المحطة الثانية : في الكوفة والشام | مختار الأسدي
يلتفت ابن زياد لزينب وهي جالسة حزينة منكسرة وقد صدّت بوجهها عنه فيقول : « من هذه الجالسة ؟ » فلا تكلّمه ، ويكرّر فلا تكلّمه ، فيعيد ثالثة وهي مصرّة لا تكلّمه ، حتى يقول بعض إمائها : « هذه زينب بنت فاطمة ».
فقال لها ابن زياد : « الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم ، وأكذب أُحدوثتكم ».
فتقول عليها السلام : « الحمدُ لله الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وطهّرنا تطهيراً ، لا كما تقول [ أنت ] ، وإنّما يُفتضح الفاسق ، ويكذّب الفاجر ، وهو غيرنا يا ابن مرجانة .. ».
فقال : « فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتكِ ؟ » ، قالت : « قوم كُتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتختصمون عنده .. » ، فغضب بن زياد ـ واستشاط ـ وقال : « قد شفى الله غيظي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك » ، فبكت وقالت : « لعمري لقد قتلت كهلي ، وأبرتَ أهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن يُشفك هذا فقد اشتفيتَ … » (١).
ثمّ يلتفت ابن زياد إلى عليّ بن الحسين ويقول : « ما اسمك ؟ » قال : « علي بن الحسين » قال : « ألم يقتل الله علي بن الحسين ؟ » فسكت ، فقال : « مالك لا تتكلم ؟ » قال : « كان لي أخ يُقال له علي قتله الناس » !!
فقال ابن زياد : « إنّ الله قتله » فسكت الإمام عليه السلام.
قال : « مالك لا تتكلم ؟ » فقال الإمام علي بن الحسين عليه السلام : « الله يتوفى الأنفس حين موتها .. وما كان لنفسٍ أن تموت إلاّ بإذن الله … ».
ثم غضب ابن زياد فأراد قتله على جرأته وتجاسره على الطاغية بتلك الأجوبة ، فتشبّثت به عمّته زينب وتعلّقت به ، وقالت لابن زياد : « يا ابن زياد ، حسبُك منّا ما أخذت ، أما رويتَ من دمائنا ؟ وهل أبقيت مِنّا أحداً ؟ أسألك الله ـ إن كنت مؤمناً ـ إن قتلته لمّا تقتلني معه .. ».
وقال الإمام عليه السلام لابن زياد : « يا ابن زياد ، إن كانت بينك وبينهنّ قرابة فابعث معهنّ رجلاً تقيّاً يصحبهنّ بصحبة الإسلام … » (2).
أمّا في الشام وحيث الدور الإعلامي أكثر تأثيراً من قعقعة السيوف وطعن الرماح مع ما يستبطن من فضح وكشف واحتمال تصفية وقتل ، يقف الإمام السجاد عليه السلام في مجلس يزيد ويلتمس الإذن بالحديث فيُسمح له ، فينبري بعد أن يحمد الله ويثني عليه مسفّهاً الدعاوى الأموية التي حاولت تشويه نهضة أبيه ، وتزييف أهداف ثورته ، قائلاً :
« يا معشر الناس : فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أُعرّفه نفسي ، أنا ابن مكّة ومِنى ، أنا ابن مروة والصفا ، أنا ابن محمد المصطفى … أنا ابن من علا فاستعلى ، فجاز سدرة المنتهى ، وكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء مثنى مثنى ، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن خديجة الكبرى ، أنا ابن المقتول ظلماً ، أنا ابن المجزور الرأس من القفا ، أنا ابن العطشان حتى قضى ، أنا ابن صريع كربلاء ، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء ، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء ، أنا ابن من ناحت عليه الجنّ في الاَرض والطير في الهواء ، أنا ابن من رأسه على السنان يُهدى ، أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تُسبى .. أيُّها الناس إنّ الله تعالى ـ وله الحمد ـ ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن ، حيث جعل راية الهدى والتُقى فينا ، وجعل راية الضلالة والردى في غيرنا … » (3).
وهكذا حتى عمّ المجلس النحيب والبكاء ـ كما تقول الروايات التأريخية ـ فكشف ما لم يكشف وفضح ما تمّ التكتّم عليه أو يُراد له ذلك ، فذكّر الناس أولاً بنسبه الشريف واتصاله بالإسلام ونبي الإسلام ، وأشار إلى العديد من الحوادث التأريخية والجنايات التي ارتكبها جيش الاُمويين باسم الاِسلام وتجاوزت حدود الدين وتعاليمه المعروفة ، كالتمثيل بالقتلى مثلاً : « أنا ابن المجزور الرأس من القفا » ، والوحشية في التعامل مع الخصم : « أنا ابن العطشان حتى قضى » والتطاول على حرمة بيت النبوة ، وبنات المصطفى والمرتضى اللواتي « من العراق إلى الشام تُسبى » … وأكثر من كل ذلك وبصريح القول والعبارة : « أنا ابن المقتول ظُلماً » …
وهكذا ممّا أدى إلى بكاء ونحيب الحاضرين وإشعارهم بالإثم والذنب الكبيرين اللذين ارتُكبا بحقِّ الإسلام ووريثه ، وكيف إن الإسلام الذي يزعمه الامويون اليوم مجسّداً برمزه الماثل أمامهم أصبح أسيراً يُساق مع عمّاته وخالاته من بلد إلى بلد ، ورأس ابن الزهراء أبيه أمامهنّ « على السنان يُهدى » …
إنّه ، باختصار شديد ، وبهذه الخطبة الموجزة أصبح الرمز الذي يقود مسيرة الإحياء ـ إحياء هذا الدين المضيّع ـ الذي شوّهته السلطة الاَموية وحكمت أو تحكّمت باسمه … فتراه عليه السلام حين أراد يزيد أن يقطع حديثه بالآذان للصلاة ، يُعلِّق على صوت المؤذن الذي يقول : « أشهد أن محمداً رسول الله » بقوله : « يا يزيد ! هذا جدي أم جدّك ؟ فإن قلت جدك فقد كذبت ! وإن قلت جدي ، فلمَ قتلتَ أبي وسبيت حرمه وسبيتني ؟! » ، ثمّ قال مخاطباً الناس :« أيُّها الناس ، هل فيكم من أبوه وجده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ » فعلت الأصوات بالبكاء.
وقام إليه رجل من شيعته يُقال له : المنهال بن عمرو الطائي ، وفي رواية مكحول صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسأله : « كيف أمسيتَ يا ابن رسول الله ؟ ».
فيستثمر الإمام السجاد عليه السلام هذا السؤال فيروح مندّداً بالعصابة التي حرّفت دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويضع أُولى العناوين العريضة في هذه المسيرة التبليغية الاِعلامية التي قادت وتقود مسيرة الإحياء العظيمة هذه ، برائدها الوحيد الحيّ الباقي ، مؤكداً على الفرعونية الجديدة التي تتحكّم باسم الدين مستنهضاً همم الرجال ، مقرّعاً ضمائرهم ، مناشداً غيرتهم على دين عظيم ضيّعوه بالتواطؤ مع هذه العصابة الضالة المضلّة ، فيجيب سائله بقولٍ موجز بليغ : « ويحك كيف أمسيت ؟ أمسينا فيكم كهيئة بني إسرائيل في آل فرعون ، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، وأمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمداً منها ، وأمسى آل محمد مقهورين مخذولين ، فإلى الله نشكو كثرة عدّونا ، وتفرّق ذات بيننا ، وتظاهر الاَعداء علينا … » (4).
وهكذا تبرز وثائقية هذا الطرح الاِعلامي البليغ ، ويتجلّى دور الإمام السجاد عليه السلام في قيادة مشروع الإحياء وثورة التصحيح ، ومن هذه المحطة تبدأ رحلة الألف ميل مسافة وعمقاً من الشام إلى المدينة ، ليستأنف الإمام عليه السلام مهمته الرسالية في استكمال هذا المشروع وريادة هذه الثورة.
———————————————-
1. جميع هذه النصوص وردت في كتاب « الكامل في التاريخ ، ابن الاثير ٣ : ٤٥ » وفيها إضافة خلاصتها : « فقال لها ـ ابن زياد ـ هذه شجاعة لعمري لقد كان أبوك شجاعاً. فقالت ما للمرأة والشجاعة .. ». وجاءت كلمة ( سجّاعة ) بدل كلمة ( شجاعة ) ، وكلمة ( سجّاعاً ) بدل كلمة ( شجاعاً ) في مصنفات الشيخ المفيد البغدادي ١١ : ١٦ طبعة المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد.
2. الكامل في التاريخ ٣ : ٤٣٥.
3. مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب المازندراني ٤ : ١٨٢.
شبكة رافد
مقتبس من كتاب الامام علي بن الحسين عليهما السلام دراسة تحليلية
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً