المجتمع الذي يريده صاحب الزمان عليه السلام
قال الله تعالى:
( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) [القصص:5]
القرآن يخبر عن قضية المهدية:
تمثل قضية المهدي منعطفاً تاريخياً في حياة البشرية، وأهميتها تكمن في أنها تحقق العدل الكوني في هذا الوجود. وقضيةٌ كهذه، لها أهمية بالمستوى العالي، لا نحتمل أن القرآن الكريم تغافل عن ذكرها في معرض آياته، ولعل أبرز شاهد على ذلك قوله تعالى: ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).
ففي هذه الآية عرضٌ موجز لقضية المهدي ، وأهم الجوانب المرتبطة بها، والتي منها:
الجانب الأول: حتمية قضية المهدي:
إن الظهور المبارك للمخلص العالمي حتمي الوقوع، ومعنى حتميته أنه لابد من حصول اليوم الذي تنتظر فيه البشرية خلاصها، على يد مفرج كرب المؤمنين الإمام المهدي ( ع ) ويتضح هذا المعنى في الآية جليلاً عند قوله تعالى: ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ ) لأن الإرادة هنا إرادة حتمية، بدليل أن الله في معرض المنّ و التكرم على عباده المستضعفين، وهو منه وعدٌ، يقطعه على نفسه و ( انَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) [آل عمران:9] .
ويدل على حتمية وقوعه إخبار النبي الوارد من الفريقين؛ ومن مصادر العامة ما رواه:
1- أبو داود في سننه : ( لولم يبق من الدهر إلا يوم؛ لبعث الله رجلاً من أهل بيتي، يملأها عدلاً كما مُلئت جوراً ) [سنن أبي داودج2:310]
2- أحمد في مسنده: ( لا تقوم الساعة، حتى يلي رجل من أهل بيتي، يُواطئ اسمه اسمي ) [مسند احمد 1: 376]
3- منتخب الأثر: ( القائم من ولدي اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، وشمائله شمائلي، وسنته سنتي، يقيم الناس على ملتي وشريعتي، ويدعوهم إلى كتاب ربي عز وجل، من أطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني، ومن أنكره في غيبته فقد أنكرني، ومن كذبه فقد كذبني، ومن صدقه فقد صدقني، إلى الله أشكو المكذبين لي في أمره، والجاحدين لقولي في شأنه، والمظلين لأمتي عن طريقته ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) [الشعراء: 227] [منتخب الأثر:491]
4- روى ابن حجر: ( يحل بأمتي في آخر الزمان بلاءٌ شديد من سلاطينهم، لم يُسمع بلاءٌ أشد منه، حتى لا يجد الرجل ملجأً، فيبعث الله رجلاً من عترتي أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يحبه ساكن الأرض وساكن السماء، وترسل السماء قطرها وتخرج الأرض نباتها، لا تمسك فيها شيئاً سبع سنين أو ثمانياً أو تسعاً، يتمنى الأحياء الأموات، مما صنع الله بأهل الأرض من خيره )
وما ورد في المصادر الإسلامية، أكثر من أن يحصى في هذه العجالة فلنكتفي بما ذكرناه.
الجانب الثاني: المهدي يمثل المصداق الأبرز للاستضعاف على وجه الأرض
إن الإرادة الحتمية التي جاءت لتبشر بالفرج الأعظم، تعني شريحة معينة من المجتمع الإنساني، فهي وأن كانت تتضمن فرجاً شاملاً وعدلاً عاماً، إلا أن الآية تخبر أن ذلك التفضل و التكريم من الله، على أمة من الأمم الإنسانية وليس على البشرية كافة، وهذه الأمة التي ذكرها الله تبارك وتعالى هم ( الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) ولا يعني انطباق مفهوم الاستضعاف على كثيرين أن كل هؤلاء معنيين بالآية، بل السياق يضيق الدائرة ويحصرها في شخصية المنتظر المؤمل، لأن سلطنته الظاهرية قد سُلبت منه، وحقه الذي منحه الله له غُصب، كما أن شيعته المحروم من الاتصال بهم عاشوا أشد ألوان الاضطهاد والظلم من طواغيت الدهر.
وكما يمثل الحجة ابن الحسن أبرز مصاديق الاستضعاف على وجه الأرض، فإن أبائه وأجداده يمثلون تلك المرتبة من الاستضعاف؛ ولذا روي عن نبي الرحمة(ص) ( أنتم لمستضعفون بعدي ) [معاني الأخبار – الصدوق] مشيراً إلى أمير المؤمنين والذرية الطاهرة (ع ) .
الجانب الثالث: المنح الإلهية للمستضعفين في الدولة المهدية
التعبير ب ( نَّمُنَّ ) معناه أننا نريد أن نمنح الهبات والنعم لتلك الفئة المستضعفة، وقد ذكرت هذه الآية جملة من تلك المنح:
1- ( نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ) إن التاريخ الذي عاشه أهل البيت عليهم السلام، لم يكتب لهم أن يمارسوا دورهم القيادي على المستوى العالمي، بل مروا بمراحل جعلتهم يخفون هويتهم ودورهم القيادي، لكن الله أدخر لهم يوم بشرهم فيه، أنه سيظهرهم أمام العالم قادة للخلق وسادة عليهم.
2- ( وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) وقبال حرمانهم دورهم القيادي وغيره، سلبت منهم حقوقهم التي وهبها الله لهم، فقد كانت الأرض بيد طواغيت العالم يديرونها ويتقاسمونها كيف شاؤا، إلا أن هذا الأمر مؤقت زماناً؛ لأن الله أل على نفسه أن ينصر المحرومين ويعين المستضعفين، فكتب أن الأرض مورثتهم، وكنوزها وما تخفيه بيدهم.
الارتباط بالإمام وبقضيته
تقارن قضية المهدي قضية مهمة مرتبطة بها، وهي مسألة الانتظار وعدم استعجال ظهوره؛ لأن مضمون الانتظار هو الاعتقاد بأن خروج الإمام المهدي مرهون بالوقت الذي نستشعر فيه حاجتنا الماسة له، والاستعجال بظهوره يجر إلى عواقبٍ غير حميده؛ كما حصل لأهالي البحرين، فإن الإمام أراد أن يبين لهم، أن هذا الوقت ليس وقت خروجه، عندما ذبح الشياه، إلا أنهم اساؤا الظن بالإمام واعترضوا عليه، وادعوا أنه قتل خيارهم … والسبب الذي جعلهم يعترضون على الإمام ضعف ارتباطهم به وعدم قوة إيمانهم بحيثيات قضيته.
كيف ينبغي أن يكون ارتباطنا بالإمام:
لابد أن يكون ارتباطنا بالإمام المعصوم ارتباطاً متيناً وقوياً؛ بحيث لو أن الإمام قتل جميع الخلق، فإنه لا يجوز لنا أن نعترض عليه، وينبغي أن نأخذ من قضية أهالي البحرين الدروس والعبر، فيلاحظ كل منا فيما تحبه نفسه وما تهواه، فقد شاهدنا بأنفسنا من يشتري بيوتاً مغصوبة وموقوفة في بعض البلدان؛ وكنا نستنكر عليهم ذلك فلا نجد ما يردعهم، وما ذلك إلا لضعف الإيمان الذي يكون سبباً في ضعف الارتباط بالشريعة.
فماذا سيفعل أمثال هؤلاء؟ لو خرج الإمام (ع ) وطالبهم أن يتركوا منازلهم و يخلوها، من جهة أنها ملك للغير، فلا يجوز التصرف والسكنى فيها. هل هم مستعدون أن يتنازلوا أم سيعترضوا على حكم الإمام ؟ .وربما وقع ما هو أعظم من ذلك، فقد يدخل (ع ) في بعض البيوت، ويقول لأصحابها: أترك هذه المرأة، فهي ليست زوجتك؛ لأنها أختك من الرضاعة. هل يقوى الإنسان على التنازل حينها عمن عاشت معه عمراً طويل؟
ينبغي أن يكون المؤثر فينا قوة الإيمان:
يريد الإمام أن يكون المؤثر في أنفسنا هو الإيمان فقط، لا العادات ولا التقاليد. فقد سمعت ما أدهشني و ألمني ممن يدعي الإيمان و الولاء، في قضية تخصُصية لا ينبغي لكل وارد أن يلجها، فقال من ليس هو من أهل الاختصاص، مستنكراً قضية الأعلمية ورافضاً إياها:
ماهي قضية الأعلمية و الأعلم ؟ لو خرج الحجة، وأمر بتقليد الأعلم، فسأناقشه هو أيضاً!.
ورداً عليه أقول:
لنفترض أن السيد الخوئي والسيد الحكيم والشيخ مرتضى الأنصاري والسيد المرتضى علم الهدى والشريف الرضي …كل هؤلاء مشتبهون – و أستغفر الله – لكن هل هناك ما يخولك أن تقول: إذا ظهر الإمام فستناقشه! من أنت حتى تعطي لنفسك الأحقية في نقاش الإمام ؟ أليس هذا الموقف منك يمثل التعصب و الحزبية بعينها ؟ لماذا لا يحكّم هؤلاء منطق العقل ؟ فكان الأولى له قبل أن يتحدث بهذه الكلمات ينظر إلى جهله و مستواه، حتى يعرف هل هو في مستوى نقاش الإمام أم لا ؟
نعم لو كان غير شيعي لقبلنا منه مثل هذا الكلام؛ لأن غير الشيعي لا يعتقد أن الإمام معصوم، ولذا عند ظهور الإمام (ع ) يناقشونه، فيأخذ كتاب الله ويناقشهم به.
حدود المنبر الحسيني:
إن مسألة الأعلمية قضية لا يصلح أن يتدخل فيها الخطباء، والمفروض أن كل واحد يقدّر نفسه و يعرف موقعه، كما يقول الإمام الصادق(ع ) رحم الله من عرف قدر نفسه وأنا أتكلم عن نفسي، فإذا رأيتم أني قلت كلمة تجاوزت فيها مقامي، فحرام عليكم أن تسكتوا، بل يجب عليكم أن تنصحوا .
لأن هناك قضايا لها أهلها من المختصين لا ينبغي التطفل عليها، والتدخل فيها من غير أهل الاختصاص وتناولها على غير المختصين يضر ولا ينفع، خصوصاً إذا كان المكان الذي تطرح عليه منبر أبي عبدالله الحسين (ع ) . نعم ربما يكون هناك بعض الخطباء متخصصين في بعض القضايا، إلا أنه لا ينبغي لهم أن يطرحوا قضايا خارج عن تخصصاتهم.
وما دعني أن أتكلم بهذه الكلمات هو أني سمعت بعض الخطباء الذين يتكلمون في قضايا ليست منبرية، كما أنهم ليسوا من أهل الاختصاص فيها، وأن أمثال هؤلاء يضرون الناس بالتطرق في قضايا ليست منبرية أساساً.
نماذج من التدخل في القضايا غير منبرية:
لقد سمعت أحد الخطباء يقول يوم التاسع من محرم، إن قضية الأعلم مختلف فيها، فمنهم من يقول بتقليده، ومنهم من لا يقول بذلك، وفي نظري أن عليكم تقليد الأعمل الأنشط الذي يواجه الجماهير.
و بكلام هذا الخطيب خرج عن حدود المنبر الحسيني، بل خرج عن حدود اختصاصه، فهل أنت أيها الخطيب مجتهد لتملك حق الإفتاء، وتقول بنظري أفعلوا كذا؟! إن هذا الكلام ينبغي أن يصدر من أهل الاجتهاد في الفقه، و المفروض دورك كخطيب، حين تصعد المنبر، يقتصر على الوعظ والنصيحة، لا الإفتاء و التدخل فيما هو ليس من اختصاصك.
و يقابل هذا الخطيب خطيب آخر يدعي على العلماء ما لم يقولوه، فيقول: إن كل من يعدل من عالم إلى عالم، تقليده الثاني باطل عند جميع العلماء، ولا يحق لأي شخص العدول عن مرجعه إلا إذا كان فاسقاً؛ كما لو شاهده يشرب الخمر جهراً.
ولنسأل هذا الخطيب الحسيني، من أين أخذت هذا الكلام؟ هل يمكن أن تدلنا على رسالة عملية لأحد المراجع وردت فيها هذه الفتوى؟ فقد طبع جميع العلماء رسائل عملية لهم، فهل أخذتها من المستمسك، أما أخذتها من منهاج الصالحين لسيد الخوئي أم أخذتها من رسالة الإمام الخميني.. أنا أريد مصدر هذا الكلام، خصوصاً أنك تقول: إن (جميع العلماء) يقولون بهذه الفتوى.
وبكل احترام أقول لك كلامك هذا باطل؛ لأن معظم العلماء يقولون العدول واجب، و لا يقولون بأنه باطل، فالسيد الخوئي يقول: يجب العدول من الإنسان كذا إلى الأعلم، وكذا الإمام الخميني حيث يقول: إذا تساووا في العلم فأنت مخير، فإن كان أحدهما أعلم فالأحوط تقليده، ومثلهما السيد الحكيم والشيخ مرتضى الأنصاري والسيد المرتضى وكذا صاحب المعالم وصاحب العروة
كيف نكّون مجتمع الذي يرده الإمام
إن المجتمع الذي يريده الإمام يجب أن يكون منصاعاً لأوامره، مسلماً بما يقوله و يفعله ولا يريد مجتمع يعترض عليه، ويرى أنه يملك مستوى أعلى في الفهم من الإمام ، وكي يصل المجتمع إلى ما يريده الإمام (ع ) يحتاج أن يمر أفراده بمراحل تمحيصية من خلال مجموعة من الامتحانات، وأنقل لكم هذه القصة العظيمة و التي يرويها السيد الخوئي و يرويها عنه السيد محمد باقر الصدر في كتاب الغيبة، يقول السيد محمد الصدر حدثني السيد محمد باقر الصدر عن أستاذه السيد الخوئي:
جاءني رجل شيبة من أهل العلم الموثوقين يبكي، فسألته عن سبب بكاؤه، فقال: سبب بكائي أني أردت في شهر رمضان أن أقضي ليالي القدر في مسجد الكوفة، فخرجت من النجف وأخذت معي فطوري متجهاً إلى مسجد الكوفة.
وفي مسجد الكوفة رأيت شخصين أحدهما نائم و الآخر جالس، فسلمت عليهما فردا علي السلام، فقالا لي: تفضل فقلت: لا أنا أريد أن أتوضأ.
و عندما أصبح وقت الإفطار قدم لي الشخص الجالس، فنجان قهوة، لكني أعرضت عنه، باعتبار أني قد أتيت بفطوري، ثم سألت الجالس وقلت له: من هذا و أشرت إلى النائم؟ فقال: هذا آغاي عالَم- أي سيد العالَم- فقلت له: لا تقل آغاي عالَم بل قل عالِم –أي سيدٌ عالِم- فأصر الرجل وقال: بل سيد العالَم.
ثم أخذ يسأل عن علماء النجف بالتفصيل، فتعجبت منه، وقلت في نفسي: ما يدريه بجميع العلماء، فلما حان وقت الصلاة قمت، وصليت صلاة المغرب، وقررت أن أجلس بعد صلاة المغرب لأفطر وأرتاح، ثم أصلي صلاة العشاء وأواصل بعدها أعمال ليلة القدر إلى طلوع الفجر، وأثناء استراحتي نمت وجلست، وإذا بجامع الكوفة مضيء بالأنوار، فتعجبت فبقيت ألتفت وألتفت، فرأيت ذلك الشخص المضطجع تتلألأ من وجهه الأنوار، والشخص الذي كان جالس يصلي خلفه، ووراءه صفان أو ثلاثة صفوف، وكنت أسمع قراءته، فلما فرغ من صلاته جاء ذلك الشخص الجالس، وقال: سيدي أنأخذ هذا الشخص معنا أم لا ؟ فقال: لا بقي عليه امتحان لم يأخذه .
بعد أن قال تلك الكلمات غاب عني، فعرفت أنه الإمام الحجة(ع ) . ورأيت المسجد عاد مظلماً، و إذا بي في أول الليل، فقمت وصليت العشاء، وجلست أبكي متحسر؛ لأني لم أشرب من يديه فنجان القهوة.
وحاصل ما أردنا بيانه، أن الإنسان يمر بعدة مراحل يتمحص فيها، حتى ينكشف له حقيقة نفسه، فمثلاً كل واحد منا يتصور أنه يحب الإسلام حباً عظيماً، لكن تنكشف له حقيقة نفسه عند الامتحان، أما الأوراد ومجرد الاعتقاد فإنهما لا يدلان على شيء.
وإن الغرض من نقل هذه القصة، أنني وأنت نمر بظروف شديدة نتمحص بها حتى ظهور الإمام سلام الله عليه؛ لكي تكون لدينا الياقة للاجتماع معه.
قضية ابن مهزيار
أذكر لك قضية أخرى وقعت في الغيبة الصغرى، وهي قضية ابن مهزيار، و غالب الخطباء ينقل هذه القصة، وهي وموجودة في مصادر الشيعة.
كان الإمام(ع ) في الغيبة الصغرى لا يتصل بشيعته إلا بالسفراء فقط، وكلما مات سفير عين الإمام سفيراً آخر، إلى أن جاء السفير الرابع فقال له: قريباً تموت فلا توصي إلى أحد، فقد وقعت الغيبة الكبرى.
و ضمن تلك الفترة كان يعيش رجل اسمه ابن مهزيار، جاء إلى أحد السفراء وقال له: أنا مشتاق إلى رؤية الإمام (ع ) وأريد أن أراه بكل وسيله. وحيث إن الإمام لم يأذن لأحد أن يراه غير السفراء، بقي ابن مهزيار يلح سنوات لرؤية الحجة مما يكشف عن صدقه في دعوته، واستعداده لتضحية من أجل رؤيا الإمام.
وظل الرجل هكذا إلى أن جاءه الفرج، حيث أمر الإمام (ع ) السفير، أن يخبر ابن مهزيار، بأنه موجود في شعاب مكة. فحج ابن مهزيار في تلك السنة ولما فرغ من الحج خرج يمشي إلى شعاب مكة، وإذا برجلٍ يقول له: قف، أنت ابن مهزيار؟ فقال له: نعم، و بعد حديث جرى بينهما عرف أن المنادي من أصحاب الإمام (ع ) فطلب منه أن يوصله إلى الإمام، فأوصله إليه، فرأى خيمة من الشعر، يسكنها الإمام الحجة ابن الحسن(ع ) ففرح ابن مهزيار، وكاد يطير فرحاً، ثم قال ابن مهزيار: أأذن لي على الإمام. فذهب الخادم و دخل الخيمة، ثم جاء إلى ابن مهزيار وقال له: لقد جاءك الأذن، فدخل، وأول ما رأى الإمام بكى بكاءً عظيما، ثم سلم على الإمام، وقبل يديه و رجليه، فقال له: سيدي ياصاحب الأمر، لي سنوات وأنا أطلب أن أوفّق لهذه الرؤيا، فقال له: يابن مهزيار لقد حجبني عنكم سوء أعمالكم …. ثم قال الإمام: يابن مهزيار: لولا استغفار بعضكم لبعض لهلكتم…
نتائج من قصة ابن مهزيار
أن في قصة ابن مهزيار نقطتين هامتين:
النقطة الأولى: أثر سوء الأعمال
يشير الإمام من خلال قوله:( لقد حجبني عنكم سوء أعمالكم ) أن الأعمال السيئة هي التي تحول بيننا و بين الإمام (ع ) وإلا ثق أن هناك أشخاص يتصلوا بالحجة ابن الحسن في عصرك هذا، لكن لا يتكلمون لي ولك.
النقطة الثانية: أهمية الدعاء للغير
يرشد (ع ) في قوله لابن مهزيار: (ع ) لولا استغفار بعضكم لبعض لهلكتم ( ع ) إلى أهمية استغفار كل واحد منا للآخر، نظير استغفار المؤمنين بعضهم لبعض بعد الصلاة، وتكمن أهمية الاستغفار بهذا الأسلوب لأنه ورد عنهم (ع ) ادعني بلسانٍ لم تعصني به(ع ) [بحار الأنوار90ج:386] فالدعاء الفردي قد يستجاب له وقد لا يستجاب، ولكن إذا دعوت مع المؤمنين فإن احتمال الإستجابه أكثر، إذ لعل فيهم من هو كفؤٌ للمغفرة.
ولقد كان الإمام الرضا (ع ) في يوم عرفة يدعو للمؤمنين كافة، من زوال الشمس إلى غروبها، فسأله أحدهم وقال له: سيدي، هذا يوم عرفة يوم عظيم يوم يستجاب فيه الدعاء، فما رأيتك دعوت لنفسك و لا دعوة واحدة، فقال له الإمام: ياهذا إذا دعوت لنفسي تكتب لي دعوة واحدة، فإن دعوت لأخواني المؤمنين فكل دعوة تكتب بمئة دعوة؛ ويعني الإمام من قوله ذلك أن الدعاء الفردي نتاجه استجابة دعوة واحدة، بينما الدعاء للغير يثمر قضاء مئة حاجة.
كيف نتعامل مع خلافاتنا
إن الإمام (ع ) يهدف من قوله لابن مهزيار:(ع ) لولا استغفار بعضكم لبعض لهلكتم! خلق مجتمع متحاب متآلف، منزه عن الحقد و الضغينة مهما كان الخلاف بين أفراد ذلك المجتمع، ولذا علينا أن لا نصل في خلافاتنا إلى حد الحقد و البغض؛ لأن الحقد على المؤمنين حرام. نعم لا يوجد مانع أن تخطّئه لو رأيته على خطأ، لكن لا تحقد عليه ولا تصغره ولا تحتقره، وإن كان فاسقاً زانياً أو شارباً للخمر… نعم أغضب عليه، وأنهاه عن المعصية، وأضربه ضرب تأديب؛ لا ضرب حقد وتشفي، ولا تتبرأ منه بل تبرأ من عمله، فعصمة الولاية التي بينك وبينه لا تنقطع بحقد أو بغيره.
وفي عبر التاريخ ومواعظه ما يبين ذلك، فقد جاء أن رجل دخل على الإمام الصادق ( ع ) وقال له: فلان رجل شيعي، لكنه يشرب، ويفعل المنكرات. سيدي، هل أبرئ منه؟ فقال عليه السلام: لا. فقال الرجل: إذاً ما الذي أصنع ؟ قال له: أبرئ إلى الله من عمله.
و كيفية التبرئ من العمل غير الصالح الذي يرتكبه أحد المؤمنين، أن تقول مثلاً: اللهم أن عمل فلان معصية، و إني أبرء إليك من فعله.
مجتمع الألفة و المحبة:
إن كل الخلافات التي بين أفراد المجتمع الشيعي خلافات بسيطة، تجد حلها على يدي الحجة ابن الحسن (ع ) لأنه المرجع العام لكل الشيعة.
أن المجتمع الموالي الذي تجد للمحبة و التآلف بين أفراده مجتمع يسُر الإمام (ع ) ولذا فإن مجتمع كهذا كفيل أن يرغم أنوف أعداء أهل البيت(ع ) .
رأى أحد وكلاء الإمام (ع ) بعض الشيعة في الكوفة، يتنازعون على قضايا الميراث، مما أدى بهم إلى الحقد و التباعد، فدعاهم وقال لهم: إذا أعطيتكم أربعمائة دينار هل ترضون؟ فقالوا: نعم، فأعطاهم المال، فقاموا منه متحابين متآلفين، كل واحد راضٍ عن الآخر، ثم قال لهم وكيل الإمام: إن هذه الدنانير ليست من ملكي، إنها من إمامكم الصادق(ع ) أعطنيها لهذا الغرض، وقال لي: إذا رأيت أحداً من أفراد الشيعة يتنازعون على حطام الدنيا، فأعطهم ما يريدون في سبيل أن تبقى قلوبهم مؤتلفة.
والواقع أن الأئمة يهدفون من ذلك، إيجاد مجتمع متآلف متحاب، و يهتمون من تكوين ذلك المجتمع أشد الاهتمام، فعليكم بالتآلف حتى يخرج الإمام (ع ) ويلقانا له إن شاء الله، شيعة أكفاء.
و لعل السبب في موت البعض قبل خروج الإمام الحجة(ع ) أنه لا مصلحة من بقائه إلى ذلك الزمان، بل قد يكون وجوده إلى وقت خروجه ضرر، فيما لو أعترض على الإمام أو أنكره.
نرجو من الله أن يغفر لنا ذنوبنا و ذنوبكم، بحق محمدٍ و آله الطاهرين و أن يعيننا على إصلاح أنفسنا، لنكون أكفاءً؛ حتى نصير من رجالات تلك الدولة الحقيقة الشرعية الإلهية التي يكون قائدها الإمام صاحب العصر و الزمان صلوات الله عليه و آله.
زاد المعاد – مقتبس من محاضرة خطابية لسماحة الشيخ علي الدهنين دام عزه.
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً