة توسيط. علاقة الانتماء هي علاقة أبناء المذاهب الإسلامية بأئمتهم، يعني أبناء المذهب الحنبلي مثلاً أو أبناء المذهب الشافعي مثلاً ما هي علاقتهم بإمامهم الشافعي؟ علاقتهم بإمامهم علاقة المتعلم بالمعلم، علاقة التلميذ بالأستاذ، فهذه علاقة معقولة ليس فيها محذور، لا محذور عقلي، ولا محذور نقلي، علاقة أبناء المذاهب الإسلامية بأئمتهم علاقة صحيحة.
بينما عندما نأتي لعلاقة الشيعة بأئمتهم، علاقة الإمامية بأئمتهم الاثني عشر ، هذه ليست علاقة تلميذ بأستاذ، ليست علاقة متعلم بمعلم، بل هي علاقة توسيط، يعني الإمامية يعتبرون أئمتهم ليسوا مجرد معلمين، لا، يعتبرون أئمتهم وسائط بينهم وبين الله، يعتبرون وسائط بين المخلوق وبين الخالق، إذن هذه العلاقة تختلف عن علاقة المذاهب الإسلامية بأئمتهم «بأئمة المذاهب الأربعة»، علاقة الإمامية بأئمتهم علاقة توسيط، وهذه العلاقة مصادمة للعقل ومصادمة للنقل، لماذا؟
أما أنها مصادمة للعقل لأن العقل عندما يتأمل يرى أن لا حاجة للواسطة، يعني الإنسان لا يحتاج إلى الواسطة بينه وبين ربه، الله أقرب إلى الإنسان من أي شيء آخر ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾، إذا كان الله أقرب إلينا من حبل الوريد إذن لا نحتاج واسطة بيننا وبينه، إذن لا نحتاج إلى محطة بيننا وبينه، مباشرة نتعلق به، مباشرة نرتبط به، لا حاجة إلى الوساطة، وجود الواسطة كما ترى الإمامية وجود يصطدم مع العقل.
ويصطدم مع النقل أيضًا، يعني القرآن الكريم أيضًا يندد بهذه العلاقة، علاقة التوسيط، لاحظ القرآن الكريم يتحدث عن أهل الجاهلية، الجاهلية كانوا يعبدون هبل واللات والعزى ويقولون كما ينقل القرآن عنهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾، يعني هذه الأصنام وسائط بيننا وبين الله، هذا نفسه منطق الإمامية، منطق الإمامية هو منطق الجاهلية، منطق الإمامية هو منطق المشركين في الجاهلية، المشركون في الجاهلية يقولون: ما نعبدهم إلا لأنهم وسائط، إلا لأنهم يقربونا إلى الله زلفى، والإمامية تطرح هذا المنطق كله، أننا نعتبر أهل البيت وسائط بيننا وبين الله، تقربنا إلى الله تبارك وتعالى.
إذن علاقة التوسيط التي يراها الإمامية ويبنون عليها أمورهم، هذه العلاقة مرفوضة عقلاً ونقلاً كما ذكرنا، هذه هي الشبهة، نحن كيف نجيب عن هذه الشبهة؟ لأجل الإجابة عن هذه الشبهة نتعرض لعدة محاور:
المحور الأول: تحليل التوسل فلسفيًا.
الفكر الشيعي هو فكر فلسفي، ليس فكرًا مبنيًا على مجرد روايات أو آيات فقط، هو فكر مبني على أصول فلسفية عقلية متينة محكمة، لذلك لا بد من أن نرجع إلى ما يطرحه الفلاسفة، الفلاسفة ماذا يقولون؟ الفلاسفة يقولون: العلة لها أجزاء ثلاثة: مقتض، وشرط، وعدم المانع.
مثلاً: النار عندما يقترب منها الجسم تحرقه، النار علة لإحراق الجسم، هل النار وحدها تحرق الجسم؟ لا، هناك أجزاء ثلاثة شاركت وساهمت في عملية الإحراق: الجزء الأول: النار، وتسمى المقتضي، يعني هي مصدر الإحراق، لأنها تحمل في باطنها درجة عالية من الحرارة، هذه الدرجة تقتضي احتراق الجسم المقترب منها، فالجزء الأول من العلة هو المقتضي، يعني النار منها المقتضي يتحقق. الجزء الثاني: الشرط، ما هو الشرط؟ الاقتراب، لو لم يقترب الجسم من النار هل يمكن للنار أن تحرقه؟ لا، إذن لا بد من الاقتراب، هذا الاقتراب شرط مساهم في عملية الإحراق. الجزء الثالث: عدم المانع، يعني ماذا عدم المانع؟ يعني ألا يكون على الجسم مانع يمنع من وصول حرارة النار إليه، لو كان على الجسم بلل مثلاً لا يمكن أن يحترق؛ لأن الماء يمنع وصول النار إليه. إذن هناك أجزاء ثلاثة: مقتضٍ، وهو النار، وشرط، وهو الاقتراب، وعدم المانع، وهو ألا يكون الجسم رطبًا أو مطليًا بمادة تمنع وصول الماء إليه.
إذن أجزاء العلة ثلاثة، هل هذا ينطبق على الله؟ نعم ينطبق على الله، كيف؟ أيضًا الفلاسفة يقولون: هذا العالم الذي تراه ينقسم إلى عالمين: عالم الأمر وعالم الخلق، من أين أتى هذا التقسيم؟ هذا التقسيم أخذناه من القرآن الكريم، القرآن الكريم يقول: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ هناك خلق وهناك أمر، ما هو الفرق بين الخلق والأمر؟
بعض الموجودات أوجدها الله بدون واسطة، يعني أوجدها بأمره ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، هذه الموجودات التي أوجدها بدون واسطة، أوجدها بأمره، تسمى عالم الأمر، يعني أوجدها بأمره من دون واسطة أخرى، تسمى بعالم الأمر، مثل الروح، روح الإنسان وجدت بدون واسطة، روح الإنسان وجدت بأمره تبارك وتعالى، لاحظ القرآن الكريم تعبيره دقيق عن الروح، ماذا يقول؟ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾، من «أمر»، ما قال من «خلق»، الروح ليست من عالم الخلق، الروح من عالم الأمر، الروح موجود وُجِد بالأمر الإلهي دفعة واحدة بدون أي واسطة أخرى.
بينما نأتي إلى الجسد، هذا الجسد، هل وُجِد بأمره بدون واسطة؟ لا، وُجِد مع الواسطة، كيف هي الواسطة؟ واسطة التقاء الذكر بالأنثى، واسطة وجود النطفة، حتى لو لم يكن هنالك لقاء، كما في مسألة مريم بنت عمران، بالنتيجة هناك واسطة مادية، هناك نطفة تكونت في رحم هذه المرأة، سواء كان بواسطة لقاء ذكر أو بواسطة أخرى، الله تبارك وتعالى أفاض الروح بشكل وأفاض الجسد بشكل آخر، أفاض الروح بأمره وبدون واسطة، لذلك الروح من عالم الأمر، وأفاض الجسد بواسطةٍ ماديةٍ، وهي لقاء الذكر بالأنثى، وتكون النطفة في الرحم، لاحظ القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً﴾ هذه هي الواسطة ﴿فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، إذن المسألة مسألة واسطة، هناك واسطة مادية، فالروح من عالم الأمر، والجسد من عالم الخلق؛ لأنه وُجِد بواسطة مادية.
الله ألا يقدر أن يخلق الجسد بدون واسطة؟! نعم، هو قادر، قادر على كل شيء، لكنه هو تعالى لحكمةٍ اقتضاها تبارك وتعالى هو الذي صنّف الموجودات إلى موجودات أمرية توجد بلا واسطة، وهي الروح، وإلى موجودات خلقية، توجد بواسطة، كالأجساد، فإنه توجد بواسطة مادية. إذن، عندما هو الله تبارك وتعالى يخلق الأجساد، فأجزاء العلة صارت شيئين: الجزء الأول: المقتضي، وهو الله، لأنه هو الذي يفيض الوجود، هو الذي يعطي الوجود، وهناك واسطة، وهي التقاء الذكر بالأنثى، بهذه الواسطة تمت إفاضته، وتم إيجاده تبارك وتعالى.
المحور الثاني: انقسام الواسطة إلى مادية وغيبية.
الواسطة قد تكون واسطة مادية، وقد تكون واسطة غير مادية، وبحسب تعبير العرفاء: واسطة ملكية وواسطة ملكوتية، ما هو الفرق بين الملك والملكوت؟ القرآن الكريم نفسه يقسّم إلى ملك وملكوت، يقول: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾، هذا عالم الملك، وقال في آية أخرى: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، ما هو الفرق بين الملك والملكوت؟ الملك هو عالم المادة، هذا العالم الذي نعيش فيه، عالم الملكوت عالم ما وراء المادة، ما وراء الطبيعة، ما وراء عالمنا هذا يسمى بعالم الملكوت، فهناك ملك، وهو عالم المادة، وهناك ملكوت، وهو عالم ما وراء المادة.
الواسطة قد تكون واسطة مادية، أي: من عالم الملك، وقد تكون واسطة غير مادية، فمثلًا: الإنسان إذا مرض فإنه يحتاج إلى الشفاء، الشفاء ممن؟ من الله تبارك وتعالى، المقتضي للشفاء هو الله، ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾، الله هو مصدر الشفاء، هو المقتضي للشفاء، لكن هل الله يعطيك الشفاء بدون واسطة؟! لا، لا بد من واسطة، هل هذا يعني الشرك؟! لا يوجد شرك، هو الله اقتضى ذلك، الله تبارك وتعالى اقتضى أن يفيض بواسطة، أن يعطي بواسطة، يعطيك الشفاء، هو مصدر الشفاء، هو المقتضي للشفاء، لكن يعطيك الشفاء بواسطة، قد تكون الواسطة واسطة مادية، وهي شرب الدواء، تناول الدواء، هذه واسطة مادية.
وقد تكون الواسطة واسطة غيبية غير مادية، كالدعاء، الدعاء واسطة، الدعاء واسطة من وسائط الشفاء، القرآن الكريم نفسه يقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ متى أصبح قريبًا؟ مطلقًا؟! لا، قريب بواسطة ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، إذا دعاني فأنا أجيب دعوته، وإذا لم يدعني فكما يريد! الله قريب، لكنه يجيب بواسطة، بواسطة الدعاء. إذن، هناك واسطة، وهي الدعاء، لكنها واسطة غير مادية.
الصدقة مثلًا، الصدقة واسطة، ورد عن النبي محمد : ”إن الصدقة تدفع البلاء وقد أبرم إبرامًا“، الصدقة واسطة لدفع البلاء، صلة الرحم، ورد عن النبي محمد : ”إنَّ للرحم لسانًا طلقًا ذلقًا يوم القيامة يقول: يا رب، صل من وصلني، واقطع من قطعني، إن صلة الرحم تعمر الديار، وتنسئ الآجال، وتطيل الأعمال، وتطرح البركة“. إذن، صلة الرحم واسطة أيضًا، فقد تكون الواسطة مادية كشرب الدواء، وقد تكون الواسطة غير مادية كالدعاء وصلة الرحم والصدقة، وهذا لا يعني قصورًا في الله، هو قادر على كل شيء، لكن حكمته شاءت ربط إفاضته وربط عطائه تبارك وتعالى بهذه الوسائط.
المحور الثالث: هل يمكن أن يكون الواسطة مخلوقًا من مخلوقاته العاقلة؟
الله هو مصدر العطاء، لكن الواسطة في العطاء مخلوق آخر، هل هذا أمر ممكن؟ هل من الممكن أن يكون الله هو مصدر العطاء، ومصدر الفيض، ومصدر المدد، ولكن الواسطة في عطائه وفيضه ومدده مخلوق آخر؟ هل هذا ممكن؟ ممكن وبالقرآن الكريم، نفس القرآن الكريم يدلنا على ذلك.
مثلًا: أنت عندما تناقش أحد المسلمين، تناقش مثلًا الأخ السلفي الذي يقول: لا تشرك مع الله إلهًا آخر! ليس مع الله شريك! صحيح، ليس مع الله شريك، لكن هل يمكن وجود واسطة في الإفاضة أم لا؟ اطرح عليه بعض الآيات القرآنية، مثلًا قوله تعالى: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾، الله هو الذي يتوفى الأنفس، آية أخرى تقول: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾، كيف نجمع بين الآيتين؟ هل القرآن يتناقض؟! ما هو الفرق بينهما؟ هو هذا الذي قلناه: مقتضٍ وشرط، المقتضي للوفاة هو الله تبارك وتعالى، لكن الواسطة في استيفاء الأرواح من عالم الأرض ورفعها إلى عالم السماء هو ملك الموت، ملك الموت واسطة، والله هو المتوفي الحقيقي، هذا هو الجمع بين الآيتين.
اطرح عليه آية أخرى، آية 74 من سورة التوبة: ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، كيف يغني الرسول؟ حلّل لي هذه الآية، هذه شرك! هذه الآية تشرك!! الله هو المغني، الله هو مصدر الغناء، بينما هذه الآية تقول: مصدر الغنى اثنان: الله ورسوله، كيف يكون الرسول مغنيًا؟! كيف يكون الرسول مصدر الغناء؟! كيف؟! حلّل الآية.
لا يوجد تحليل للآية إلا على طبق فكر الإمامية، الذين يقولون: هناك مقتضٍ وهناك شرط، المقتضي للغنى هو الله تبارك وتعالى، والواسطة في وصول الغنى للمخلوقات هو النبي محمد ، فأنت عندما تقول: أهل البيت وسائط الفيض، شروط في الفيض، أنت تمشي على ضوء القرآن الكريم، ولم تأت بشيء آخر. الرسول واسطة الفيض، شرط الفيض، مصحّح الفيض، وهذا معنى حديث الكساء الذي نحن نقرؤه، حديث الكساء الذي نحن نواظب عليه هذا معناه، ”ما خلقت سماء مبنية ولا أرضًا مدحوة ولا قمرًا منيرًا ولا شمسًا مضيئة ولا فلكًا يسري ولا بحرًا يجري إلا“ أي: بواسطتهم، وسائط في الفيض، ”إلا لأجل هؤلاء الذين هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء، قيل: ومن تحت الكساء؟ قال: هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها“.
المحور الرابع: الفرق بين قرب الله منا وقربنا منه.
الفكر الآخر ماذا يقول؟ يقول: الله أقرب إلينا من حبل الوريد، القرآن الكريم يقول: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾، هو أقرب إليك من قلبك، يحول بينك وبين قلبك، أقرب شيء إلينا خالقنا، إذا كان الله أقرب شيء إلينا فلماذا الواسطة؟! الواسطة لغوٌ؛ لأن الله أقرب إلينا من كل شيء.
الجواب: هذا خلط بين قربين، خلط بين قرب الله منا وقربنا من الله، هناك فرق بين قرب الله منا وبين قربنا من الله، هناك نوعان من القرب، هناك لونان من القرب، قرب الله منا قرب واقعي، هذا لا يتغير ولا يتأثر ولا يحتاج إلى واسطة، قرب الله منا قرب واقعي ملكوتي لا يحتاج إلى واسطة ولا يحتاج إلى مبدأ، ولكن قربنا من الله هو الذي يحتاج إلى الواسطة، نحن نطلب أن يقرب الله منا! هو قريب منا، ولكننا نطلب أن نقترب منه، لا أن يقترب منا.
نحن لا نطلب من أهل البيت أن يقترب منا، هو قريب منا، نحن نطلب منهم أن نقترب إلى الله، فهذا خلط بين القربين، بين قرب الله منا الذي هو قرب واقعي، وبين قربنا من الله عز وجل الذي هو قرب روحي، قرب شهودي، قرب تعلقي بالله تبارك وتعالى، قربنا من الله هو الذي يحتاج إلى الواسطة، والواسطة قد تكون واسطة مكانية، مثلًا: قوله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾، لماذا مقام إبراهيم؟! نحن نصلي في كل مكان، لكن مقام إبراهيم واسطة لقربنا من الله عز وجل.
وقد تكون الواسطة زمانية، ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، عبادة ليلة القدر خير من عبادة ألف شهر، إذن ليلة القدر واسطة في القرب من الله عز وجل. وقد تكون الواسطة سلوكية، مثل ماذا؟ القرآن الكريم يقول: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، الصلاة واسطة، الصبر واسطة، واسطة لقربنا من الله. وقد يكون الواسطة إنسانًا، مخلوقًا، مثل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾، إذن الرسول واسطة.
السمهودي – من علماء أهل السنة – في كتابه «وفاء الوفاء» يقول: هذه الآية تدل على أن النبي محمدًا واسطة في المغفرة حيًا وميتًا، لأن الآية مطلقة، للحياة وما بعد الممات، النبي واسطة. وهذا ما ذكره القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ زمانية، مكانية، سلوكية، خلقية، أمرية، أي واسطة كانت تقرّبكم إلى الله تبارك وتعالى.
المحور الخامس: الفرق بين منطق الإمامية ومنطق الجاهلية.
الفكر الآخر يقول بأنّ منطق الإمامية هو منطق الجاهلية، أهل الجاهلية يعبدون الأصنام ويقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾، ونفس هذا المنطق الإمامية يقولونه: ما نتوسل بأهل البيت إلا ليقربونا إلى الله، فأي فرق بين هذا المنطق ومنطق الجاهلية الذي هو منطق ذمه القرآن وندّد به القرآن الكريم؟!
الفرق في التعبير، لاحظ: القرآن الكريم قال: ما نعبدهم، عبادة، والإمامية يقولون: وسيلة، وفرق بين مبدأ العبادة ومبدأ الوسيلة، هم في الجاهلية يرون الآلهة متعددين، يقولون: الله إله، وهبل أيضًا إله، نحن إذا عبدنا هبل عبدنا الله، الله رضي بأن يُعْبَد هبل، فإذا عُبِد هبل فقد عُبِد الله، فالتقرب إلى هبل تقربٌ إلى الله، هذا منطق الجاهلية، الجاهلية كانوا يعبدون هبل، كانوا يعتبرونه إلهًا، كانوا يعتبرونه مقتضيًا للإفاضة وليس واسطة، بينما الإمامية يقولون: المعبود هو الله تبارك وتعالى، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، المعبود هو الله، وهو مقتضي الإفاضة، وهو مصدر العطاء، وهو مصدر الوجود، أهل البيت وسائط، هو الذي جعلها، لا أننا جعلناها، وفرق بين اعتبار المخلوق واسطة وأن المعبود هو الله، وبين أن نعبد غير الله بحجة أن عبادته عبادة لله عز وجل. إذن، المنطق مختلف، لا موجب للخلط بين هذين المنطقين.
المحور السادس: التوسل في السيرة النبوية.
نحن من أين أخذنا هذه السيرة سيرة التوسل بأهل البيت؟ من الذي توسّل بأهل البيت وعلّمنا أن نتوسّل بهم؟ من هو أول من توسّل بأهل البيت وعلّمنا أن نتوسّل بهم؟ هو النبي محمد ، القرآن الكريم يقول: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾، جميع المفسرين، لا يوجد مفسر مسلم ولا مؤرخ مسلم إلا وروى هذه الحادثة، قال: خرج النبي بيده اليمنى الحسن وبيده اليسرى الحسين وخلفه فاطمة وخلف فاطمة عليٌ ، ووصل، وواجه نصارى نجران، وقال: إذا دعوتُ فأمّنوا، فلما رآهم أسقف نجران، قال: إني لأرى وجوهًا لو أقسمت على الله أن يزيل جبلًا لأزاله بها، فلا تباهلوهم فتهلكوا.
هل النبي محتاج إلى فاطمة وعلي وحسن وحسين؟! أليس هو أشرف المخلوقات؟! أليس هو أقرب شخص إلى الله عز وجل؟! هو بإصبعه شق القمر.
فما الكليم وما العصا وما الحجر | فهو بسبّابته شقّ القمر |
***
في كفه تسبّح الحصاةُ | في لكل ممكنٍ حياةُ |
هذا يحتاج؟! هو بإشارة من إصبعه يستطيع أن يهلك نصارى نجران. هذه الحادثة المشهورة يرويها كل المؤرخين، الطبري والمسعودي، أنه لما أصاب أهل مكة قحط وجدب شديد، ماتت الشياه، وأجدبت الأرض، ومنعت السماء قطرها، وحبست الأرض خيرها، إلى أين يذهب أهل مكة؟ هذا الشيء كان أيام الجاهلية، قبل الإسلام، إلى من يلجأ أهل مكة؟ لجؤوا إلى أبي طالب، لو كان أبو طالب بنظر أهل مكة إنسانًا غير موزون لما لجؤوا إليه في هذه الأمور الخطيرة، هذا معناه أن أهل مكة قبل الإسلام كانوا يعتقدون أن أبا طالب شخص قريب من الله، بل إنه أقرب الناس إلى الله، ولذلك لجؤوا إليه.
هؤلاء المشركون هكذا يعتقدون في أبي طالب، وبعض المسلمين يعتقد في أبي طالب أنه كافر!! أهل الجاهلية يعتبرون أبا طالب أقرب إنسان إلى الله، ولذلك يتوسلون به، ويأتيك إنسان مسلم ويقول: هذا مات كافرًا!! حتى أهل الجاهلية كانوا يميّزون الصواب في هذه الجهة. لجأ أهل الجاهلية لأبي طالب، لأنهم يرونه أقرب الناس إلى الله، شكوا إليه، قالوا: يا أبا طالب، أنقذنا مما نحن فيه. فجاء إلى الكعبة المشرفة، وبيده طفلٌ أبيض الوجه قطط الشعر، أخذه وأسنده إلى ظهر الكعبة، ثم قال: يا بن أخي، ارفع إصبعك إلى السماء، فرفع إصبعه إلى السماء، وأشار بها، فامتلأت السماء سحابًا، ثم أمطرت أهل مكة مطرًا غزيرًا. فأنشد أبو طالب.. منذ ذلك اليوم أبو طالب يؤمن بالنبي، منذ ولادته هو يؤمن به، قال:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه تطوف به الهلّاك من آل هاشمٍ |
ثمال اليتامى عصمة للأراملِ فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ |
إذن، أبو طالب كان مؤمنًا بالنبي منذ ولادته، وتاريخه وشعره خير دليلٍ على ذلك، حيث قال:
ودعوتني وعلمتُ أنك ناصحي ولقد علمتُ بأن دين محمدٍ |
ولقد صدقت وكنت ثمّ أمينًا من خير أديان البرية دينًا |
أبو طالب توسّل بالنبي، النبي لا يحتاج إلى أن يتوسل بأحد، لكنه أخرج عليًا، وأخرج فاطمة، وأخرج حسنًا، وأخرج حسينًا، يريد أن يعلّم جميع المخلوقات رسالة واحدة: أن لا وسيلة إلا بهؤلاء، يريد أن يقول لهم: حتى أنا – وأنا أشرف المخلوقات – لا وسيلة لي إلا بهؤلاء. إذن، أوّل من علّمنا التوسل بأهل البيت هو النبي الأعظم .
وعلى ذلك سار أهل البيت، كانوا يتوسلون بأنفسهم، كانوا يتقربون إلى الله بأنفسهم، إلى آخر لحظة فاطمة الزهراء، وهي تريد أن تغمض عينها، وتريد أن تعرج روحها إلى بارئها، آخر دعاء سمعه الحسن بن علي منها، قالت: ”اللهم أنقذ شيعتي وشيعة بعلي من النار“، الإمام الحسن كان ينقل وقائع عجيبة جدًا عن أمه الزهراء، يقول: ”ما رأيتُ أعبد من أمي فاطمة“، وهذا كلام إنسان معصوم، ”ما رأيت أعبد من أمي فاطمة، كانت إذا قامت إلى صلاتها لا تنفتل من محرابها حتى تتورم قدماها من طول الوقوف بين يدي ربها، وما رأيتُها دعت لنفسها قط، وإنما تدعو للمؤمنين والمؤمنات، أقول لها: أماه فاطمة، لِم لا تدعين لنفسكِ؟ فتقول: بنيّ حسن، الجار ثم الدار“.
اترك تعليقاً