مناظرة ابن أبي جمهور الأحسائي (1) مع الهروي في خراسان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حق حمده ، والصلوة على سيدنا محمد وآله وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد فقد سألتني أطال الله بقاءك عمّا كان بيني وبين الهروي في بلاد خراسان من المجادلات في المذهب ، وما ألزمته من الحجّة.
فاعلم أنّي كنت في سنة ثمان وسبعين وثمانمائة مجاورا في مشهد الرضا ـ عليه السلام ـ ، وكان منزلي لمنزل السيد الاجلّ ، والكهف الاظلّ السيّد محسن بن محمد الرضوي القمي ، وكان من أعيان أهل المشهد وساداتهم ، بارزا على أقرانه بالعلم والعمل ، وكان هو وكثير من أهل المشهد يشتغلون معي في علم الكلام والفقه ، فأقمنا على ذلك مدّة ، فورد علينا من الهراة (2) خال السيّد محسن ، وكان مهاجرا فيها لتحصيل العلم.
فقال : إنّ السبب في ورودي عليكم ما ظهر عندنا بالهراة من اسم هذا الشيخ العربي المجاور بالمشهد ، وظهور فضله بالعلم والادب ، فقدمت لاستفيد من فوائده شيئا ، وخلفي رجلٌ من أهل كيج ومكران (3)ولكنه من قريب سنتين متوطن الهراة ، مصاحب لعلمائها يطلبون منه فنون العلم ، وقد صار الان مبرّزا في كثير من الفنون ؛ مثل علم النحو ، والصّرف ، والمنطق ، والكلام ، والمعاني ، والبيان ، والاصول ، والفقه ، وغير ذلك ، وهو عامّي المذهب.
وله مجادلات مع أهل المذاهب ، وقوّة إلزام الخصوم في الجدل ، وقد سمع بذكر هذا الشيخ العربي فجاء لقصد زيارة الامام الرضا ـ عليه السلام ـ ، وقصد ملاقاة هذا الشيخ والجدال معه ، وها هو على الاثر يقدم غدا أو بعد غدٍ فما أنتم قائلون ؟
فأشار إليّ السيّد بما قال خاله مستطلعا لرأيي ، وقال : إذا قدم هذا الرجل فبالضرورة يكون ضيفا لنا لانّه قدم مع خالي وخالي ضيف لنا ، وما يحسن منّا تضييف أحد المتصاحبين وترك الاخر ، فإن حصلت الضيافة التقى معك بالضرورة ، وتحصل المجادلة بينكما ، لانّه إنّما أتى لهذا الغرض فما أنت قائل ؟ أتُحبّ أن تلاقيه وتجادله ، أو لا تحبّ ذلك فتحتال في ردّه عنّا.
فقلت : إنّي أستعين بالله على جداله ، وأرجو أن يقهره الحق بفالجه ، ويغلبه بنوره ، وقال السيّد : ذلك هو مراد الاصحاب ، فلمّا كان بعد يوم من مجيء خال السيّد قدم الهروي إلى المدرسة ، وعلِم السيّد وخاله بوصوله فمضينا إليه وجاء به إلى المنزل وأضافوه وعملوا وليمةً احضروا فيها جميع الطلبة وجماعةً من الاشراف والسّادة وحصل بيني وبينه الملاقاة في منزل السيّد فجادلت معه في ثلاثة مجالس :
(المجلس) الاوّل : كان في منزل السيّد يوم الضيافة بحضور الطلبة والاشراف فكان أوّل ما تكلّم به معي قبل البحث أن قال : يا شيخ ، ما اسمك ؟
فقلت : محمد.
فقال : من أىّ بلاد العرب ؟
فقلت : من بلاد هجر الموسومة بالاحساء (4) أهل العلم والدّين.
فقال : أيّ شيء مذهبُك ؟
فقلت : سألتني عن الاصول أو الفروع ؟
فقال : عن كليهما.
فقلت : مذهبي في الاصول كل ما قام الدليل عليه ، وأمّا في الفروع فلي فقه منسوب إلى أهل البيت ـ عليهم السلام ـ.
فقال : أراك إمامىّ المذهب.
فقلت : نعم ، أنا إمامي المذهب ، فما تقول ؟
فقال : إنّ الامامىّ يقول : إنّ علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ إمامٌ بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بلا فصل.
فقلت : نعم ، وأنا أقول ذلك.
فقال : أقم الدليل على دعواك. فقلت : لا أحتاج الى إقامة دليل على ذلك. فقال : ولم ؟
فقلت : لانك لا تنكر إمامة علي ـ عليه السلام ـ أصلاً ، أنا وأنت متّفقان على أنّه إمام بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، ولكنّك أنت تدّعي الواسطة بينه وبين الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، وأنا أنفي الواسطة ، فأنا نافٍ وأنت مثبت ، فإقامة الدليل عليك اللهمّ إلاّ أن تنكر إمامة علي ـ عليه السلام ـ أصلاً وتقول : إنّه ليس إماما أصلاً ورأسا ، فتخرق الاجماع وتلزمني إقامة الدليل حينئذٍ.
فقال : أعوذ بالله ما أنكر إمامة علي ـ عليه السلام ـ ، ولكنّي أقول : هو الرابع بعد الثلاثة قبله.
فقلت : إذن أنت المحتاج إلى إقامة الدليل على دعواك لانّي لا أوافقك على إثبات هذه الوسائط ، فضحك الاشراف والحاضرون من الطلبة ، وقالوا : إنّ العربي لمصيب ، والحقّ أحقّ بالا تّباع ، إنك أنت المدّعي وهو المنكر ، والمدّعي محتاج إلى إثبات دعواه إلى البيّنة فألزمتُه الحجّة.
قال : الدليل على مدّعاي كثير.
فقلت : أريد واحدا لا غير.
فقال : الاجماع من الاُمّة على إمامة أبي بكر بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ بلا فصل وأنت لا تنكر حجّة الاجماع.
فقلت : ما تريد بالاجماع ، الاجماع الحاصل من كثرة القائل بذلك في ذلك الوقت ، أو الاجماع الحاصل من أهل الحلّ والعقد من يوم موت النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ؟ إن أردت الاوّل فلا حجّة فيه ، لانّ المخالف موجود ولا حجّة فيها بنصّ القرآن لانّه تعالى يقول : ( وقليل من عبادي الشكور ) (5) ، ولم تزل الكثرة مذمومةً في جميع الامور حتّى في القتال ، قال تعالى : ( كَمْ مِنْ فئَةٍ قَلِيلَةً غَلَبتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (6) وإن أردت الثاني فلي في إبطاله طريقان ؛ طريقة على مذهبي ولا تلزمك ، وهي أنّ الاجماع عندنا إنّما يكون حجّةً مع دخول المعصوم فيه (7) ، فكلّ إجماع خال منه لا حجّة فيه عندنا لجواز الخطأ على كلّ واحد واحد فهكذا على الكلّ لتركبه من الاحاد ، وأنت لا تقول بدخول المعصوم ، فالاجماع الذي تدّعيه لا يكون عندنا صحيحا فلا يكون حجّة وطريقة على مذهبك ، وهو أنّ الاجماع هو : اتّفاق أهل الحلّ والعقد من أمّة النّبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ على أمرٍ من الامور.
وهذا المعنى لا يحصل لابي بكر يوم السقيفة ، بل كان فُضلاءُ العرب وعلماؤهم وزهّادُهمْ وذوو الاقدار أُولوا الايدي والابصار منهم وأهل الحلّ والعقد غُيّابا لم يحضروا معهم السقيفة بالاتّفاق كعلي بن أبي طالب ، والعبّاس ، وابنه عبدالله بن العبّاس ، والزبير ، والمقداد ، وعمّار ، وأبي ذر ، وسلمان الفارسي ، وجماعة من بني هاشم ، وغيرهم من الصحابة لانّهم كانوا مشتغلين بتجهيز النبىّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ فرأى الانصار فرصةً باشتغال بني هاشم ، فاجتمعوا إلى سقيفة بني ساعدة لاجالة الرأي ، وعلم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وجماعة من الطّلقاء باجتماع الانصار في السقيفة واختلافهم في الامامة ، فحضروا معهم ، وكانت بينهم مجادلات ومخاصمات في الخلافة حتى قال الانصار : منّا أمير ، ومنكم أمير ، فغلبهم أبو بكر بحديث رواه فقال : إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ قـال : الائمّة من قريش (8) ، فخصِم الانصار بذلك.
فقام عمر وأبو عبيدة فسبقا الانصار على البيعة ، وصفقا على يد أبي بكر وقالا : السلام عليك يا خليفة رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ فكانت البيعة الخاطئة لابي بكر يومئذ في السقيفة (9) بالخديعة والحيلة والعجلة والغلبة والقهر ، ولهذا قال عمر : كانت بيعتي لابي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرّها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (10) ، فأين الاجماع المُدّعى حصوله ، وقد عرفت أنَّ فضلاء الاصحاب وزهّادهم وذوي الاقدار والمهاجرين والانصار لم يحضروا معهم ، ولم يبايعوا ولم يستطلعوا رأيهم ، وهل يصحّ من هؤلاء الادنون من الصّحابة الذين كان أكثرهم طلقاء ومنافقين ومؤلّفة أنْ يعقدوا الخلافة الّتي هي قائمة مقام النبوّة بغير حضور أُولئك المشتهرين في الفضل والعلم والشرف والزهد مع أنّ الاجماع لا ينعقد عند الكل إلاّ باتفاق أهل الحل والعقد فدعوى الاجماع حينئذٍ على خلافته بعيدة.
فقال : ما ذكرتَه مُسلّم ، ولكن مَنْ ذكرت من الاصحاب وغيرهم بعد ذلك بايعوا ورضوا فحصل الاجماع من الكلّ بحيث لا يخالف في ذلك أحد وإن لم يكن إيقاعهم دفعة فإنّ ذلك غير شرط في الاجماع.
فقلت : إنّ اتّفاقهم وحصول رضاهم بعد ذلك كما زعمت لا يقومُ حجّة لتطرّق الاحتمال فيه بالاجبار والاكراه والتّقية ، فإنّهم لمّا رأوا هؤلاء العامّة والرّعاع الذين يميلون عند كلّ ناعقٍ ولا يستضيئون بضوء العلم قد استمالهم الرجل وخدعهم وصاروا أتباعا له ، وقلّدوه في أُمورهم ، وقلّدوا كبراءهم في اتّباعه لم يمكن لهؤلاء الباقين المخالفة لهذه العوامّ وخافوا على أنفسهم من الخلاف عليهم والقتل فانقادوا كرها ، فلا يكون انقيادهم الحاصل بالاكراه مصحِّحا للاجماع بل دلّ على عدم صحّته.
فقال : ومن أين عرفت ذلك منهم حتى يكون ما ذكرت حقّا ؟
فقلت : قد تقرّر في علم الميزان أنّ الاحتمال إذا قام على الدليل بطل ، واحتمال الاكراه قد قام في هذا الاجماع فيكون باطلاً مع أنه قد ظهرت إمارات الاكراه في روايات كثيرة وأنا أورد لك بعضها ، منها :
الاوّل : ما ورد من ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (11) مع أنّه عامّي المذهب ، فقال : في باب فضائل عمر : إنّ عمر هو الذي وطّأ الامر لابي بكر ، وقام فيه حتى أنّه دفع في صدر المقداد ، وكسر سيف الزبير ، وكان قد شهره عليهم وهذا غاية الاكراه.
الثاني : ما رواه أيضا (12) عن البراء بن عازب ، قال : لم أزل مُحبّا لاهل البيت ، ولما مات النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ أخذني ما يأخذ الواله من الحزن ، وخرجت لانظر ما يكون من النّاس فاذا أنا بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة سائرين ومعهم جماعةُ من الطلقاء وعمر شاهر سيفه ، وكلّما مرّ رجل من المسلمين قال له : بايع أبا بكر كما بايعه الناس فيبايع له إن شاء ذلك أو لم يشأ فأنكر عقلي ذلك الامر فحيث اشتدّ الامر جئت حتى أتيت عليّا ـ عليه السلام ـ فأخبرته بخبر القوم ، وكان يسوّى قبر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ بمسحاته فوضع المسحاة من يده ثمّ قرأ : ( آلم ، أَحسب الناسُ أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهُم لا يُفتنُون ) (13).
فقال العباس : تربت أيديكم بني هاشم إلى آخر الدهر ، وهذا دليل الاكراه بترجع علي والعباس له ، وما ظنك بامرٍ يدفع صدور المهاجرين ، ويكسر سيوفهم ويشهر فيه السيوف على رؤوس المسلمين كيف لا يكون إكراها لو لا عمى أفئدةٍ ! : ( فإنّها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) (14).
ومنها : قول عمر لسعد بن عبادة الخزرجي سيّد الانصار وأميرهم لمّا امتنع من البيعة وهم في السّقيفة لانّه كان حاضرا معهم ولم يبايع ، قال : أوطئوا سعداً واقتلوا سعدا ، قتل الله سعدا (15) ، وهذا عين الاكراه.
___________
(1) هو : العالم الجليل والحكيم المتكلم المحقق الشيخ محمد بن الشيخ زين الدين أبي الحسن علي بن حسام الدين إبراهيم بن حسن بن ابراهيم بن أبي جمهور الهجري الاحسائي.
قال العلامة القاضي الشوشتري : صيت فضائله ، معروف ومشهور بين الجمهور ، وهو في عداد المجتهدين الامامية ، وفنون كمالاته خارجة عن حد الاحصاء ، ولد في الاحساء ودرس فيها وتفوقّ على أقرانه ، ونال قصب السبق في دراسته ، ثم سافر إلى العراق وحضر عند علمائها منهم الفاضل شرف الدين حسين بن عبد الكريم الفتال ، الشيخ علي بن هلال الجزائري ، الشيخ حرز الدين الاوبلي ، كما درس أيضاً عند والده المرحوم الشيخ علي.
ومن مؤلفاته ( ره ) أسرار الحج ، الاقطاب الفقهية ، كشف الحال عن أحوال الاستدلال ، درر اللالي العمادية في الاحاديث الفقهية ، غوالي اللئالي العزيزية في الاحاديث الدينية ، وغيرها.
وقد أثيرت حول ابن أبي جمهور الاحسائي شبهات عديدة ، جمعها ورد عليها آية الله العظمى السيد المرعشي النجفي ( ره ) في رسالة سماها الردود والنقود على الكتاب ومؤلفه والاجوبة الشافية الكافية عنهما ، وطبعت هذه الرسالة في مقدمة كتاب الغوالي ، توفي في أوائل القرن العاشر ولعله في العقد الاول منه.
راجع ترجمته في كتاب الاقطاب الفقهية في ترجمة المصنف ، مجالس المؤمنين للشوشتري ج1 ص581 ، روضات الجنات للخوانساري ج7 ص26 ، لؤلؤة البحرين للشيخ يوسف البحراني ص166 ، الاعلام للزركلي ج6 ص288 ، أعيان الشيعة ج9 ص434.
(2) هَرَاة : مدينة عظيمة مشهورة من اُمّهات مدن خراسان ، فيها بساتين كثيرة ومياه غزيرة إلاّ أنّ التتار خرّبوها وقال الشاعر فيها :
هراة أرضٌ خِصْبُها واسع *** ونَبْتُها اللقِّاحُ والنرجسُ
ما أحدٌ منها إلى غيرهـا *** يخرجُ إلاّ بعد ما يُفْلِسُ
« مراصد الاطّلاع : ج3 ـ ص1455 » ، وهي اليوم من مدن أفغانستان المعروفة.
(3) مُكْرَان : ولاية واسعةٌ تشتمل على مُدنٍ وقُرى ، غربيها كرمان ، وسجستان شماليها ، والبحر جنوبيها.
وإياها عنى عمر بن معد يكرب بقوله:
قومٌ همُ ضربوا الجبابر إذ بَغـوْا *** بالمشرفيّةِ من بنى سـاســان
حتى استبيح قرى السواد وفارس *** والسهل والاجبال من مكــران
انظر : مراصد الاطلاع ج3 ص1301.
(4) الاحساء : هي علم على مواضع من بلاد العرب : أحساء بني سعد بحذاء هجر ، أوّل من عمرها وحصَّنها وجعلها قصبة هَجَر أبو طاهر القرمطي ، وهي مشهورة ، وأحساء بني وهب: على خمسة أميال من المُرْتَمى ، بين القَرْعاء وواقصة على طريق الحاج ، فيه بركة وتسعة آبار ، كبار وصغار ، وهو أيضاً: ماءٌ لغنيّ.
قال الحسين بن مطير :
أين جيراننا على الاحساء *** أين جيراننا على الاطواء
وفي المنجد: الاحساء أو الحساء إقليم يشمل الساحل الشرقي في المملكة العربية السعودية عُرِف سابقاً باسم ( هجر ) و ( البحرين ) يعرف اليوم بالمنطقة الشرقية الغنية زراعياً ( تمور وفواكه ) ، منطقة نفطٍ هامة ، أشهر مدنه: الهفوف ، القطيف ، جبيل ، جزيرة جنة ، صفوى ، الدمام ، الخبر ، الظهران ، رأس تنورة. وجاء في أنوار البدرين: وهي ( أي بلاد الاحساء ) مدينة كبيرة عظيمة من أكبر مدن الاسلام القديمة وهي هَجَر ( تغليباً ) وينسب إليه رشيد الهجري الذي هو من خواص أصحاب أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ومن حملة أسراره ، وهذه المدينة تقارب جزيرة أوال أو تزيد ، ذات الاترج والنخيل والارز والقطن ، وتمرها أجود تمر ، وفيها آثار قديمة وينقل مستفيضاً أن في بعض قراها ـ ولعلها القارة ـ آثاراً من زمن المسيح عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ ومن أقدم قراها جواثة وهي قاعدة بلاد الاحسأ في الزمن القديم ، خرَّبها الرمل وفي الحديث: أول جمعة أقيمت بعد المدينة في جواثة في بني عبد القيس ، وفيها الجبل المشهور المعروف بجبل القارة ، من عجائب الدنيا فيه مغارات كثيرة عظيمة ليس فيه شيء من هوام الارض وحشراتها أصلاً حتى النمل ، ومن خواصه البرودة العظيمة في الصيف.
راجع : مراصد الاطلاع ج1 ص36 ـ 37 ، المنجد ( قسم الاعلام ) ص24 ، أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والاحساء والبحرين ص382.
(5) سورة سبأ : الاية 13.
(6) سورة البقرة : الاية 249.
(7) فرائد الاصول : للشيخ مرتضى الانصاري ج1 ص80 ، كفاية الاصول : للشيخ محمد كاظم الخراساني ( الاخوند ) ص331.
(8) تقدمت تخريجاته.
(9) وممن روى حديث السقيفة : ابن الاثير في الكامل في التاريخ : ج2 ص325 ، الشهرستاني في الملل والنحل : ج1 ص30 ، ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ج2 ص21 ـ 60 ، وج5 ص5 ـ 52 ، ابو بكر الجوهري في كتاب السقيفة.
(10) تقدمت تخريجاته.
(11) شرح نهج البلاغة : لابن ابي الحديد ج1 ص174.
(12) شرح نهج البلاغة : ج1 ص219 ، وفي بحار الانوار : ج28 ص284 ح46 نحوه.
(13) سورة العنكبوت : الاية 1 و2.
(14) سورة الحج : الاية 46.
(15) شرح نهج البلاغة : ج1 ص174 ، وفي تاريخ الطبري : ج3 ص222 و 223 ، الكامل في التاريخ : ج2 ص328 نحوه. ومنها : ما رواه أهل الحديث ، ورواه عدّة من أصحابنا ممّن يوثق بنقلهم ، وتعرف عدالتهم أنّ أبا بكر لمّا صعد المنبر أوّل يوم جمعة قام إليه اثنا عشر رجلاً ؛ ستّة من المهاجرين ، وستّة من الانصار ، فأنكروا عليه قيامه ذلك المقام حتى أفحموه على المنبر ولم يردّ جوابا ، فقام عمر ، وقال : يا… ، إن كنت لا تقوم بحجّة فلم أقمت نفسك هذا المقام ، وأخذ بيده وأنزله عن المنبر (16).
ولمّا كان الاسبوع الثاني جاءوا في جمع وجاء خالد بن الوليد معهم في مائة رجل وجاء معاذ بن جبل في مائة رجل شاهرين سيوفهم حتى دخلوا المسجد وكان علي ـ عليه السلام ـ فيه وجماعة من أصحابه معه ومعهم سلمان.
فقال عمر : والله يا أصحاب علي ، لئن ذهب رجل منكم يتكلّم بالّذي تكلّم بالامس لاخذنّ الّذي فيه عيناه ، فقام سلمان الفارسي ، فقال : صدق رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ إنّه قال : بينما أخي وابن عمّي جالس في مسجدي إذ وثب عليه طائفة من كلاب أهل النار يريدون قتله ولا شكّ أنتم هم ، فأهوى إليه عمر بالسيف ليضربه ، فأخذ علي ـ عليه السلام ـ بمجامع ثوبه وجذبه إلى الارض ، وقال : يابن صِهاك الحبشيّة أبأسْيافِكُمْ تُهدّدونا ، وبأجمُعِكم تكاثرونا ؟ ! والله لولا كتاب من الله سبق ، وعهدُ من رسول الله تقدّم لاريتكم أيّنا أقلّ عددا وأضعف ناصرا ، ثمّ قال لاصحابه : تفرّقوا (17).
وإذا كانت الاحوال الجارية بينهم على مثل هذه الروايات دلّت على وقوع الكراهة وعدم تمكّن هؤلاء المتخلّفين عن السقيفة من ترك المبايعة ، فلا تكون بالموافقة الحاصلة منهم وإنّما هي بالكراهة ، فلا تكون حجّة بالاجماع.
فقال : هذه الروايات من طرقكم ، فلا تكون حجّة علينا.
فقلت : سلّمنا ، ولكن منها ما يكون من طرقكم كرواية ابن أبي الحديد مع أنّ احتمال الاكراه غير مندفع بحجّة من عندكم ، والدليل قاطعٌ فيبقى احتمال الكراهة بحاله فحينئذٍ لا يحصل الاجماع المدّعى حصوله فلا تقوم لك الدلالة على الواسطة فأت بغيرها إن كان لك حجّة قاطعة على مدّعاك وإلاّ فاعترف ببطلانها.
فقال : هاهنا حجّة.
فقلت : وما هي ؟
فقال : أمرُ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ بالصّلاة خلف أبي بكر في مرض موته (18) وذلك دليلٌ على تقديمه له على سائر أصحابه لانّ المُقدّم في الصلاة يُقدّم في غيرها إذ لا قائل بالفرق.
فقلت : هذه حجّة ضعيفة جدّا.
أمّا أوّلاً : فلانّه لو كان التقديم صحيحا كما زعمت وكان مع صحته دالاً على إمامته لكان ذلك نصا من النبي صلّى الله عليه وآله بالامامة ، ومتى حصل النَّصّ لا يحتاج معه إلى غيره فكيف وأبو بكر وأصحاب السقيفة لم يجعلوا ذلك دليلاً على إمامته ، وكيف أبو بكر وعمر لم يحتجّوا به على الانصار وكيف توقّفت الخلافة على المبايعة الّتي حصل عليهم فيها الاختلاف والاحتياج إلى إشهار السيوف مع أنّ هذه الواقعة كانت أثبت دليلاً ، وأقوى حجّة لانّها نصّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، فكيف عدلوا إلى الاضعف الذي هو أحد الامرين الاعسر ، والعاقل لا يختار الاصعب مع إنجاح الاسهل إلاّ لعجزه عنه.
فعُلمَ أنّ ذلك ليس فيه حجّة أصلاً ، فكيف ما لا يكون حجّة عندهم ولا عند أحد من الصَّحابة تجعله أنت حجّةً ، ومن ذلك يُعلَم أنّ قصدك المغالطة.
وأمّا ثانيا : فلانّ التقديم في الصلاة لا يَدلّ على الامامة العامّة لانّ الخاص لا يدل على العامّ خصوصا على مذهبكم من جواز إمامة الفاسق في الصّلاة ، وعدم اشتراط العدالة في التقديم بها ، والامامة العامّة يشترط فيها العدالة بالاجماع وأنّ الامام لو فسق عندكم وجب على الاُمّة عزله ، فكيف تجعلون ما لا يحتاج إلى العدالة حُجّةً فيما يحتاج إليها إنّ هذا الاحتجاج واهي الدليل غير مسموع ولا مقبول عند العقلاء ومن له أدنى رويَّة.
وأمّا ثالثا : إنّ هذا التقديم غير صحيح عند الكلّ أمَّا عندنا فلانّ المنقول أنّ بلالاً لمّا جاء يعلم بوقت الصلاة كان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ مغمورا بالمرض ، وكان عليّ ـ عليه السلام ـ مشتغلاً بالرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، فقال بعضهم : علي يصلّي بالناس فقالت عائشة (19) : مروا أبا بكر يصلّي بالنّاس فظنّ بلال أنّ ذلك من أمر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ فجاء وأعلم أبا بكر بذلك فتقدّم ، فلمّا كبَّر أفاق النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ فسمع التكبير ، فقال : من يصلّي بالناس ؟
فقيل له : أبو بكر.
فقال : أخرجوني إلى المسجد ، فقد حدثت في الاسلام فتنة ليست بهيّنة ، فخرج ـ صلّى الله عليه وآله ـ يتهادى بين علي والفضل بن العبّاس حتى وصل إلى المحراب ، ونحّى أبا بكر ، وصلّى بالناس ، وأمّا عندكم فتدّعُون أنّ ذلك كان بأمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وهي دعوى باطلة من وجوه.
الاوّل : أنّ الاتّفاق واقع على أنّ الامر الذي خرج إلى بلال لم يكن مشافهة من النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقيل له : يا بلال ، قل لابي بكر يصلّي بالناس ، أو قل للناس يصلّون خلف أبي بكر ، بل كان بواسطة بينهما لانّ بلالاً لم يحصل له الاذن في تلك الحالة بالدخول على النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لاشتغال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بالمرض وإذا كان بواسطة احتُمِل كذبُ الواسطة لانّه غير معصوم ، وإذا احتُمِل كَذِبُه لم يبق في هذا الوجه حُجّة لاحتمال أن يكون بغير أمر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ولا علمه ، ويدلّ على ذلك خروجه عليهم في الحال لما علم وعَزل أبي بكر وتوليته الصلاة بنفسه.
الثاني : أنه لو كان ذلك بأمر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ كما زعمتم لكان خروجه في الحال مع ضعفه بالمرض وتنحيته أبا بكر عن المحراب وتولّيه الصلاة بنفسه مع صدور الامر منه أوّلاً مناقضةً صريحةً لا تليق بمن لا ينطق عن الهوى لانّ الاتّفاق واقع على أنّ أبا بكر لم يتمّ الصلاة بالنّاس بل خرج النّبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ونحى أبا بكر عنها وأتمّ الصلاة بالناس رواه أهل السنّة في جملة مصنّفاتهم.
الثالث : لو سلّمنا جميع ذلك لكان خروج النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وعزله له مبطلاً لهذه الامارة لانّه ـ عليه السلام ـ نسخها بعزله عنها فكيف يكون ما نسخه النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ بنفسه حجة على ثبوته إن هذا لعَجب بل أقول : إن عزل النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ له بعد تقديمه كما زعمتم إنّما كان لاظهار نقصه عند الاُمّة وعدم صلاحيته في التقدم في شيء فإنّ من لا يصلح أن يكون إماما في الصلاة مع أنّها أقل المراتب عندكم لصحّة تقديم الفاسق فيها كيف يصحّ أن يكون إماما عامّا ، ورئيسا مُطاعا لجميع الخلق ، وإنّما كان قصده ـ صلّى الله عليه وآله ـ إن كان هذا الامر وقع منه ـ إظهار نقصه وعدم صلاحيته للتقديم على النّاس ليكون حجّة عليهم.
وما أشبه هذه القصّة بقصّة براءة (20) وعزله عنها ، وإنفاذه بالرّاية يوم خيبر (21) فإنّ ذلك كلّه بيان لاظهار نقصه وعدم صلاحيته لشيء من الامور البيّنة وإظهار ذلك للناس يَعرفُ ذلك من له أدنى رويّة ، والعجب منكم كيف تستدلّون بالامر بالصلاة التي عُزِل عنها ولم يتمّها بالاجماع على إمامته ؟ وكيف لا تستدلّون على إمامة علي ـ عليه السلام ـ باستخلافه النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ على المدينة في غزوة تبوك المُتّفق على نقلها وحصوله منه ـ صلّى الله عليه وآله ـ لعلي ـ عليه السلام ـ وعدم عزله عنها بالاتّفاق ؟ ! فإنّ الاستخلاف على المدينة التي هي دار الهجرة ، وعدم الوثوق عليها لاحد إلاّ علي ـ عليه السلام ـ دليل على أنّه القائم بالامر بعده في جميع غيباته ومُهمّاته وإذا ثبت استخلافه على المدينة وعدم عزله عنها ثبت استخلافه على غيرها إذ لا قائل بالفرق.
ولمّا وصلنا في المجادلة في ذلك المجلس إلى هذا الحدّ حضرت مائدة السيّد فانقطعت بحضورها المجادلة واشتغل جميع الحاضرين بالاكل والمُلاّ أيضا معهم واشتغلت به في جملتهم ، وعرضت لي فكرةٌ حال الاكل في الحديث المرويّ عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وهو قوله ـ عليه السلام ـ : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليةً (22).
فقلت : يا مُلاّ إجازةً.
قال : نعم.
قلتُ : ما تقول في هذا الحديث المروي عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ أهو حديث صحيح أم لا ؟ وأوردت الحديث.
فقال : بل حديث صحيح متّفق على صحّته.
فقلت : مَنْ إمامك ؟
فقال : ليس الحديث على ظاهره ، بل المراد بالامام في الحديث القرآن ، وتقديره من مات ولم يعرف إمام زمانه الذي هو القرآن مات ميتةً جاهليةً.
فقلتُ : إذن يلزم أن يكون العلم بالقرآن واجبا عينا على كلّ مكلّف مع أنّ ذلك لم يقل به أحد من العلماء.
فقال : ليس المراد القرآن كلّه ، بل المراد الفاتحة والسورة لانّهما شرطان في صحّة الصلاة ، فإنّهما واجبان عينا بالاجماع فمن جهلهما يكون جاهليا.
فقلت : إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ أضاف الامام إلى الزمان في الحديث وهو دليل على اختصاص أهل كلّ زمان بإمام يجب عليهم معرفته ، ومع القول بالفاتحة والسورة لا فائدة في هذا التخصيص حينئذٍ فلا يكون هذا تأويلاً مطابقاً لمقتضى الحديث.
فقال الاشراف والحاضرون من الطلبة : صدق الشيخ ، إنّ هذه الاضافة في الحديث تقتضي تخصيص أهل كلّ زمان بإمام يجب عليهم معرفته ، وأنّ من مات قبل معرفته مات جاهليّا ، والتأويل بالفاتحة ينافي ذلك ، لوجوب الفاتحة على أهل كلّ زمان ، فانقطع ورجع.
فقال : إذن أنا وأنت سواء في ذلك في هذا الزمان.
فقلت : حاش لله ، ليس الامر كما زعمت ، بل أنا لي إمام في زماني هذا أعتقد إمامته ، وأعرفه حقّ معرفته ، قامت لي الدلائل على ذلك ولست أنت كذلك فما أنا وأنت سواء.
فقال : إن إمامك الذي تعتقده أنت ونحن لانشاهده ولا نعرف مكانه ، ولا تنتفع به في دينك ، ولا تأخذ عنه فتاويك فكان الامر فيّ وفيك سواء.
قلت : كلاّ إنّ الحديث لم يتضمّن وجوب معرفة مكان الامام ووجوب أخذ الفتاوى عنه ، وإنّما تضمّن وجوب معرفته وأنا الحمد لله قد عرفته وقامت لي الدلائل القاطعة على وجوده ووجوب إمامته واتّباعه ، وأرجو في كلّ وقت ظهوره وملاقاته لي ولسائر الاُمّة وهذا هو الذي وجب علي بمقتضى الحديث لانّه لم يقل : من لم يأخذ عن إمام زمانه الفتاوى ولا قال : من لا يعرف مكان إمامه بل قال : مَنْ لا يعرف إمامه ، وأنا بحمد الله قد عرفته ، وأنت تعتقد أنّ الامام لك وأنّ الزمان الذي أنت فيه خال من الامام فلست أنا وأنت سواء والحمد لله.
فقال : أنا في طلبه وتحصيل معرفته ، وقد ذكر لي أن باليمن رجلاً يدّعي الامامة وأنا أُريد الوصول إليه لاعرف صحّة إمامته ودعواه فأتّبعه.
فقلت له : إذن أنت في هذا الوقت لا إمام لك فأنت في هذا الوقت جاهل ، ثمّ قلت : ولا يصحّ لك ذلك إلاّ أن تترك مذهبك وترجع إلى غيره لانّ هذا المدّعي ليس من أهل السنّة بل هو من الزيدية فإن كنت منهم صحّ لك ذلك وإن كنت من السنّة فالسُنّة لا يعتقدون ذلك لانّهم لا يعتقدون وجود الامام في كلّ وقت ، ولا يرجون وجوده على كلّ حال ، فسكت ولم يرد جوابا ، وفرغ الحاضرون من الاكل ورُفِعت المائدة وودّعَنَا الحاضرون وخرجوا وتفرّق أهل المجلس ، وخرج المُلاّ في جملتهم.
المجلس الثاني :
كان يوم العيد العاشر من ذي الحجّة اتّفق أن السيّد محسن بن محمد خرج من المنزل وكنت معه فقصدنا زيارة الامام الرضا ـ عليه السلام ـ والاخوان في ذلك اليوم الشريف فجئنا وزرنا الامام ـ عليه السلام ـ ، وبعد الفراغ دخلنا مدرسة السلطان شاهرخ التي هي بجنب حضرة الامام ـ عليه السلام ـ وكان فيها جماعة من الطلبة ساكنين ، فقصدناهم فيها للسلام عليهم وزيارتهم وكان فيها رجل مدرّس اسمه مُلاّ غانم فوجدناه جالسا في المدرسة ومعه جماعةٌ من أهل العلم والعوامّ من أهل المشهد وغيرهم ووجدنا المُلاّ الهروي معهم فسلّمنا على الحاضرين وجلسنا معهم فتخاوضوا في الاحاديث والحكايات والمذاكرة في العلم ، فجرى بينهم أشياء كثيرة ثمّ إنّ الملاّ الهروي أشار إلىّ بمسألة.
(16) الاحتجاج للطبرسي : ج1 ص75 ـ 79.
(17) الاحتجاج للطبرسي : ج1 ص79 ـ 80 بتفاوت.
(18) انظر : فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل : ج1 ص106 ح78.
(19) انظر : تاريخ الطبري : ج3 ص197 ، فضائل الصحابة لاحمد ج1 ص109 ح80 وص118 ح88 ، الكامل في التاريخ ج2 ص322 ، طبقات ابن سعد ج3 ص178 ـ 181.
(20) تقدمت تخريجاته.
(21) تقدمت تخريجاته.
(22) انظر : مسند أحمد ج4 ص96 ، المعجم الكبير ج19 ص388 ح910 ، كنز العمال ج1 ص103 ح464 ، وج6 ص65 ح14863 ، مجمع الزوائد لابي بكر الهيثمي ج5 ص218 ، سلسلة الاحاديث الضعيفة للالباني ص354 ح350 ، الاصول من الكافي ج1 ص377 ح3 ، رسائل الشيخ المفيد : ص384 ، الغيبة للنعماني ص129 ح6 ، حلية الاولياء ج3 ص224 ، بحار الانوار ج23 ص78 ح9.
فقال : ما تقول في ولد الزنا هل تنسبه الى أبيه وأُمّه أم لا ؟
فقلت : الذي عليه علماء أهل البيت ـ عليهم السّلام ـ أنه لا يصحّ نسبته إلى أبيه ولا إلى أُمّه لانّه عندهم أنّه ليس ولداً شرعياً والنسب عندهم إنّما يثبت بالنكاح الصحيح ، والشبهة دون الزنا.
فقال : فيلزمكم عند انتفاء النسبة الشرعية أن لا يكون محرّما فيحلّ له وطئ أمّه وأخواته ويحلّ للاب وطئ ابنته وهذا لا يقول به أحدٌ من أهل الاسلام.
فقلت : إنّه ولدٌ لغةً لا شرعا ، ونحن نقول: بالتحريم المذكور من حيث اللغة ، فالتحريم عندنا يتبع اللغة وغيره من الاحكام يتبع الشرع.
فقال : هذا خَبطٌ في البحث لانّكم مرَّةً تقولون: إنّه ولد وتحكمون له بأحكام الاولاد ، ومرّة تقولون: إنّه غير ولد وتحكُمون له بأحكام الاجانب ، وهذه مناقضة وخبط في الفتوى.
فقلت : ليس ذلك مناقضة بل أثبتُ له أحكام الاولاد من حيثية ، والاجانب من حيثية ، ولا استحالة في اختلاف الاحكام باختلاف الحيثيّات.
فقال : وأيّ حاجةٍ لكم إلى هذه التمحُلات ولم تتبعوا اللغةً دائما لانّه عند أهل اللغة ولد حقيقة وإنّما جاء الشرع تابعا للّغة.
قلت : ليس الشرع تابعا للغة دائما لانّه عند أهل اللغة ولد حقيقة كما ذكرت ، والشرع إنّما جاء تابعا للغة دائما فإنّ الالفاظ اللغوية وإن كانت على لفظها في الاصطلاح الشرعي إلاّ أنّها في المعاني مغايرة لها فإنّ الصلاة لُغةً الدعاء ، والزكاة لغة النمو ، وفي الشرع وإن كانت تسميتها كذلك إلاّ أنّ المعني منها غير المعنى اللغوي ، فإنّ الصلاة والزكاة شرعا غير الدعاء والنمو ومع ذلك فإنّ مذهبنا مبنيّ على الاحتياط فإنّ التحريم في الوطئ والنظر وما يتبع النسب من الاحكام نظراً إلى اللغة أخذا بالاحوط وموضع الوفاق وهي في النسب تتبع الشرع لانّه عين الموافق لمراد الشارع ، فلو جعلناه منتفيا في كلّ الاحكام لاحتُمَل أن يكون غير مراد الشارع فيحصل حينئذٍ العقاب أيضا باعتبار التولّد اللغوي ، فالاحتياط التامّ مذهبنا والشارع قد نفاه في قوله ـ عليه السلام ـ : الولد للفراش ، وللعاهر الحجر (23) ، فلولا إسقاط حكم الزنا في ذلك لم يصحّ نفيه لاحتمال حصوله من الزنا دون الفراش ، فأعرض عن المجادلة في هذه المسألة ، ثمّ أقبل ينظر إلى كتاب كان معي ، وقال : ما هذا الكتاب الذي معك.
فقلت : هذا مصنّف للشيخ جمال الدين الحسن بن المطهر الحلّي من مشائخ الاماميّة وعلمائهم ، يسمّى بكتاب نهج الحقّ وكشف الصدق (24) ، يبحث فيه عن أحوال الخلاف بين الاماميّة وأهل السنّة ، وقد ذكر فيه حديثا ينقله عن صحيح مسلم أتحبّ أن أحكيه لك.
فقال : وما هذا الحديث ؟
فقلت : ما تقول فيما اشتمل عليه صحيح مسلم أتنكره ؟
فقال : لا بل جميع ما اشتمل عليه صحيح مسلم من الاحاديث فإنّي معترف بصحّته.
فقلت : روى مسلم في صحيحه ، والحميدي في الجمع بين الصحيحين في مُسند عبدالله بن العبّاس ، قال : لما احتضر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ كان في بيته رجال ، منهم : عمر بن الخطّاب ، فقال النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : هلمّوا أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا.
فقال عمر بن الخطّاب : إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ قد غلب عليه الوجع ، وإنّ الرجل ليهجر ، فاختلف الحاضرون عند النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، فبعضهم يقول : القول ما قاله النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، وبعضهم يقول : القول ما قاله عمر ، فلمّا كثر اللّغَطُ والاختلاف قال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع (25).
فقال : هذا حديث صحيح ، ولكن أيّ طعن على عمر فيه ؟
فقلت : الطعن من وجهين :
الاوّل : أنّه سوء أدب منه ومن الجماعة في حقّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ في ردّهم عليه مراده ، وعدم قبولهم أوامره ، ورفع أصواتهم فوق صوت النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ حتى تأذى بذلك وقال لهم : قوموا عنّي تبرئا منهم ، وقد قال الله تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (26) وقال تعالى : ( لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله ) (27) ، وقال تعالى : ( لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبىّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أَعمالكم وأَنتُم لا تشعُرُون ) (28) ، ومع ذلك لم يقتصر عمر على هذه الوجوه بل قابله بالشتم في وجهه وقال : بأنّ نبيّكم ليهجر ، أي يهذي وقال تعالى : ( وما ينطقُ عن الهوى ، إن هو إلاّ وحىٌ يوحى ) (29).
الثاني : إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لمّا أراد إرشادهم وحصول الالُفَ بينهم وعدم وقوع الاختلاف والعداوة والبغضاء بكتب الكتاب الذي يكون نافيا لضلالهم أبدا بنصّ الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ منعه عمر وحال بينه وبين مراده وهو مأمور بتوقيره ، واتّباع أوامره ، وقد قال الله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللهُ ورسولهُ أمرا أن يكونَ لهُمُ الخيرة ) (30)، فكيف ساغ لعُمر أن يختار منع النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ عن مراده مقابلاً له في وجهه بحضرة أصحابه ولهذا كان عبدالله ابن عبّاس إذا ذكر هذا الحديث يبكي حتى تبل دموعه الحصى ويقول : يوم الخميس وما يوم الخميس (31) ، وكان يقول دائما : الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وبين كتابه (32).
فقال : أما قولكم إنّ قوله : إن نبيّكم ليهجر شتم ، فغير مُسلّم ، أمّا الاوّل فلانّه لم يقصد بهذه اللفظة ظاهرها فإن في جلالة عمر ، وعظم شأنه ما يمنعه من ذلك ولكن إنّما أخرجها على مقتضى خشونة غريزته ، وكان موصوفا بالخشانة وإباءة الطبع.
وأمّا ثانيا : فلانّ قوله : إن نبيّكم ليهجر ، مشتقّ من هجر مهاجرة ، فتكون معناه انَّ نبيّكم ليهاجر ، وأمّا قولكم إنّه منع النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ عن كتابه ، وتقدّم بين يديه ، ورّده عن مراده ، فإنّه اجتهاد رأيه فسوّغ لمثله العمل باجتهاده فإنّه لمّا رأى في اجتهاده أن ترك هذا الكتاب أصلح ، ساغ له المنع منه على مقتضى اجتهاده وإن كان مخطئاً في ذلك الاجتهاد فَإنَّ الخَطَأ في ذلك غير معاقب عليه ، ولا يصحّ ذمُ فاعله لانّه أقصى تكليفه.
فقلت : هذا الجواب غير مسموع.
أمّا الاوّل : فإنّ قولك : إنّه غير شتم ، دليل على قلّة معرفتك بلغة العرب ، وعدم علمك باصطلاحاتهم في المخاطبات فإن ما هو دون هذه اللفظة عندهم شتم يقاتلون عليه ويتخاصمون ، فكيف بهذه اللفظة ، ولا ألومك على قلّة معرفتك بذلك لانّك لست بعربيّ.
وأمّا قولك : فإنّه لم يقصد بها ظاهرها إلى آخر الكلام ، فهو اعتراف منك بأنّ ظاهرها منكر وزور ونزّهتَه عن ذلك فمن أين عرفت عدم قصده مع أنّه تلفّظ بها متعمّدا واللفظ إذا وقع عن عمد وإرادةٍ دلّ بظاهره على أنّه مراد المتكلّم وظاهر الكلام دلّ على أنّه مُنكر فادّعاؤك عدم قصدهِ يحتاج إلى دليل.
وأمّا قولك : إنّما أخرجها على مقتضى خشونة غريزته ، فإنّ ذلك ليس بعذر يسقط التكليف ، لانّ كلّ مكلّف فطبعه يقتضي الميل إلى الشهوة والنفور عن الحَسنْ مع أنّه مكلّف بكسر الشهوة فالواجب عليه حينئذٍ كسر هذه الغريزية وقطع هذه العادة والاصغاء والاستماع إلى قول النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ والاتّباع له في جميع الاحوال لانّه مكلّف بذلك ، فبأيّ دليل ساغ له تَركُ ما كُلّف به والتنازع والردّ على النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ والتهجّم عليه بالكلام المنكر على مقتضى طبعـه ، إن ذلك لم يقع منه إلاّ لعدم علمه بالتكاليف ، وشدّة سرعة نكرها.
وأمّا قولك : إنّ قوله إن نبيّكم ليهجر مشتقّ من هجر مهاجرة معناه أنّ نبيّكم يهاجر ، فقول مردود من جهة اللفظ والمعنى ، أمّا من جهة اللفظ فإنّ الاشتقاق الذي ذكرته لم يقل به أحد ، ولمَّا وصلتُ في اعتراضي عليه إلى هذا الموضع أنكر عليه ذلك المُلاّ المدرّس ؟
وقال : هذه اللفظة ليست من هذا الاشتقاق بل هو من هجر يهجر هجرا لا مهاجرة فإنّ ذلك على غير القياس ، وإذا كان معناها ذلك ما احتملت إلاّ الهجر الذي هو الهذيان ويرد عليك ما قاله الشيخ.
فاعترف بالخطأ في ذلك ، ثمّ عدتُ فقلت : وأمّا غلطك من جهة المعنى ، فإنّ قولك إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ليهاجر كلام لا فائدة له لانّ المهاجرة من النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في تلك الحالة غير مُتصوّرة لانّه في حالة الاحتضار ولانّ الهجرة قد انقطعت ومع ذلك فهو غير مطابق لمقتضى الحال.
(23) صحيح البخاري ج5 ص192 ، سنن أبي داود ج2 ص282 ح2273 ، مسند أحمد ج1 ص59 و65 ، الموطأ ج2 ص739 ح20 ، السنن الكبرى للبيهقي ج6 ص86.
(24) هو أحد مؤلّفات العلاّمة الحلّي ـ رحمه الله ـ في علم الكلام ، كتبه إجابةً لطلب السلطان محمد خدابنده ـ عبدالله ـ الملك المغولي المتُشيّع.
(25) حديث مشهور روي بألفاظ متقاربة انظر : صحيح مسلم : ج3 ص1259 ح22 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج2 ص55 وج6 ص51 ، الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص29 ، المسند للحميدي ج1 ص241 ح526 ، طبقات ابن سعد ج2 ص36 و37 ، مسند أحمد بن حنبل ص293 و355 ، صحيح البخاري ج1 ص39 وج4 ص85 و121 ، المعجم الكبير للطبراني ج11 ص445 ح12261 ، شرح السنّة للبغوي ج11 ص180 ح2755 ، تاريخ ابن الاثير ج2 ص320.
وأخرجه في البحار ج22 ص468 ، عن إعلام الورى ص141 ، إرشاد المفيد ص89 ، وفي ص472 ح21 ، عن مناقب ابن شهرآشوب ج1 ص235 ، وفي ص474 ح22 عن أمالي المفيد ص36 ح3 ، وفي ص498 ح44 عن كتاب سليم بن قيس ص210.
(26) سورة الحشر : الاية 7.
(27) سورة الحجرات : الاية 1.
(28) سورة الحجرات : الاية 2.
(29) سورة النجم : الاية 3 و 4.
(30) سورة الاحزاب : الاية 36.
(31) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج2 ص54 ، صحيح مسلم ج3 ص1257 ـ 1258 ح20 ـ (1637).
(32) راجع : صحيح مسلم في آخر كتاب الوصية ج2 ص1259 ح 22 ، مسند أحمد ج1 ص222 ، صحيح البخاري ك المرض ب قول المريض قوموا عني ج7 ص153 ـ 154 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج2 ص55 وج6 ص51.
وأمّا الثاني : فإنّ قولك : إنّه إنّما منع منه على مقتضى اجتهاده قولٌ ضعيف جدا ، أمّا أوّلا : فلانّ الاجتهاد غير سائغ في هذه المسألة.
وأمّا ثانيا : فلانّ الاجتهاد لا يجوز مع وجود صاحب الشريعة ، فإن فرض الجميع في زمانه مع الحضور عنده التقليد لقوله تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه ) (33).
وأمّا ثالثا : فلانّ الاجتهاد لا يعارض النصّ كما تقرّر في الاصول ، وهذا الكلام من النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ نصّ يقتضي وجوب اتّباع أمره في الاتيان بالكتاب ، فكيف يصحّ أن يخالف نصّه وأمره ويعارض بالاجتهاد ، فإنّ النصّ يفيد القطع ، والاجتهاد لا يفيد إلاّ الظنّ ، والظنّ لا يعارض اليقين ، فكيف يسوغ لعُمر أن يترك اليقين القطعي المتلقّى ممّن لا ينطق عن الهوى بوحي الله تعالى ويردّه ويهمله ويمنع منه ، ويعمل باجتهاده إنّ ذلك لضلال وقلّة احترام للشرع ، وهتك للتكاليف ، ومع ذلك لم يقتصر على المنع والردّ حتى تكلّم بالشتم وتوصّل إلى المنع من أقبح الجهات بلفظ منكر صريح المنكر بظاهره وباطنه ومع ذلك تقول إنّ ذلك اجتهاد ، أيّ اجتهاد يسوغ في هذا الموضع ؟ وأيّ قول يُسمَعُ في ردّ كتاب النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ يحصل بذلك صلاح الاُمّة ، وعدم وقوع الاختلاف بينهم ؟
وأمّا قولك : إنّه رأى ترك هذا الكتاب أصلح للدين ، فقول مخالف للمعقول والمنقول لانّ ما أمر به النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ إمّا أن يكون فيه فسادٌ أو صلاحٌ ، ولا سبيل إلى الاوّل لاحد لاستلزامه الكفر ، وإذا كان صلاحا عَلِمَه النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ عن الله تعالى وعلم عمر أنّ الترك أصلح فهل كان النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ والله تعالى يعلمان ما علمه عمر أم لا ؟
فإن قلت : إنهما كانا يعلمان ما علم ، فكان الواجب عليهما العمل بالاصلح لانّ فعل الاصلح واجب في الحكمة ، فكيف تركا العمل بالاصلح وعلمه عمر ، وهل كان ألطف بالخلق منهما ؟
وإن قلت : إنّهما لا يعلمان ، فقد أبطلت وأحلت فاختر أيّهما فإنّها لا تخالف المعقول والمنقول.
فقال : الّذي ينبغي لذوي العقول أن لا يحملوا هذه الاشياء الواقعة بين هؤلاء الذين هم في محلّ التعظيم والشرف على مثل ما ذكرت ، بل ينبغي حملها على الوجه الجميل ، كما قيل إنّ بعض الناس سمع أعرابيا يقول مخاطبا لله عزّوجلّ في سنة جدب :
قد كُنتَ تسقي الغيث ما بدا لك *** أنزل علينـا الغيـثَ لا أبالَـكْ
فقال الشاهد : أشهَدُ أنّه لا أبا لهُ ولا ولد ، فأخرجها على أحسن مخرج (34).
فينبغي لمن سمع هذه اللفظة من هذا القائل وأمثاله أن يحملها على مثل ما حمل عليه لفظ الاعرابي.
وأمّا قولك : إنّ الاجتهاد لا يعارض النصّ ، وإنّ عمر لا يسوغ له الاجتهاد في هذا المحلّ ، فإنّ ذلك على حالة غير هذه الحالة فإنّ هذه الحالة كانت حالة الاحتضار ، والنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ مغلوب بالمرض حتى أنّه كان يغمى عليه مرَّةً ويفيقُ اُخرى ، فاحتمل أن يكون أمره في حال غير حالة الصحّة ، فساغ له الاجتهاد والنظر حينئذٍ فأدّاه الاجتهاد إلى الحكم بأنّ ذلك منه حال كونه مغلوبا بالمرض.
فقلت : والذي ينبغي لاهل الدين والصّلاح أن لا يحُرّفوا الكلِمَ عن مواضعه ، وهذه الكلمة الخارجة من هذا القائل ليس لها محمل غير ظاهرها ، فلا يمكن حملها على غيره ، وأمّا حمل كلام الاعرابي على ما حُملَ عليه فإنّه حملٌ ظاهرٌ يعرفه من له أدنى رويّة ، ولفظة عمر لا تلقى أنت ولا غيرك لها محملاً غير ظاهرها الذي شتم الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، فإن كان لها محمل فاذكره ، ولكنّك تقول : ينبغي أن تحُمل على غير ظاهرها مع عدم وجود محمل ، كيف يتُصوّرُ ذلك ! فالعجب منكم كيف تحملون ظواهر الايات التي فيها عِقابُ الانبياء ـ عليهم السلام ـ على ترك الاولى على ظواهرها ، وتحكمون عليهم بالمعاصي والخطأ مع دلالة العقل على وجوب تنزّههم عن ذلك مع وجود المحامل لظواهر تلك الايات ، وتتركون ذلك وتحملون كلام عمر الذي ظاهره المنكر ومرتبته أقلّ من مراتب الانبياء بأضعاف على غير ظواهرها ، وتمنعون من جواز حمله على ظاهره مع أنّه كلام لا محمل له ، وتتركون العمل بظاهرها بغير تأويل واضح ، ولا دليل لائح ، وهلاّ ساويتم بينه وبين الانبياء الذين هم في محلّ التعظيم ، وما ذاك إلاّ من قلّة إنصافكم ، وكثرة تستّركم للحقّ ، وشدّة تسرّعكم إلى التّعمية بإيراد الشُبَه.
وأمّا قولك : إنّ عمر إنّما عارض أمر النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لانّه في حالة غير حالة الصحّة ، ولو كان في حال الصحّة لمَا عارضه ، فإنّه كلام رديءٌ جدّا لانّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ أمْرُه بالكتاب لا يخلو إمّا أن يكون متّصفا بالعقل وأن أمره صدر عن إرادة جازمة أو غير ذلك ، ولا سبيل لك إلى الثاني لقوله تعالى : ( وما ينطق عن الهوى ) (35) ، ولكن كلمة صاحبك تدلّ على ذلك وهي المنكر الذي نحن بصدد الاعتراض عليه ، ومن الاوّل يلزم وجوب اتّباع أوامره ، والانقياد إلى إرادته ، وقبول أقواله لانّه واجب الطاعة في جميع الاحوال فلا يسوغ الاجتهاد حينئذٍ لانّ الامر الواقع عنه إيجاب لِما أمر به فيكون أيضا يقتضي وجوب العمل به فالرادّ عليه يكون رادّا لجميع الاوامر الشرعيّة ، وذلك على حدّ الشرك نعوذ بالله.
وما أعجب حالكم تستدلّون على إمامة أبي بكر بتقديم النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ في مرض الموت في الصلاة وتجعلون ذلك حجّة لكم في وجوب اتّباعه ، وتجعلون الامر منه بالكتاب الذي فيه هَدي الاُمّة وعدم حصول الاختلاف بينهم محلّ الهذيان والهذر وتسوّغون لعمر أن يمنع منه بالاجتهاد لجواز أن يكون هذرا وهذيانا في اجتهاده ، فكيف لا يحتمل الامر في ذلك مثله ، إن هذا إلاّ قلّة الانصاف والخبط ، وأعجب من هذا أنّكم تستدلّون على خلافة عمر بأنّ أبا بكر نصّ عليه بها مع أنّ ذلك وقع منه في حال المرض بإجماع الكلّ ، فكيف لم تحمل كلام أبي بكر على الهذيان وتحمل كلام النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على ذلك ؟ فهل كان أبو بكر أكمل من النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وأتمّ ؟! وما أحسن قول بعضهم في هذا المعنى شعرا :
أوصى النبىّ فقال قائلُهُـم *** قدْ ضلَّ يهجُر سيّدُ البشـر
َوأَرَى أبا بكرٍ أصَابَ فلـمْ *** يَهجُر وقد أوصَى إلى عُمَر
( الى آخر المجلس الثاني )
المجلس الثالث : يوم الجمعة يوم آخر أتى المنزل لغرض له مع السيّد محسن وكنت مع السيّد ولم يكن معنا أحد فخلوت معه فجلس ، وقال : إنّ هذا اليوم المجلس خال من الناس وأريد أن أبحث معك في هذه الخلوة.
فقلت : تكلّم بما تريد.
فقال : ابحث لي عن حال الخلفاء ، وما كانت صفتهم ، وما تعتقده منهم لاناظرك في ذلك.
فقلت : أمَّا الخليفة الاوّل فقد ظهر من طريقته وصفته أن توصّل إلى التقديم على المسلمين ، وأخذ الخلافة من آل الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ ، والتسارع إلى ذلك ، والتوصّل إليه بما عرفت من الخدع والمكر والتحيّل والتّغلّب وتحلى بحلية لم يُحَلِّه الله بها ولا رسوله ، ويكفيك في ذلك تَركُه النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ في حال مصيبة الموت لم يحضره ولا اشتغل بتجهيزه ، ولا عَظُمت عنده تلك المصيبة ، ولا جلّت لديه تلك الرّزية ، ولا التفت إلى ما أصاب الاسلام من الفادح العظيم ، والخطب الجسيم بموت النبي الكريم بل استغنم الفرصة باشتغال عليّ ـ عليه السلام ـ وبني هاشم بمصيبتهم بالنبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وولّى هو تلك المصيبة العظيمة دبره ، ومضى إلى السقيفة لتحصيل الامارة والمنازعة عليها ، وترك الحضور في عزاء نبيّه وغسله ودفنه والصلاة عليه وتعزية أهله ، ولم يحضر هو ولا صاحبه شيئا من ذلك ، ووقوع ذلك منهم دليلٌ على قلّة احترامهم وعدم مبالاتهم بالاسلام ، وإنّهم إنّما ابتغوا بذلك نيل الرئاسات والولايات لا للدين لانّهما ومن كان معهما في السقيفة من الانصار وغيرهم لم يكن لهم قوَّة في الدين ولا عقيدة في الاسلام ، فإنّ كلّ من لم تدخل مصيبة النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ في قلبه ، ولم تخشع لها جوارحه ، ولا اشتغل بها عن جميع مُهمّاته فإنّه ناقص الدّين ، ضعيفُ الاعتقاد ، بل غير مُسلم فكيف يليق بحال من هو متأهّل لخلافة المسلمين والقيام مقام نبيّهم أن يترك نبيّه مَيّتا لا يحضره ولا يقوم بشيء من مهمّاته ، وحرمته ميتا كحرمته حيّا بنصّ الشّرع ، فالواجب عليه وعلى جميع أهل الاسلام الحضور لتلك المصيبة والاشتغال بها وتعزية بعضهم بعضا عليها حتى ينقضي عزاؤه ، ثمّ بعد ذلك يقومون في مُهمّاتهم ، فلمّا علموا ذلك أهملوه غاية الاهمال وتسارعوا إلى المنازعة في سلطانه ، والقيام في مقامه قبل دفنه بل قبل غسله وقع ذلك منهم على ما ذكرناه مع أنّه صهرهم ، ولا يليق بأحد من النّاس أن يترك زوج ابنته بغير غسل ولا تكفين ولا دفن ، بل يعلم منه أنّه كاره له غاية الاكراه وهذا واضح بحمد الله على ما هو عادة خلق الله ، بل يعلم منه الفرح والسرور بموته لا يَشكّ فيه ذو لبّ ، ولا يَحيدُ عنه إلاّ جاحد للرّسول والربّ ، بل وانّهم شامتون بموته ومن له أدنى إنصاف يعرف ذلك.
ثمّ إنّه لم يكفه ذلك حتى شرع في الظلم والجور فأوّل ظلم سَنّه ظلم البتول فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين التي هي من أُولي القربى الذين أمر الله بمودّتهم في مُحكَمِ كتابه وجعله أجر الرسالة فقال تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) (36) ، وأىّ قرابة أبلغ من البنوّة ، وقد قال في حقّها رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فقد دخل النار (37).
حديث اتّفق عليه الفريقان.
منعها من إرث أبيها بخبر رواه وحده ولم ينقله أحدٌ ، وهو قوله إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال : نحن معاشر الانبياء لا نورّث (38) وهذا الحديث كذبٌ لانّ الله تعالى يقول : ( وورث سليمانُ داود ) (39) وقال : حاكيا عن زكريّا : ( يرثني ويرث من آل يعقوب ) (40) ، وأراد إرث المال لانّه تعالى قال بعده : ( واجعله رب رضيا ) (41) لانّه لو أراد إرث النبوّة لم يحتج إلى طلب كونه رضيّا لانّ الوارث لها لا يكون إلاّ كذلك ، وقال الله تعـالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الاُنثيين ) (42) ، وهو عامّ في حقّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وغيره ثم لم يقنعه ذلك حتى منعها من فدك والعوالي وقد كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ قد أعطاهـا فاطمـة ـ عليـها السلام ـ لمـا نزل قولـه تعـالى : ( وآتِ ذا القربى حقه ) (43) واستغلّتها فاطمة ـ عليها السلام ـ في حياة أبيها فرفع يدها عنها ، فكلّمتهُ في الارث وفيها ، فقالت : وكيف ترث أباك ولا أرث أبي ، ثمّ قالت : وهذه نحلتي من أبي كيف تأخذها وتمنعني منها ، فطالبها بالبيّنة وهو غير المشروع لانّ القابض منكر والبيّنة على المدّعي ، ثمّ إنّها أتت بعلي والحسن والحسين ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ وأُمّ أيمن شهودا على النحلة ، فردّ شهادتهم عنادا للشرع ، وتبطيلاً للاحكام ، وبغضا لاهل البيت ـ عليهم السلام ـ ، كلّ ذلك ثبت بالروايات الصحيحة لا يسع أحد إنكارها لانّ ذلك قد اتّفق على نقله الفريقان ، ولهذا ما ماتت إلاّ وهي ساخطة على صاحبيك وحلفت ألاّ تكلّمهما ، وأوصت ألاّ يصلّيا عليها (44) ، مع قول النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : يا فاطمة ، إنّ الله يسخط لسخطِك ، ويرضى لرضاكِ (45) ، ومن هذا حاله مع أهل البيت ـ عليهم السلام ـ كيف يُؤمَن على غيرهم ؟ وكيف يصحّ اتّباعه وتقليده ؟ وكيف تجعله واسطة بينك وبين خالقك ؟ وله أحوال غير ذلك لو نروم تعدادها لا تّسع الخطاب ، وقلّ منك الجواب.
وأمّا الخليفة الثاني : فقد عرفت ما كان عليه في حياة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، ثمّ لمّا ولي الخلافة أظهر البدع ، وعمل بضدّ الصواب ، فمنع المُتعة الثابت حلّها في الشرع المحمدي ، وقد أمر الله بها ورسوله واتّفق الكلّ على نقلها في زمن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وزمن أبي بكر وبرهة من خلافته ، ثمّ منع منها مخالفا للكتاب والسنّة والاجماع ، وقام وقعد في توطئة الامر لابي بكر حتى توعّد الناس ممّن تأخّر عن بيعته بالضّرب والقتل ، وأراد حرق بيت فاطمة لمّا امتنع عليّ ـ عليه السلام ـ وبعض بني هاشم من البيعة (46) ، وضغطها بالباب حتى أجهضت جنينها ، وضربها قنفذ بالسّوط (47) عن أمره حتى أنّها ماتت وألم السّياط في جسمها ، وغير ذلك من الاشياء المنكرة.
فقال : إنّ ذلك من روايتكم وطريقكم فلا تقوم حجّة على غيركم.
____________
(33) سورة الحشر : الاية 7.
(34) الكامل : ج7 ص145 بشرح المرصفي ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج1 ص183.
(35) سورة النجم : الاية 3.
(36) سورة الشورى : الاية 23.
(37) فضائل الصحابة لاحمد : ج2 ص755 ح1324 ، كشف الغمّة ج1 ص466 ، شرح نهج البلاغة ج16 ص273.
(38) تاريخ الطبري : ج3 ص208 ، شرح نهج البلاغة ج16 ص227 ، كشف الغمّة ج1 ص478.
(39) سورة النمل : الاية 16.
(40) سورة مريم : الاية 6.
(41) سورة مريم : الاية 6.
(42) سورة النساء : الاية 11.
(43) سورة الاسراء : الاية 26 ، روى السيوطي في السند المنثور: ج5 ص273 في تفسير قوله تعالى : ( وآت ذا القربى حقه ) قال : أخرج البزّاز ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه الاية دعا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فاطمة ـ عليها السلام ـ فأعطاها فدكاً. وأخرج نحوه عن ابن مردويه عن ابن عباس.
ومما يفيد ذكره هنا هو ما أخرجه في مجمع الزوائد ج9 ص39 من طريق الطبراني في المعجم الاوسط عن عمر قال : لمّا قبض رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ جئت أنا وأبو بكر إلى علي ـ عليه السلام ـ فقلنا : ما تقول فيما ترك رسول الله ؟ قال : نحن أحق الناس برسول الله. قال : فقلت : والذي بخيبر ؟! قال : والذي بخيبر.
قلت : والذي بفدك ؟ ! قال : والذي بفدك.
فقلت : أما والله حتى تحزّوا رقابنا بالمناشير فلا !!!
(44) راجع صحيح البخاري : ج6 ص177 ، تاريخ الخميس : ج1 ص313 ، اُسد الغابة ج5 ص524 ، الاستيعاب ج2 ص751 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج16 ص214 وص218 ، ومن لطيف ما يُذكر في هذا الباب ما ذُكر عن بهاء الملّة والدين انّه قال : كنت في الشّام مظهراً انّي على مذهب الشافعي ، فقال لي يوماً أفضل فضلائهم ، يا فلان تحصل عند الشّيعة حجّة يُعتمد عليها فقال له : حججهم كثيرة ، فطلب مني أن احكي له شيئاً منها. فقلت له : يقولون انّ البخاري روى في صحيحه عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ انّه قال : فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني ، ثم روى بعد هذا بأربع ورقات انّها خرجت من الدّنيا وهي غاضبة عليهما ـ يعني على الشيخين ـ فما ندري كيف الجواب ؟! فأطرق مليّاً وقال : هذا كذب على البخاري أنا أراجعه الليلة فغدوت عليها من الصّباح ، فلمّا رآني ضحك ، ثم قال : أما قلتُ لك أنّ الرّافضة تكذب ، راجعتُ صحيح البخاري البارحة فرأيت بين الحديثين أزيد من خمس ورقات ، وكان يتباجح بهذا الجواب. روضات الجنات ج7 ص71.
(45) تقدمت تخريجاته.
(46) تقدمت تخريجاته.
(47) راجع : الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص57 ، لسان الميزان للعسقلاني ج1 ص293 ، فرائد السمطين ج2 ص36 ، المناقب لابن شهرآشوب ج3 ص358 ، دلائل الامامة للطبري ص45 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج 14 ص 193 ، كتاب سليم بن قيس ص83 ـ 85 ، اثبات الوصية للمسعودي ص23 ـ 24 ، بحار الانوار ج43 ص170 ، سفينة البحار للقمي ج2 ص597 ، تفسير العياشي ج2 ص307 ـ 308 ، بتفاوت.
فقلت : أمّا حديث الارث والعوالي وفدك ، فقد رواه منكم الواقدي ، وموفّق بن أحمد المكّي.
وأمّا حديث المتعة ومنع عمر لها فمشهور عندكم ، وأمّا حديث الاحراق وإجهاض الجنين فبعضه مرويّ عنكم وهو العزم على الاحراق ، رواه الطبري والواقدي.
ثمّ عدت فقلت : وأمّا الخليفة الثالث فما كان عليه من المنكرات وعمل المقبحات فمشهور ، لا يحتاج إلى بيان ، فإنّه ضرب ابن مسعود ، وأحرق مصحفه (48) ، ونفى أبا ذرّ إلى الرّبذة(49) ، وردّ الحكم بن العاص بعد نفي النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ (50) وقوله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : لا يجاورني حيّا ولا ميتا ، فمن خالف فعليه لعنة الله ، ثمّ آواه وقرّبه وأدناه ، ولم يكفه ذلك حتى طعن على النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ في نفيه الحكم ، فقال عند وصوله المدينة : ما نفيت إلاّ بغيا وعدوانا ، واستعمل في ولايته أقرباءه بني أُميّة الفسقة المتظاهرين بالفسق وشرب الخمور ، ويكفيك في ذلك أنّ المسلمين أجمعوا على قتله لما أبدع في الدّين وخالف ما عليه الخلفاء المتقدّمين ، فقتلوه في بيته بين أهله ولم ينكر عليهم ذلك أحد من الصحابة وكان علي ـ عليه السلام ـ حاضرا في المدينة يشهد الواقعة ولو كان قتله غير جائز لوجب على علي ـ عليه السلام ـ الدفع عنه ومن حيث جاز قتله لم يصحّ الدفاع عنه فهو غير… فاختر أيّها شئت ، إما أن يكون علي ـ عليه السلام ـ ترك الدفع عنه مع وجوبه أو تركه لعدم جوازه.
فقال : يمكن أن يكون ترك الدفع تقيّة.
فقلت : هذا الكلام غير مسموع ، أمّا أوّلاً فلانّه ـ عليه السلام ـ في تلك الحالة كثير الاتباع ، قليل الاعداء ، وجميع المسلمين يستطلعون رأيه ، ولم يكن هناك أحد ممّن يعدلونه به وكان قوله مسموعا عندهم.
وأمّا ثانيا : فلانّه ترك بعد قتله ثلاثة أيّام لم يدفن فهلاّ كان أمر بدفنه في تلك المدّة ، وما ذاك إلاّ أنّه غير مستحقّ للدفن.
وأمّا ثالثا : فلانّه كان الخليفة بعد قتله ، فلِم لا أقاد قاتليه لوارثه ، وقتلهم به مع تمكّنه من ذلك.
فقال : إنّي أُحبُّ أن تترك البحث في هؤلاء الثلاثة إلى غيرهم من بقيّة الخلفاء.
فقلت له : إنّهم الاساس ، فلا يصحّ العدول عنهم حتى يتحقّق عندك ما كانوا عليه وقد أوضحتُ لك طريقتهم ، ثمّ إنّي أُسهّل عليك الطريق ، ألم تعتقد أنّ عليّا ـ عليه السلام ـ في غاية ما يكون من الصّفات المحمودة ، والعدالة المطلقة ، وأنّه ليس لطاعن عليه سبيل.
فقال : بلى أعتقد ذلك وأُدين الله به.
فقلت : ما تقول في شكايته منهم وتظلّمه ونسبتهم إلى غصب حقّه (51) ، والتغلّب عليه ، أليس يكون قادحا لعدالتهم ، ومبطلاً لخلافتهم إذ لا يصحّ التظلّم والشكاية ممّن لم يُفعَل معه ما يوجب ذلك.
فقال : بلى إن ثبت ذلك.
فقلت : قد نقل ذلك عن علي ـ عليه السلام ـ نقلاً متواترا لا يختلف فيه يكفيك فيه الوقوف على كتاب نهج البلاغة الذي شاع ذكره عند جميع العلماء والمدرّسين في الخطبة الموسومة الشقشقية (52) برواية ابن عبّاس وغيره.
فقال : إنّي لم أسمعها !!
فقلت : أتحِبّ أن أُسمعها لك ؟
فقال : نعم.
فقلت : ذكر السيّد الرضي ـ رحمه الله ـ في نهج البلاغة مرفوعا إلى ابن عبّاس أنّه قال : كنت مع علي ـ عليه السلام ـ برحبة الجامع في الكوفة ، فتذاكرنا الخلافة وتقدّم من تقدّم عليه فيها ، فتنفّس الصعداء.
فقال : أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليّ الطير ، فسدلت دونها ثوبا ، وَطَوَيتُ عنها كشحا ، وطفِقتُ أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طُخيةٍ عمياء يهرم فيها الكبير ، ويشيب منها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه ، فعلمت أنّ الصبر على هاتي أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهبا ، وحكيتها له إلى آخرها.
فقال : فمن يعرف من أصحابنا أنّ هذه الخطبة من لفظ علي ـ عليه السلام ـ ؟
فقلت : هذا عبد الحميد بن أبي الحديد قد شرح نهج البلاغة وصحّح هذه الخطبة وروى أنّها من كلام علي ـ عليه السلام ـ وشرحها ، (53) وتكلّم على من أنكر أنّها من كلام غير علي ـ عليه السلام ـ ، أو قال : إنّها من لفظ السيّد الرضي بكلام يعلم منه أنّه من كلام علي ـ عليه السلام ـ ، وقال : إنّ كلام الرضي لا يقع هذا الموقع ، ولا يبلغ هذا الحدّ.
وقال : إنّ مشايخنا من المعتزلة وغيرهم قد رووا هذه الخطبة عن علي ـ عليه السلام ـ وأثبتوها في مصنّفاتهم قبل أن يكون الرضي موجودا بمدّة (54) ، ثمّ إنّه لم يسعه إنكارها واعترف بصحّتها ، وأنه من كلام علي ـ عليه السلام ـ ، وحمل الشكايات الواردة فيها منه ـ عليه السلام ـ من الصحابة على انّه إنّما شكا على ترك الاولى لانه كان ـ عليه السلام ـ الاولى والاحقّ بالخلافة منهم لفضله عليهم ، فلمّا عدلوا عن الافضل الاحقّ إلى من لا يساويه في فضل ، ولا يوازنه في شرف ، ولا يقاربه في سؤدد وعلم ، صحّ له أن يبثّ بالشكوى والتظلّم على هذا الوجه لا أنّه على وجه الغصب والجور.
واعترضت عليه بأنّ ذلك غير مسموع لانّه نسبهم إلى أخذ حقّه ، وسمّى فعلهم نهبا ، قال : أرى تراثي نهبا ، وعنى بتراثه الخلافة لانّها إرثه من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، وهكذا شرح ابن أبي الحديد هذا اللفظ ، فقال : وعنى بالارث هنا الخلافة لانّها إرث من النّبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، ثمّ إن كان العدول عن الاولى لمصلحة لم يصحّ من علي ـ عليه السلام ـ الشكاية منهم فيما عملوه مصلحة للمسلمين ، وإن كان لا لمصلحة كان عدولاً عن الاولى لمجرّد التشهّي فيكون مردودا ، هذا مع أنّ العذر إنّما يتصوّر على رأي من يقول بتفضيل علي ـ عليه السلام ـ على الخلفأ الثلاثة وهم الاقلّ ، وأمّا المشايخ القائلون بتفضيل الثلاثة فما عذرهم مع أنّهم الاكثر ، والسواد الاعظم فأحد الامرين لازم ، إمّا الطعن على علي ـ عليه السلام ـ بتظلّمه ممّن ليس ظالما له ، وإمّا الطعن عليهم بأنّهم أخذوا حقه ظلما.
فقال : ابن أبي الحديد ليس منا بل من الشيعة !!
فقلت له : هذا يدلّ على عدم اطّلاعك بأحوال الرجال ، فإنّ ابن أبي الحديد مشهور بالاعتزال ، وهو من مشايخ المعتزلة ومشاهيرهم وله مصنّفاتٌ حكى فيها مذهبه وأشعار (55) وكذلك ، فاعترف بذلك أنّه معتزلي.
ثمّ قال : دعني حتى أتروّى في هذه الخطبة ، فأخذت له نهج البلاغة وأخرجت له الخطبة منه ، فأخذ نهج البلاغة منّي فطالع فيها ساعة ، ثمّ قال : إنّي لا أترك مذهبي واعتقادي في هؤلاء الثلاثة بمجرّد هذه الخطبة.
فقلت : إذن أنت مكابر الحقّ !!
ثمّ إنّه قال : فما ظنّك في مثل الشيخ فخر الدين الرازي ، وأثير الدين الابهري ، وجار الله العلاّمة الزمخشري ، وسعد الدين التفتازاني ، والسمرقندي ، والاصفهاني ، وغيرهم من العلماء المدرّسين ملأت مصنّفاتهم الافاق ، وشاع ذكرهم في جميع الامصار كلّهم على ضلال ، لو لا أنّ لهم على ما ذهبوا إليه دلائل ثابتة ، وبراهين واضحة لما ثبتوا على هذا المذهب ، ولا اعتقدوا خلافة هؤلاء الثلاثة ولكن لمّا ثبت عندهم بالادلّة القاطعة ، والبراهين السّاطعة اعتقدوا ذلك وأثبتوه في مصنّفاتهم وقرّروه لاتّباعهم وتلاميذهم ، وإنّما أخذت العلم عن مصنّفاتهم فأنا لا أترك طريقهم مع اعتقادي صدقهم وعدالتهم ، واستفادتي من علومهم ، وأسلك طريق من لا أعرف صحّة قوله ، ولا أعتقد عدالته ، ولا ثبت عندي علمه.
فقلت : إذن أنت مقلّد لهم ، فقد خرجت عن حَيّز الاستدلال الذي حثّ الله عليه بقوله تعالى : ( ائتوني بكتبٍ من قبل هذا أوأثرةٍ من علم إن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (56) ، وقال تعالى : ( انظروا ماذا فيالسموات والارض ) (57) إلى حيز التقليد الذي ذمّ الله فاعله ووبخه بقوله : ( إنا وجدنا أبَأَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنّا عَلَى آثارِهِم مُقْتَدُونَ ) (58) ، وقال تعالى : ( إِذ تَبَرَّأَ الَّذينَ اتُّبعُوا مِنَ الَّذِينَ اتبعُوا ورأوا العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاسْبَابُ ) (59) فكيف تترك الاستدلال المأمور به وترجع إلى التقليد المنهي عنه المذموم فاعله بنصّ الكتاب أم كيف يسوغ لك التقليد في مثل ما نحن فيه ؟ !
فقال : نعم ، التّقليد في مثل هذه المسألة جائز لانّ مسألة الامامة ليست من أُصول الدين ، بل هي عندنا من الفروع ، والفروع يصحّ التقليد فيها ، وأنا أُقلّد فيها وأترك الاستدلال.
فقلت : لا يصحّ ذلك ، أمّا أوّلاً فلانّ مسألة الامامة ليست من الفروع ، بل هي من أعظم أُصول الدين ، وأحد أركان الايمان ، لانّها قائمة مَقَامَ النّبوّة في حفظ الشريعة ، وانتظام أُمور العالم ، وبقاء نوع الانسان في معاشه ومعاده ، والنّبوّة من الاُصول اتفاقا ، فكذا القائم مقامَهُ من غير فرق.
وَأمَّا ثانيا : فلانّا لو سلّمنا أنّها من الفروع لم يصحّ لك التقليد أيضا ، لانّ التّقليد في الفروع إنّما يسوغ لمن لم يقدر على الاجتهاد ، ولا يتمكّن من إقامة الدليل فيسوغ له التقليد حينئذٍ لعجزه عن الاستدلال لانّ التكليف بغير المقدور قبيحٌ ، وأمّا مع قدرة المكلّف على الاستدلال وتمكّنه منه لا يسوغ له التقليد لا في الاُصول ولا في الفروع ، بل يجب عليه النظر والاستدلال بالبراهين والامارات وأنت قادر على الاجتهاد ، متمكّن من إقامة الدليل ، فلا يسوغ لك التقليد بل يجب عليك الاجتهاد والنظر في الادلّة والامارات ، ومع ذلك فقد قام لك الدليل على بطلان خلافة هؤلاء الثلاثة فيجب عليك المصير إليه لانّه لم يعرض لك ما ينقضه أو يعارضه فكيف يسوغ لك التقليد بعد قيام الدليل ومعرفتك به وعدم حصول ما ينقضه أو يعارضه فكيف تتركه وترجع إلى التقليد.
وهذا شيء لم يقله أحد ، ولم يسوّغه عالم مع أنّي أقول : إن كنت من المقلّدين فلم رجّحت تقليد هؤلاء المشائخ دون غيرهم من أمثالهم ، فإنّ في مذهبنا من العلماء والمصنّفين والمدرّسين مثل ما ذكرت وأزيَد ، كالامام المحقّق نصير الدين الطوسي الذي سمي في المعقول المحقّق ، وسمي فخر الدين بالمشكك ، وكذلك السيد مرتضى الموسوي الذي أفحم كلّ من ناظره وألزمه في جميع العلوم ، والشيخ المفيد محمد بن النعمان البغدادي الذي سُمّي به لكثرة استفادة الخلق من علومه ، والشيخ أبو الفضائل الطبرسي الذي أحيا علوم القرآن في جميع البلدان ، والشيخ أبو جعفر الطوسي الذي اشتهر عند العامّة والخاصّة ، والشيخ جمال الدين الحلّي الذي سارت مصنّفاته في جميع الامصار ، والسيّد شريف الحسني الذي درَّس في جميع بلاد العجم ، وركن الدين الجرجاني ، ونصير الدين القاشي ، وغيرهم من علماء العرب والعجم فإنّ مصنّفاتهم قد ملأت البلدان ، وذكرهم قد شاع في جميع الامصار ، وقد أبطلوا في مصنّفاتهم جميع الادلّة التي ذكرها علماؤكم وقابلوها بالاجوبة المسكتة ، وصنّفوا في الامامة كُتُبا ومصنّفات ضخمة وذكروا فيها أدلّة كثيرة على صحّة إمامة علي عليه السلام بعد النّبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ بلا فصل ، وأبطلوا إمامة غيره ، حتى أنّ الشيخ جمال الدين بن المطهّر ـ قدّس الله روحه ـ وضع كتابا سمّاه بكتاب الالفين (60) ذكر فيه ألف دليل على إمامة علي ـ عليه السلام ـ وألف دليل على إبطال إمامة غيره ، فما وجه الترجيح في تقليدك أُولئك دون هؤلاء ؟ فسكت ولم يجبني بشيء.
ثمّ قال : ابحث لي عن سيرة باقي الخلفاء من بعد علي ، واترك البحث عن المتقدّمين.
فقلت : أوّل ما أبحث لك في معاوية وأسألك عمّا تعتقد به.
فقال : أعتقد أنّه موحّد مسلم سادس الاسلام ، وخال المؤمنين ، وأنّه خليفة من خلفاء المسلمين ، لا يجوز وصمُه ولا الطعن عليه بحال.
فقلت : وكيف تعتقد هذا الاعتقاد فيه مع أنّه حَارَبَ عليّا ـ عليه السلام ـ وقاتله ، وخالَفَ بين المسلمين حتى قتل كثيرا منهم ، وقد قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : يا علي ، حربك حربي ، وسلمك سلمي (61) ، وهذا حديث اتّفق عليه الكلّ أو تنكره أنت ؟
فقال : لست أنكره.
فقلت : إذن حرب علي حرب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، كفر بالاجماع ، فحرب معاوية عليّا كذلك بمقتضى الحديث.
فقال : إنّ حربه كان باجتهاده والعمل بالاجتهاد جائز بل واجب وقد أدّاه اجتهاده إلى المحاربة وإن كان مخطئا في اجتهاده والخطأ في الاجتهاد لا لوم على صاحبه.
فقلت : لقد أبطلت وأحلت ، كيف أنت تترك الاجتهاد في الاستدلال على إثبات الخليفة بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وترجع إلى التّقليد ، وتقول : إنّ مسألة الامامة من الفروع التي يكفي فيها التقليد وتسوّغ لمعاوية الاجتهاد في محاربة من نصّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على أنّ حربه مثل حربه على الامامة مع أنّه في تلك الحالة إمام واجب الاتّباع بالاجماع إن هذا إلاّ خَبط وقلّةُ حياء في إيراد الشبهة التي تعلم أنّها ليست حجّةً.
ثمّ قلت له : أليس علي ـ عليه السلام ـ خليفة ثابت الخلافة بعد عثمان بما عندكم بالاجماع من أهل الحلّ والعقد ؟
فقال : بلى.
فقلت : أليس معاوية قد خالف الاجماع ، ومخالف الاجماع كافر ؟
وهل يصحّ الاجتهاد في مسألة بعد حصول الاجماع من الاُمّة على خلافه وقد تقرّر في الاُصول أنّ الاجتهاد لا يعارض الاجماع فكيف ساغ لمعاوية الاجتهاد المؤدّي إلى الفساد والاختلاف بين أُمّة محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، وحصول القتل العظيم ، ونهب الاموال حتى قُتل في تلك الحرب عمّار بن ياسر ، وقد قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في حَقّهِ : عَمَّارٌ جلدةٌ بين عيني تقتله الفئة الباغية (62) ، هذا حديث نقله كلّ الاُمّة ولمّا قُتل قال أهل الشام : نحن الفئة الباغية بنصّ الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لانّا القاتلون لعمّار.
فقال معاوية مجيبا لهم بالتمويه وستر الحقّ : إنّما قتله من جاء به إلينا فأوهمهم بهذه الشبهة أنّ الفرقة الباغية أهل العراق ، ولمّا سمع ابن عبّاس اعتذار معاوية بما ذكره ، قال : قاتل الله معاوية وأبعده يلزم أن يكون رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ قاتل حمزة وعبيدة وغيرهما من شهداء بدر وأُحد ، لانّه هو الذي جاء بهم إلى الكفّار (63) ، وكيف يعتذر لهم بهذا الاعتذار ومع ذلك فكيف يسوغ له سَبُّ علي ـ عليه السلام ـ ، وشتمه على المنابر وعلى رؤوس الاشهاد (64) ، حتّى استمرّ على ذلك بنو أُمية برهة من الزمان إلى وقت خلافة عمر بن عبد العزيز فرفعه (65) ، وكيف يسوغ له ذلك مع أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ يقول : من سَبَّ عليا فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله (66) الحديث ، وهل يصحّ أن يجتهد في ذلك ، فما عذره وعذر من يعتذر له عند الله إذا سبّ من مدحه الله تعالى.
وأوجب حقّه ، ونزّهه عن الخطأ ، وفضّله وكان أساس الاسلام بسيفه ونظام الاُمّة بتدبيره ، وأحكام الشريعة بعلومه ، وقد قال فيه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : علي مَعَ الحقّ والحق مع عليّ يدور حيثما دار (67) ، حديث اتّفق على نقله الكلّ ، ثمّ إنّي قلت : ما أظنّ عالما مثلك يقف على مثل هذه الاحوال ثمّ يتوقّف ويخالطه شكّ في معاوية ، أليس مولانا سعد الدين التفتازاني لمّا وقف على هذه الاحوال وتحقّقها تبرّأ منه وسبّه حتى اشتهر ذلك عنه في جميع بلاد خراسان ، فكيف تمدحه أنت أو تتوقّف في وصمه ؟
ثمّ قلت : ما تقول في يزيد ؟
فقال : لا أشكّ أنّه ملعون يجب على كلّ مسلم التبرّي منه لقتله الحسين ـ عليه السلام ـ ، بل وقتل الانصار يوم الحرة (68) ، وضرب الكعبة بالمجانيق حتى هدمها (69) ، وحكيت له القصص.
فقال : إنّي لا أشكّ في لعنه.
فقلت : فإنّ خلافته مسببةٌ من أبيه فكان العصيان والفسوق والفساد الحاصل منه كلّه مسببا عن أبيه فكانا نظيرين ، فإن الاب سمَّ الحسن (70) ـ عليه السلام ـ ، والابن قتل الحسين ـ عليه السلام ـ ، فَتَعَجَّبَ من قصّة سمّ الحسن ـ عليه السلام ـ.
فقلت : إنّها قصّة ثابتة عند أهل السير والاحاديث وحكيتها له وما كان السبب فيها ، فوافق على التبرّي منه ولعنه.
فقلتُ : إنّ خلافته مسببة عن عثمان لانّه هو الذي استعمله على الشام فبقي متغلّبا عليها ، مانعا لعلي ـ عليه السلام ـ عن التصرّف فيها ، والسّبب في ذلك عثمان حيث استعمل على بلاد الاسلام من يعلم فسقه بل كفره حتى حصل منه الفساد ، وهتك الاسلام والمسلمين وخراب الدنيا والدين بما قد حصل بل أقول : إنّ قتل الحسين ـ عليه السلام ـ مسببٌ عن عمر بن الخطّاب.
فقال : أقم لي الدليل على ذلك ؟ !
فقلت : الدليل واضح لانّ الحقّ لائح فإنّه لولا قصّة الشورى التي ابتدعها عمر ، وتعدّى في ابتداعها ، وأدخل عُثمان فيها ، وجعل الامر إلى عبد الرحمان بن عوف ، وأمر بقتل من يخالف الفريق الذي فيه عبد الرحمان لم يتوصّل عثمان إلى الخلافة أصلاً ولا كانت الاُمّة عدلت به عن علي ـ عليه السلام ـ لانّه لا يوازنه في الفضل ، ولا يماثله في سبق ، ولا يضاهيه في علم ، ولا يقاربه في سؤدد وشرف ، فكانت خلافته مسببة عن الشورى التّي هي بنصّ عمر ، وخلافة معاوية مسببة عن عثمان لانّه جعله واليا على الشام (71) ولولا عثمان لم يحصل لمعاوية ولاية الشام لخموله في الاسلام وكونه من الطّلقاء والمؤلّفة قلوبهم يعرف ذلك أهل السير فخلافة يزيد التي حصل بها قتل الحسين ـ عليه السلام ـ والانصار وهدم الكعبة بنصّ معاوية ومتابعة أهل الشام ، وبذله عليها الاموال فكان قتل الحسين ـ عليه السّلام ـ عن عمر وأنا أروي لك حديثاً يُعرف منه صحّة ذلك.
فقال : وما هو ؟
فقلت : إنّ عبدالله بن عمر لمّا قتل الحسين ـ عليه السلام ـ أنكر ذلك على يزيد واستعظمه ، فكتب عبدالله بن عمر إلى يزيد ـ لعنه الله ـ :
أمّا بعد فقد عظمت الرزيّة ، وجلّت المصيبة ، وحدث في الاسلام حدث عظيم ، ولا يوم كيوم الحسين ـ عليه السلام ـ (72).
فكتب إليه يزيد : أمّا بعد ، يا أحمق فإنّا جئنا إلى بيوت مجدَّدة ، وفرش ممهّدة ، ووسائد منضدة ، فقاتلنا عليها ، فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا ، وإن يكن الحقّ لغيرنا فأبوك أوّل من سنَّ هذا ، وأستأثر بالحقّ على أهله ، والسلام.
فسكت عبدالله بن عمر عن جوابه ، وأظهر للناس عذر يزيد فيما فعله.
فقال : هذا أظلم من يزيد ـ يعني عبدالله بن عمر ـ فإنّ عمر لم يأمر بذلك ولم يعلم انّ الامر يصل إلى يزيد ولو وصل إليه لم يعلم أنّه يعمل مثل هذه المناكير ، فأيّ ذنب كان لعمر لانّه لم ينصب معاوية ولا نصّ عليّه فضلاً عن يزيد ؟
فقلت : فإنّ عمر وإن لم يكن قد نصّ على معاوية فإنّه نصّ على الشورى (73) التي كانت سبب خلافة عثمان ، وعثمان كان سببا في تولية معاوية ، ومعاوية كان سببا في خلافة يزيد ، فيكون عمر سَببا في خلافة يزيد لانّ سبب السبب سبب بالضرورة.
فقال : إنّه لم يكن سببا تامّا بل جزء السبب.
فقلت : الحمد لله قد اعترفت أنّه جزء العلّة ، وجزء العلّة علّة لتوقّف التأثير عليه ، فقد صار عمر جزء العلّة التامة في قتل الحسين ـ عليه السلام ـ باعترافك ، فاعترف وسكت.
وقال : ابحث لي عن باقي الخلفاء من بني العبّاس.
____________
(48) انظر : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج3 ص40 ـ 41.
(49) شرح نهج البلاغة ج1 ص199 وج3 ص52 و54 و55 وج8 ص256 و258.
(50) شرح نهج البلاغة ج1 ص198 و335 وج3 ص29.
(51) راجع : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج10 ص286.
(52) راجع : نهج البلاغة ص48 الخطبة الثالثة ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج1 ص151.
(53) انظر : شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج1 ص151 ـ 206.
(54) نفس المصدر ج1 ص205 ـ 206.
(55) ومنها قوله في احدى قصائده :
ورأيت دين الاعتزال وانّني *** أهوى لاجلك كل مَنْ يتشيعُ
(56) سورة الاحقاف : الاية 4.
(57) سورة يونس : الاية 101.
(58) سورة الزخرف : الاية 22.
(59) سورة البقرة : الاية 166.
(60) الالفين في إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ، كتبه العلاّمة الحلي رحمه الله بالتماس ولده فخر المحقّقين ، فيه ألف دليل على إمامة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وألف دليل على إبطال شبه المخالفين ، فرغ من جزئه الاوّل سنة 709 ، ومن جزئه الثاني سنة 712 ، طبع الكتاب مرارا في إيران والعراق ، انظر الذريعة : ج2 ص298.
(61) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج18 ص24 ، وذكر ان النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال لعلي ـ عليه السلام ـ في ألف مقام : « أنا حرب لمن حاربت وسلم لمن سالمت ».
البحار : ج40 ص93 ، ينابيع المودّة : ص85 ، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص50 ح73 وح285 ، المناقب للخوارزمي في ص129 ح143.
(62) انظر : تاريخ بغداد ج11 ص289 وج13 ص187 ، كشف الغمّة ج1 ص258 ، بحار الانوار ج33 ص12 ح375 ، كنز العمّال ج11 ص722 ح33033 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج18 ص24 ، فرائد السمطين ج1 ص120 ص287 ح227.
(63) راجع : نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي ص307.
(64) راجع : النصائح الكافية لمن يتولى معاوية لمحمد عقيل ، تقوية الايمان في الرد على ابن أبي سفيان لمحمد عقيل ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ص56 ـ 59 وج11 ص44 ، الغدير للاميني ج10 ص257.
(65) انظر : شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج4 ص59.
(66) راجع : ينابيع المودة للقندوزي : ص25 ، الصواعق المحرقة لابن حجر : ص74 ط الميمنية وص121 ط المحمدية بتفاوت ، ذخائر العقبى ص66 ، المناقب للخوارزمي ص137 ح154 ، كفاية الطالب للكنجي ص83.
وروي أنه : مر ابن عباس ـ بعد ما كُفَ بصره ـ بقوم ينالون من علي ـ عليه السلام ـ ويسبونه ، فقال لقائده : أدنيني منهم ، فأدناه ، فقال : أيكم الساب الله ؟!!
قالوا : نعوذ بالله أن نسب الله ، فقال : أيكم الساب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، قالوا : سبحان الله من سبّ رسول الله فقد كفر ، فقال : أيكم الساب علي بن أبي طالب ؟ قالوا : أما هذه فنعم ، قال : أشهد لقد سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يقول : « من سبني فقد سب الله ، ومن سب عليا فقد سبني » ( وفي رواية : ( فرائد السمطين ) قال : أشهد بالله أني سمعت النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول : من سبّ عليّاً فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله عزّ وجلّ ، ومن سبّ الله أكبّه الله على منخريه في النار ) فأطرقوُا ، فلما ولىَّ قال لقائده : كيف رأيتهم ؟
فقال :
نظروا إليك بأعين مـُزْوَرَّةٍ *** نظر التيوس إلى شفار الجازر
فقال : زدني فداك أبي وأمي ، فقال :
خُزْرَ العيون مُنَكَسي أذقانهم *** نظر الذليل إلى العزيز القاهر
قال : زدني فداك أبي وأمي ، قال : ما عندي مزيد ، قال : ولكن عندي :
أحياؤهم تجني على أمواتهم *** والميتون فضيحـة للغابــر
راجع : مروج الذهب للمسعودي : ج2 ص435 ، فرائد السمطين ج1 ص302 ـ 303 ح241 ، بحار الانوار ج39 ص311 ، الغدير للاميني ج2 ص219.
(67) تقدمت تخريجاته.
(68) تاريخ الطبري : ج5 ص482 ( في حوادث سنة 63 ) ، العقد الفريد : ج5 ص136.
(69) راجع : وفأ الوفأ : ج1 ص127 ، رسائل الجاحظ ص298 ، الفصول المهمة لشرف الدين ص116 ، مروج الذهب للمسعودي : ج3 ص81.
(70) راجع : مروج الذهب للمسعودي : ج3 ص5 ، مقاتل الطالبيين لابي فرج الاصفهاني ص29 ، تاريخ اليعقوبي : ج2 ص225 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج16 ص49 ،صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين ص364 ـ 368.
(71) فقد ولّى عمر بن الخطاب معاوية على بعض الشام في خلافته ، فلما قتل عمر أقر عثمان ولاية معاوية ، راجع : تاريخ اليعقوبي : ج2 ص161 ، الكامل في التاريخ : ج3 ص77.
(72) انظر : بحار الانوار ج45 ص328 ، عوالم العلوم ج17 ص647 ح1.
(73) تقدمت تخريجاته.
فقلت له : إنّ البحث عن أُولئك الفروع لافائدة فيه ، بل البحث عن هذه الاُصول لانّ خلافة اُولئك مسبّبة عن هؤلاء ومع ذلك فإنّي أقول ما تقول في هذا الامام المدفون في أرض خراسان الذي اسمه علي بن موسى الرضا ـ عليه السلام ـ الذي أنت تزوره وتتبرّك بساحته صباحا ومساء ، وتتقرّب إلى الله بزيارته ؟
فقال : وما أقول فيه إلاّ أنّه من ذرّيّة الرسول واجبُ المحبّة والمودّة من جميع أهل الاسلام ، وأنّه من أهل الله وخاصّته وخالصته الذين صفّاهم الله واصطفاهم بالعلم والعمل والزهد والفضل والشرف.
فقلت : وما تقول في أبيه الامام موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ ؟
فقال : أقول فيه : كما قلت في ابنه.
فقلت : وما تقول في خليفة حبس الاب ودسّ إليه السّمّ حتى قتله ، وخليفة قتل الابن أيضا بالسمّ بعد الاعتراف بفضله ؟!
فقال : ومن ذاك ؟
فقلت : الخليفة الاوّل هارون الرشيد ، حبس الامام موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ في حبس السندي بن شاهك مدّة من الزمان ، وأعطاه السّمّ فدسّه إليه في الحبس حتى قتله ، وقد ثبت ذلك في الاخبار الصحيحة ، والخليفة الثاني ولده المأمون قد اشتهر عند الكلّ أنّه كان يفضّل الرضا عليه السلام وعقد له ولاية العهد بعده ثمّ أنّه بعد ذلك قتله بالسّمّ ، ثبت ذلك عند أكثر أهل العلم ولم يخالف فيه إلاّ القليل.
فقال : أُريد أن تريني ذلك في مصنّفات العلماء.
فقلت : تريد من علمائنا أو علمائكم.
فقال : اُريد من الطرفين.
فقلت : أمّا من طرقنا فكثير ، مثل : كتاب إرشاد المفيد (74) ، وكتاب عيون الاخبار لابن بابويه (75) ، وكتاب كشف الغمّة للاربلي (76) وغيرها ، وبالاتّفاق في بيت السيّد محسن كتاب (عيون الاخبار) فأوقفته على قصّة الامام موسى الكاظم ـ عليه السلام ـ مع الرشيد وما جرى عليه من الاُمور المنكرة وما قتل من بني هاشم وما خاف منهم حتى تفرّقوا في البلاد ، وما حبس منهم حتى ماتوا في الحبس والاغلال ، فأنكر عليه غاية الانكار ، وبكى لما جرى على بني هاشم واعترف بصحّة قولي.
ثمّ قلت : فأمّا طرقكم فلم يحضرني الان شيء من كتبكم.
فقال السيّد : بلى عندي هنا كتاب يسمّى كتاب العاقبة مصنّف لبعض الشافعيّة فلعلّ فيه شيء من ذلك.
فقلت : هات الكتاب ، فجاء به ففتّشناه فوجدناه مشتملاً على ذكر عواقب الاُمور ، فجرى فيه فصل يذكر فيه عواقب الخلفاء فوقفناه على ذلك الفصل فوجدناه قد اشتمل على ذكر عواقب ذميمة وأخلاق رديّة كانت لهم حتى أنّه ذكر أنّ منهم من مات مخمورا ، ومنهم من تعشّق جارية ، ومنهم من مات تحت الغناء وضرب الاوتار ، وأمثال ذلك.
فلمّا وقف المُلاّ على ذلك وتحقّق صحّته قال : اللهمّ إنّي أُشهدك أنّي أتبرّأ إليك من جملة هؤلاء الخلفاء من بني أُميّة وبني العبّاس وأُدينك بالبراءة منهم واللّعن عليهم ومن أتباعهم ، فظهر عليه الغلبَ.
ثمّ إنّا وجدنا في كتاب العاقبة حديثا يسنده إلى علي ـ عليه السلام ـ وهو أنّه قال يوما وهو جالس في نفر من أصحابه : أنا أوّل من يجلس بين يدي الله يوم القيامة للخصومة مع الثلاثة(77) ، فلمّا رأيت هذا الحديث مسندا إلى علي ـ عليه السلام ـ قلت له : إنَّ هذا الحديث حجّةٌ عليك.
فقال : إنّ صاحب الكتاب قد حمله على غير الثلاثة الذين تدّعونهم ، فإنّه قال : المراد بالثلاثة عتبة وشيبة والوليد الذين برزوا إلى حمزة وعبيدة يوم بدر.
فقلتُ : هذا الحمل بعيد لانّ الشكوى من قبلهِم بل ظاهر الحديث يقتضي أنّه يشتكي من ظلامته من الثلاثة ولا يعرف له ظلامة من ثلاثة يشتكي منهم عند الله إلاّ من الثلاثة الذين أخذوا حقّه ، واستأثروا بالامر من دونه مع أنّ الاستحقاق كان له دونهم ، وذلك لائحٌ ، ثمّ إنّي قلت : ما تقول في الحديث المروي عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وهو قوله لعلي ـ عليه السلام ـ : يا أبا الحسن ، إنّ أُمّة موسى افترقت إحدى وسبعين فرقة ؛ فرقة ناجية ، والباقون في النار ، وإنّ أُمّة عيسى ـ عليه السلام ـ افترقت اثنين وسبعين فرقة ؛ فرقة ناجية ، والباقي أهل النار ، وإنّ أُمّتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ؛ فرقة ناجية ، والباقي أهل النار (78) ؟
فقال : حديث صحيح.
فقلت : من الفرقة الناجية ، إن هي إلاّ أهل البيت الذين شهد الله لهم بالتطهير من الرجس بحكم الكتاب العزيز في قوله تعالى : ( إنّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطِهّرَكُمْ تَطْهِيرا ) (79). فإنّ هذه الاية نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ باتّفاق الكلّ لمّا ألحفهم النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ بكسائه وقال : « اللهمّ أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا » (80).
إن الله أمره في الاستعانة بهم في الدعاء في مباهلة النصارى بنصّ القرآن قال الله تعالى : ( قل تعالوا ندعُ أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) (81). ولمّا خرج النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ للمباهلة لم يخرج بأحد غيرهم باتّفاق الكلّ فعلم أنّهم المعنيّون في الاية دون غيرهم.
وقال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق (82) فأيّما الاولى بالاقتداء والاتباع ؟ هل هؤلاء وأتباعهم السالكين آثارهم ، والمقتدين بأقوالهم وأفعالهم أو الجاحدين لهم الضالّين عن طريقهم ، المقتدين لمن لم ينصّ الله تعالى على طهارته ولا حضّ على اتّباعه ولا أمر نبيّه بالاستعانة بدعائه ، بل أقول : الاحقّ بالاتّباع ، والاولى بالاقتداء مذهب الاماميّة ،ويدلّ على ذلك وجوه.
الاوّل : أنّهم أخذوا مذهبهم عن الائمّة الذين يعتقدون عصمتهم وفضلهم وعلمهم وزهدهم وشرفهم على أهل زمانهم فوافقهم الخصم على ذلك فاعترف بفضلهم وعدالتهم وعلمهم وزهدهم وشرفهم على أهل زمانهم حتى أنّهم صنّفوا في فضائلهم وتعداد مناقبهم كتبا مثل كتاب ابن طلحة (83) ، وكتاب غاية السؤول في مناقب آل الرسول لابن المغازلي ، وكتاب أبي بكر محمد بن مؤمن الشيرازي المستخرج من التفاسير الاثني عشر ، وكتاب موفّق بن محمد المكّي ، وغيرها من الكتب ، وإذا كان الخصم مُساعدا على مدح هؤلاء الائمّة الذين اعتقدوا الامامة فيهم وليس لطاعن إليه سبيل كانوا بالاتّباع أولى ممّن لا يساعد الخصم على مدح أئمّتهم بل طعن فيهم ببعض المثالب الشينة ، وظهرت عنهم الاعمال القبيحة رواها مجموع الاُمّة من يعتقد إمامتهم وغيرهم فأيّ الفريقين حينئذٍ أولى بالاقتداء وأحق بالاتّباع هؤلاء الذين اتّفق الكلّ على مدح أئمتهم وتعظيمهم أو أولئك الطاعنون في أئمّتهم المقدوح في عدالتهم من أتباعهم وغيرهم ، ومع ذلك مشاهدهم اليوم من تعظيم الناس كقبور هؤلاء الائمّة واجتماع العامّ والخاصّ عليها وزيارتهم لها وتبرّكهم بقصدها من جميع الاقطار وكونها في غاية التعظيم في قلوب جميع الخلق دليل واضح على عظم شأنهم عند الله تعالى ، وأنّهم الائمّة الذين أوجب الله حقّهم على خلقه ، وجعلهم حجّة عليهم ، انّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ نصّ على وجوب اتّباع أهل بيته وسلوك آثارهم والاقتداء بهم وحضّ الناس على ذلك في روايات كثيرة من الطرفين ، ولا حاجة في إيراد الروايات الواردة في ذلك من طرق الامامية لشهرتها عندهم.
وأمّا ما ورد من طرق الجمهور فكثير نورد بعضها من جملته في الجمع بين الصحاح الستّة عنه ـ عليه السلام ـ قال : رحم الله عليّا ، اللهمّ أدر الحقّ معه حيثما دار (84).
وروى أحمد بن موسى بن مردويه من عدّة طرق أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال : الحقّ مع علي ، وعلي مع الحقّ ، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض (85).
وفي مسند أحمد بن حنبل ، عن جابر قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : يا علي ، خلقت أنا وأنت من شجرة أنا أصلها ، وأنت فرعها ، والحسن والحسين أغصانها ، فمن تعلّق بغصن من أغصانها أدخله الله تعالى الجنّة (86).
وروى عنه سعيد قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : إنّي قد تركت فيكم ما ان تمسّكتم به لن تضلّوا ؛ كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الارض ، وعترتي أهل بيتي ، إلاّ وانّهما لا يفترقان حتى يردا علىٍّّ الحوض (87).
وفي صحيح مسلم في موضعين ، عن زيد بن أرقم قال : خطب بنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ بين مكّة والمدينة ، ثمّ قال بعد الوعظ : أيّها الناس إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول الله ربّي فأُجيبه فإنّي تارك فيكم الثقلين ؛ أولّهما كتاب الله تعالى ، والثاني أهل بيتي.
وروى جار الله العلاّمة الزمخشري بإسناده قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : فاطمة مهجة قلبي ، وابناها ثمرة فؤادي ، وبعلها نور بصري ، والائمّة من ولدها أُمناء ربّي ، حبل ممدود بينه وبين خلقه من اعتصم به نجا ، ومن تخلّف عنه هوى (88).
وروى الثعلبي (89) في تفسيره بأسانيد متعدّدة أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال : أيّها الناس قد تركت فيكم الثقلين إن أخذتم بهما لن تضلّوا ؛ كتاب الله حبل ممدود بين السماء والارض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض.
وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي : إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأُجيب ، وأنا تارك فيكم الثقلين ؛ كتاب الله فيه الهدى والنّور ، وأهل بيتي أمان لاهل الارض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الارض.
وكذلك في رواية موفق بن أحمد المكّي وفي صحيح البخاري في موضعين بطريقين عن جابر ، وعن عيينة قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : ما يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش.
وفي رواية أُخرى : لا يزال الاسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش.
وفي صحيح مسلم (90) : لا يزال الدين قائما حتى تقوم السّاعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش.
وفي صحيح أبي داود ، والجمع بين الصحيحين ، وتفسير الترمذي ، قال : لمّا كرهت سارة مكان هاجر أمر الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ فقال : انطلق بإسماعيل وأُمّه حتى تنزله البيت التهامي ـ يعني مكة ـ فإنّي ناشر ذرّيّته وجاعلهم ثقلاً على من كفر بي ، وجاعل منهم نبيّا عظيما ومظهره على الاديان وجاعل من ذرّيته اثني عشر إماما عظيما.
وعن مسروق ، قال : سألت عبدالله بن مسعود ، فقلت له : كم عهد إليكم نبيّكم يكون بعده خليفةً ؟
فقال : إنّك لحدث السّنّ وهذا شيء ما سألني عنه أحد ، نعم عهد إلينا نبيّنا يكون بعده اثنا عشر خليفةً عدد نقباء بني إسرائيل ، والرّوايات في هذا المعنى كثيرة من طرق الجمهور لو أردنا الاستقصاء لطال علينا الامر واتّسع ، وقد دلّت هذه الاحاديث على الحثّ والامر بالاقتداء بأهل البيت ، ووجوب اتّباعهم ، والتمسّك بطريقهم ، فإنّهم اثنا عشر خليفة من ذرّيّة الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ولا قائل بالحصر في الاثني عشر سوى الامامية القائلين بإمامة هؤلاء المشهورين بالفضل والعلم والزهد عند أهل الاسلام فوجب الاقتداء بهم والانحياز إلى فريقهم ، وظهر أنَّ مذهب القائل بإمامتهم واجب الاتّباع.
إنّ أحسن الاعتقادات ، وخير المقالات ما اشتمل عليه مذهب الامامية أُصولاً وفروعا ، يعرف ذلك من اطّلع على أُصول المذاهب ، ونظر في فروع الاعتقادات ، فإنّه بعد النظر الخالي عن مخالطة الشُبَه والتقليد يتحقّق أنّ مذهب الامامية من بينهم أولى بالاتّباع ، وأحقّ بالاقتداء وقد صدق فيهم قوله تعالى : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْل فَيتّبعونَ أحْسَنَهُ ) (91) ، فإنّ في أُصولهم من تنزيه الله تعالى وتعظيمه وتنزيه الانبياء والائمّة وتعظيمهم ما لا يكون في أُصول غيرهم فإنّهم نزّهوا الله عن التشبيه ، والرؤية ، والاتّحاد ، والحلول ، والمعاني القديمة ، وخلق أفعال العباد ، والرضى بالكفر والفسوق ، ونسبة القبائح والسرقة إليه وكون أفعاله لا لغرض وأنّه كلّف ما لا يطاق.
واعتقدوا في الانبياء أنّهم معصومون عن الخطأ والمعاصي ، الصّغائر والكبائر ، والنسيان والسّهو ، من أوّل أعمارهم إلى آخرها ، وأنّ أئمّتهم أيضا معصومون عن الخطايا والمعاصي ، وأنّهم أعلم الخلق بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وأفضلهم ، وأكرمهم نفسا ، وأشرفهم نسبا (92).
وفي مذاهب السنّة ما يخالف ذلك وينافيه فجوّزوا التشبيه (93) والجهة (94) والاتّحاد (95) والحلول (96) والتجسيم (97) والرؤية (98) ، والمعاني الزائدة القديمة ، وقالوا : إنّه لا فاعل في الوجود إلاّ الله ، وإنّ جميع المعاصي والقبائح والشرور كلّها بخلق الله وإرادته (99) وإنّ العباد مجبورون (100) وأنّه راض بالكفر والمعاصي وان أفعاله لا لغرض ، وانّ القبائح بخلقه وانّه كلّف عباده فوق ما يطيقون ، وانّ الانبياء يجوز عليهم الكفر والمعاصي والخطأ والنّسيان (101) ورووا في نبيّهم روايات تقتضي الدناءة والخسّة ورووا أنّه نسي فصلّى الظهر ركعتين ولم يذكر حتى ذكَّره بعض أصحابه (102) ، وأنّه دخل المحراب للصلاة بالناس جنبا ، وأنّه يستمع إلى اللعب بالدفوف وغناء البغات (103) ، وأنّه بال قائما (104)… ، وغير ذلك من الاشياء القبيحة التي لا تليق بأدنى الناس.
وقالوا : إنّ الخلفاء الذين تجب طاعتهم جائزوا الخطأ والمعاصي والكبائر ، وأنّهم غير عالمين بما تحتاج إليه الاُمّة ، بل لهم الرجوع إلى الاُمّة والاحتياج في الفتاوى والاحكام إليهم ، وأنّهم لا يحتاج إلى أن يكونوا أفضل الخلق ، ولا أشرفهم نسبا ، ولا أعلاهم محلاًّ في الاسلام.
وأمّا الفروع فإنّ الاماميّة لم يأخذوا بالقياس ، ولا بالرأي ، ولا بالاستحسان ، ولا اضطربوا في الفتاوى ، ولا اختلفوا في المسائل ، ولا كفّر بعضهم بعضا ، ولا حرّم بعضهم الاقتداء بالاخر ، لانّهم أخذوا فتاواهم وأحكامهم عن أئمّتهم الذين هم ذرّية الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ الذين يعتقدون عصمتهم ، وأنّهم أخذوا علومهم واحدا عن واحد ، وكابراً عن كابر ، وآخر عن أوّل إلى جدّهم ، فكانت فروعهم أوثق الفروع ، وشرعهم أحسن الشرائع ، ودينهم أتمّ الاديان فإنّ غيرهم أخذوا بالقياس والاستحسان والرأي ، وأسندوا رواياتهم عن الفسقة والمتعمّدين للكذب ، وافترقوا أربع فرق ، كلّ فرقة تطعن على الاخرى ، وتتبرّأ منها (105) ، ويكفّرون بعضهم بعضا ، ويحلّلون ويحرّمون عمّن هو جائز الخطأ والمعاصي والكبائر.
وانقطعت عنهم مواد الاخذ عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لانّهم لم يرضوا بالاتباع لاهل بيته ووضعوا الشرع على مقتضى رأيهم وزادوا فيه ونقصوا وحرّفوا وغيّروا ، فأحلّوا ما حرّم الله ، وحرّموا ما أحلّ الله لانّهم لم يأخذوا الحلال والحرام عن من لا يجوز عندهم كذبه وخطاؤه كالامامية فكان حينئذٍ حلالهم وحرامهم وفرائضهم وأحكام شرعهم معرَّضة للخطأ والكذب لانّها ليست عن الله تعالى ، ولا عن رسوله ، يعرف ذلك من اطّلع على أُصولهم وفروعهم ، فإنّا نجد في فتاويهم الاشياء المنكرة التي تخالف المعقول والمنقول ومن له أدنى إنصاف واطّلاع بأحوال المذاهب يعرف ذلك ويتحقّقه ، ومصنّفات الفريقين تدلّ على صحّة ذلك ، وإذا نظر العاقل المنصف في المقالتين ، ولمح المذهبين عرَف موقع مذهب الامامية في الاسلام وأنّهم أولى بالاتّباع ، وأحقّ بالاقتداء لانّهم الفرقة الناجية بنصّ الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ.
وقد روى أبو بكر محمد بن موسى الشيرازي في كتابه المستخرج من التفاسير الاثني عشر في إتمام الحديث المتقدم بعدما قال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : ستفترق أمتّي بعدي على ثلاث وسبعين فرقة ؛ فرقة ناجية ، والباقون في النّار (106).
قال علي ـ عليه السلام ـ : يا رسول الله مَن الفرقة الناجية ؟ قال : المتمسّكون بما أنت عليه وأصحابك.
وفي الاحاديث المذكورة آنفا ما يدلّ على أنّ المتّبعين لاهل البيت ـ عليهم السلام ـ ، والمقتدين بهم هم الفرقة الناجية بحثّ الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على الاقتداء بهم ، والتمسّك بما هم عليه ، وإيجاب ذلك على جميع الخلق بروايات الكلّ فعلمنا علما ضروريّا أنّ أهل البيت هم الفرقة الناجية ، فكلّ من اقتدى بهم ، وسلك آثارهم فقد نجا ، ومن تخلّف عنهم وزاغ عن طريقهم فقد هوى ، ويدلّ عليه الحديث المشهور المتّفق على نقله : مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وهذا حديث نقله الفريقان وصححه القبيلان لا يمكن لطاعن أن يطعن فيه وأمثاله في الاحاديث كثيرة.
فقال المُلاّ الهروي : ما ذكرته في وجوه هذه الدلالات على أنّ مذهب الامامية واجب الاتّباع ، وأنّهم هم الفرقة الناجية يكثر على السامع بروايات الاحاد ، وأيضا فإنّ أهل السنّة يقولون في مذهبهم من المدائح مثل ما ذكرت وأكثر ما يذمّون مذاهب غيرهم بأقبح الذّمائم وقد قال تعالى : ( كُلُّ حِزْبٍ بمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (107).
وقال الشاعر :
كُلٌ بما عندهُ مُستبشر فرح *** يرى السَّعادة فيما قال واعتقدا
وفي المثل : الكل في ريقه في فيه حلق ، ولكن الذي ينبغي لذوي العقول والعلم والانصاف في المجادلة قلّة الانشغال في المدح والذّمّ فإنّه باب واسعٌ يطول فيه المجال ، ويكثر فيه من الطرفين التعداد والمقال.
فقلت : أنت محقّ في ذلك ، وقد قلت الانصاف ، ولكن ما تقول في هذه الاحاديث المرويّة في كتبكم التي تشتمل على حصر الخلفاء في اثني عشر من قريش أليس هي دالّة على صحّة مذهب الاماميّة لانّهم قائلون بتخصيصها في اثنّي عشر من ذرّيّة الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ دون غيرهم من الفرق ؟
فقال : هذه الاحاديث معارضةٌ بأمثالها والذنب فيها على الرواة.
فقلت : إنّ الروايات إذا وردت من الطرفين ، وتظافرت من رجال الفريقين ، وساعد على إيرادها الخصمان صارت متواترة عند الاُمّة فيجب المصير إليه والترك لما ورد من الطرف الواحد وهذه الاحاديث المعارضة لهذه الاخبار المرويّة من الطرفين لم تروِها الكلّ ولم يتّفق على نقلها الفريقان ، بل ردّها الخصم وأنكرها ، فكان حينئذٍ الاولى في الترجيح الواجب على السامع العمل بما اتّفق على نقله ، وطرح ما اختلف فيه من المعارضة لانّه الاحتياط التامّ ، والاخذ بالحزم من الرأي.
ثمّ قلت : ومع هذا فهنا برهانٌ واضحٌ ، ودليل لائح موجود الان مُشاهدٌ بالابصار ، وقد شاع في جميع الامصار.
فقال : وما هو ؟
فقلت : هذا مشهد الحسين ـ عليه السلام ـ يزوره الزّوّار من كُلّ البلاد في ميقات ، وله في كلّ سنة ميقاتٌ ، هو أوّل ليلة من شهر رجب يجتمع عنده عالم كثير من الامامية وأهل السنّة وغيرهم بعُمِيٍ وصُمٍّ ويأتون أهل السنّة يرونهم مقعدين ويضعونهم على ساحته ـ عليه السلام ـ تلك الليلة فكلّ من خرج من أُولئك العُمِي والصُمّ والمقعدين من دين السنّة ، وتبرّأ منهم ، ونظّف قلبه ، وخلّص اعتقاده بريء من علّته ، وصار بصيرا ماشيا بعد العمى والاقعاد ، ومن بقي على حالته فلم يبرأ ممّا به ، فما تقول في هذه المعجزة ؟
فهل عندك في هذا طعن ، أو لك إلى القدح فيه سبيل ؟ وهل ذلك دالّ على أنّ مذهب أهل السنّة على الخطأ والباطل وأنّه يجب على كلّ مكلّف الخروج منه والدخول في مذهب الامامية ، وهذا دليل واضح وبرهان لائح مشُاهَد بالابصار ، لا يمكن لاحد ردّه ، ولا الطعن فيه.
فقال : ومن شاهد هذا ، ومن عرف صحّته ؟
فقال السيّد محسن : إنّ هذا ثابت بالتواتر من الاُمّة إنّ ذلك يقع عند الحسين ـ عليه السلام ـ في كلّ عام ، لا ينكره إلاّ مكابرٌ ولو شئت لاسمعتك هذه المعجزة ممّن شاهدها ورآها أربعون رجلاً وخمسون ، وأكثر من أهل الصّلاح والدين.
فقال : إنْ صحّ ما ذكرتم فهو حجّة قاطعة ، ودليل ظاهر ، ولمّا وصلت المجادلة إلى هذا الحدّ أذّنَ المؤذّن للصلاة ، فقمنا لصلاة الجمعة ، وتفرّق المجلس ولم ألقه بعد ذلك ، وقد حكى لي السيّد محسن أنّه لقيه بعد مفارقته لنا بأيّام وسأله عن حاله فظهر له منه أنّه بقي متردّدا لا مذهب له ، وأنّه قال : أُريد أمضي إلى الحسين ـ عليه السلام ـ لانظر ما حكيتموه من المقعد والاعمى إذا خرجا من مذهب أهلالسنّة ودخلا فيمذهب الامامية.
وبعد ذلك لانعرف ما صار إليه أمره ، وهذا ما كان بيني وبينه من المجادلة في المجالس الثلاثة التي ذكرت ، ومن المجادلة على الاستقصأ.
والحمد لله على ظهور الحقّ ، وزهوق الباطل ، إنّ الباطل كان زهوقا ، ونستغفر الله عن الزيادة والنقصان فإنّه هو الغفور الرحيم المستعان.
تمت الرسالة يوم الثلاثاء حادي عشر من شهر جمادى الاخرة من سنين خمس وتسعين وتسعمائة من الهجرة النبويّة حرّره الفقير الحقير المذنب الجاني ، المحتاج إلى رحمة الله صالح بن محمد بن عبد الاله السلامي في بلدة إصفهان ، رحم الله من دعا لمالكـهـا ولكاتبها بالغفران آمين ربّ العالمين ، والحمد لله ربّ العالمين (108).
____________
(74) إرشاد المفيد : ص298 ـ 302 وص315.
(75) عيون أخبار الرضا ـ عليه السلام ـ : ج2 ص237 ـ 241.
(76) كشف الغمّة : ج2 ص230 ـ 235 وص280 ـ 283.
(77) انظر : ترجمة امير المؤمنين من تاريخ ابن عساكر : ج3 ص224 ح1227 ، وفيه : أنا أوّل من يجثو ، وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج6 ص170 : أنا أولُ من يجثو للحكومة بين يدي الله تعالى.
(78) انظر إحقاق الحقّ : ج7 ص185 ، نفحات اللاهوت : ص114 ـ 115 ، مسند أحمد ج2 ص332 ، سنن ابن ماجة ج2 ص1332 ح3992 ، المعجم الكبير للطبراني ج18 ص51 ح91 ، المناقب للخوارزمي ص331 ، مجمع الزوائد ج7 ص323 ، كنز العمال ج1 ح1637 ، الخصال ص585 ح11 ، أمالي الطوسي ج2 ص137 ، الاحتجاج ص263.
(79) سورة الاحزاب : الاية 33.
(80) تقدمت تخريجاته.
(81) سورة آل عمران : الاية 61 ، فقد اجمع الجمهور ان الاية الشريفة نزلت في النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وعلي وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ حين باهل بهم نصارى نجران.
راجع : شواهد التنزيل للحاكم الحنفي ج1 ص120 ـ 129 ح168 ، المستدرك للحاكم ج3 ص150 ، اسباب النزول للنيسابوري ص67 ، صحيح مسلم ج4 ص1883 ح61 ، صحيح الترمذي ج4 ص293 ح3085 وج5 ص301 ح3808 ، مسند أحمد ابن حنبل ج3 ص97 ح1608 ، تفسير الطبري ج3 ص299 ، الكشاف للزمخشري ج1 ص368 ، تفسير ابن كثير ج1 ص370 ، تفسير القرطبي ج4 ص104 ، أحكام القرآن للجصاص ج2 ص295 ـ 296 ، تفسير الفخر الرازي ج8 ص85 ، جامع الاصول لابن الاثير ج9 ص470 ، ذخائر العقبى ص25 ، شرح النهج لابن ابي الحديد ج16 ص291 ، احقاق الحق للتستري ج3 ص46 ـ 62 وج9 ص70 ـ 91 وج14 ص131 ـ 148 ، فضائل الخمسة ج1 ص244.
(82) تقدمت تخريجاته.
(83) هو أبو سالم كمال الدين محمد بن طلحة بن محمد بن الحسن القرشي العدوي النصيبي الشافعي ، المفتي الرحّال ، ولد سنة 582 هـ بالعمرية من قرى نصيبين وتوفّي في 17 رجب سنة 652 هـ ، وكتابه هو « مطالب السؤول في مناقب آل الرسول » ألّفه بعد أن فقد كتابه « زبدة المقال فـي أحـوال الال » الـذي ضمّنه غرائب الفنون ، راجع : مقدمة مطالب السؤول ـ ط النجف ـ.
(84) تقدمت تخريجاته ، وبالاضافة الى ما هناك تجده في البداية والنهاية ج7 ص360 ، العلل المتناهية ج1 ص325 ح410.
(85) انظر : تاريخ بغداد : ج14 ص321 ، إحقاق الحقّ : ج5 ص623 ، الامامة والسياسة لابن قتيبة ج1 ص73.
(86) انظر : ميزان الاعتدال : ج3 ص41 ، العلل المتناهية : ج1 ص259 ح419 ، إحقاق الحقّ : ج7 ص183 ، فرائد السمطين ج1 ص51 ح16.
(87) انظر : سنن الترمذي : ج5 ص622 ح3788 ، نفحات اللاهوت : ص86 ، وقد تقدمت تخريجاته.
(88) انظر : إحقاق الحقّ : ج13 ص77 و 79.
(89) انظر : ينابيع المودّة : ص32.
(90) انظر : صحيح مسلم : ج3 ص1453 ح10 ، عوالم العلوم :ج3|15 ص149 ح96 ، وقد تقدمت تخريجات هذه الاحاديث.
(91) سورة الزُمر : الاية 18.
(92) راجع : كتب العقائد للامامية ، على سبيل المثال :
نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي ، تجريد الاعتقاد للشيخ الطوسي ، تنزيه الانبياء للشريف المرتضى ، الشافي في الامامة للشريف المرتضى وغيرها.
(93) واصحاب هذا الرأي يُسمَون بالمشبهه راجع : معجم الفرق الاسلامية : ص225 ، الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص95.
(94) الملل والنحل للشهرستاني : ج1 ص99.
(95) راجع : شرح التجريد للعلامة الحلي ص318 ( في نفي الاتحاد عنه تعالى ) وقال ـ اعلى الله مقامه ـ في نهج الحق وكشف الصدق ص57 : الضرورة قاضية ببطلان الاتحاد ، فإنه لا يُعقَل صيرورةُ الشيئين شيئاً واحداً ، وخالف في ذلك جماعة من الصوفية من الجمهور ، فحكموا بأنه تعالى يتّحد مع أبدان العارفين ، حتى أن بعضهم قال : إنه تعالى نفسُ الوجود ، وكلّ موجود هو الله تعالى ، وهذا عين الكفر والالِحاد.
(96) مقالات الاسلاميين للاشعري : ص214 وجاء فيه : واجاز عليه بعضهم الحلول في الاجسام ، واصحاب الحلول اذا رأوا انساناً يستحسنونه ، لم يدروا لعل الههم فيه !! ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج3 ص232 ، معجم الفرق الاسلامية ص102.
(97) مقالات الاسلاميين : ص207 ـ 209 ، معجم الفرق الاسلامية : ص213 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج3 ص229.
(98) مقالات الاسلاميين : ص213 ـ 217 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي البلاغة ج3 ص236.
(99) مقالات الاسلاميين : ص245.
(100) وهم الجبريه راجع: الملل والنحل للشهرستاني: ج1 ص79 ، معجم الفرق الاسلامية: ص81.
(101) انظر : مقالات الاسلاميين : ص151 وص226 ـ 227 ، معجم الفرق الاسلامية ص99 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج7 ص11 و12 و19.
(102) انظر : مسند أحمد : ج2 ص386 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج7 ص19.
(103) انظر : الموضوعات لابن الجوزي : ج3 ص115.
(104) انظر : سنن النسائي : ج1 ص25.
(105) راجع مقالات الاسلاميين للاشعري : ص3 ـ 4.
(106) انظر : إحقاق الحقّ ج7 ص185 ، وقد تقدم المزيد من تخريجاته.
(107) سورة الروم : الاية 32.
(108) حصلنا على مخطوطة هذه المناظرة من مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي ( قدس سره ) ، ضمن المجموعة رقم : 6896 ، وذكرت في فهرس المكتبة ( المطبوع ) ج18 ص89 ، ونص عليها أيضا أغا بزرك الطهراني في الذريعة : ج22 ص285 تحت رقم : 7124.
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً