أثر الذنوب
مقتطف من محاضرة خطابة حسينية للشيخ الدهنين 1406هـ
العلاقة بين عالم التشريع و التكوين والإلتزام بالشريعة المقدسة
إن الذنب هو الانحراف عن جادة الشريعة المقدسة، والتي هي نظام سماوي، يلتقي مع النظام التكويني، في هدف واحد و موُجدٍ واحد. فهناك ربط وثيق بين عالم التشريع و عالم التكوين، والالتزام بالشريعة المقدسة معناه: انتظام هذا الكون، بينما صدور الذنب يُحدث خلل كوني، لا يلاحظه الإنسان.
ففي أمريكا أنتشر مرض يُفقد الجسم المناعة؛ لأن كل إنسان عنده مناعة تحميه من سائر الأمراض، ولولم يمتلك تلك المناعة فأقل الأسباب المرضية تُفقد صحته وعافيته، مما يشكل خطراً كبيراً على حياته، وقد فُحص على الأفراد المبتلين بهذا المرض، فوجدوا أن بعض هؤلاء يتعاطون الشذوذ الجنسي (كاللواط..) والبعض الأخر يتعاطى الحشيش، وقد بُذلت إلى الآن أموال الطائلة لعلاج هذا المرض دون جدوى؛ وقد نبه القرآن على الأمر وسماه بالفتنة )وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ( [الأنفال:25]فالمقصود من الفتنة في الآية الكريمة البلاء الدنيوي؛ كالحوادث و الكوارث الدنيوية.
إن ما يمتلكه الإنسان من عافية أو رزق أو غير ذلك من النِّعم، له ربط وثيق بالالتزام الديني، فكلما كان التزام الإنسان بالشريعة كبيراً، أمِن من الأمراض والإبتلائات والمصاعب الدنيوية، وغير الملتزم بالشريعة يؤثر في عالمه التكويني من حيث لا يشعر، ويتمثل ذلك التأثير في أصابته بالأمراض و المشاكل الصحية وغيرها، وهذا المعنى يتجلى في دعاء كميل في قول أمير المؤمنين عليه السلام «اللهم أغفر لي الذنوب التي تنزل النقم».
أنواع الذنوب
هذه المقطوعة النورانية من دعاء كميل التي أخذت الصدارة في هذا الحديث، تعدد جملة من الذنوب، وتذكر بعض الآثار الناتجة من ارتكابها، ومن تلك الذنوب:
- · الذنوب التي تنزل النقم
وهي مجموعة من الذنوب التي تكون سبباً في سخط الله و أنزال نقمته، وهذا النوع من الذنب ذُكر في دعاء كميل:« اللهم أغفر لي الذنوب التي تنزل النقم » ومن مصاديق تلك الذنوب ظلم العباد، الذي يُوجب نزول العقوبة الإلهية، ولزوم النقمة السماوية على الظالم ولو بعد حين، وقد خرّب الله تعالى ديار الظالمين، وأفنى أولادهم وأموالهم، كما هو معلوم من أحوال فرعون وهامان وأحوال بني أمية وبني عباس وغيرهم من المشهورين بالظلم.
- · الذنوب التي تغير النعم
يكون لبعض الذنوب تأثير في تغيير ما أنعمه الله به على عبده؛ كما ورد في دعاء كميل: « اللهم أغفر لي الذنوب التي تغير النعم » وهي مجموعة من الذنوب، ورد ذكرها في روايات أهل بيت العصمة عليهم السلام، ومن تلك الذنوب عدم شكر النعم، قال الله تعالى: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ) [إبراهيم:7]
- · الذنوب التي تحجب الدعاء
لذنوب تأثير قد يمنع من استجابة الدعاء:«اللهم أغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء» و من تلك الذنب أكل الأموال الربوية.
وهناك ذنوب لها تأثيرات أخرى على الحياة البشريه، تناولتها روايات بيت العصمة و الطهارة عليهم السلام بشيءٍ من التفصيل.
الذنوب التي تحجب الدعاء
جاء رجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وقال له: يا رسول الله أحب أن يستجاب دعائي، فقال صلى الله عليه وآله: « طهر مأكلك، ولا تدخل بطنك الحرام » إن المعاملات التي تجري بين أفراد المجتمع لها الأثر الأكبر في رد الدعاء وعدم استجابته، ولذا لابد أن تكون تلك المعاملات وفق الموازين الشرعية؛ ليتمكن الإنسان من تجنب المزالق التي تحدث نتيجة الخلل فيها، ولعل أبرزها المعاملات الربوية، والتي تلقى قبولاً وانتشاراً كبيرين، ولهذا سنعرض موضوع الربا في عدة نقاط:
النقطة الأولى: الآثار السلبية للربا
جاء في ذم التعامل بالربا كثير من الروايات، فعن النبي صلى الله عليه وآله في وصيته لعلي عليه السلام: « يا علي، الربا سبعون جزء، فأيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه في بيت الله الحرام. يا علي، درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زنية، كلها بذات محرم في بيت الله الحرام » [وسائل الشيعة ج 18: 121]. إن عظم عقوبة آكل الربا من عظم تأثير عمله على المجتمع الإنساني، إذ أن مضاره لا تقتصر على الفرد، بل تعم المجتمع بأسره، والتي منها:
- · تأثير لقمة الربا في تكوين نطفة الولد؛ حيث تساهم في إنتاج جيل فاسد وضار على المجتمع.
- · استنزاف القوى البشرية، مما ينعكس على اقتصاد المجتمع.
ومن تأثيرات الربا على الفرد أنه يُضعف علاقة العبد بربه، مما يكون ذلك سبباً في حرمانه من إجابة دعائه، وقد دللت جملة من روايات بيت العصمة على ذلك:
فعن أبي جعفر عليه السلام: « إن العبد يسأل الله الحاجة، فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب، أو إلى وقت بطئ، فيذنب العبد ذنباً فيقول الله تبارك تعالى للملك: لا تقض حاجته واحرمه إياها، فإنه تعرض لسخطي ، واستوجب الحرمان مني » [الدعاء حقيقته ، آدابه ، آثار:56] وجاء رجل إلى الإمام الصادق عليه السلام وقال : آيتان في القرآن لا أعرف معناهما، أحداهما قوله تعالى : )ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (فاني مهما دعوت لم يستجب لي، فقال عليه السلام: إن الله لا يخلف وعده، ولكن للدعاء طريق وطريقه أن تبتعد عن الذنوب . [الفضائل والرذائل:115]
وورد عن أمير المؤمنين في دعاء كميل عليه السلام: « اللهم أغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء»
إن حرمان الله من إجابة الدعاء عقوبة ناشئة من ارتكاب الذنب، وهي عقوبة دنيوية قبل العقوبة الأخروية، وهذا نوع من رحمة الله بعبده، إذا أمهله عن عقوبته الأخروية كرامةً منه وامتناناً؛ ليفيء إلى أمر ربه ويرجع إلى واسع رحمته .
النقطة الثاني: مفهوم الربا
يحسن بنا أن نبين مفهوم الربا؛ فقد يكون غير واضحاً عند بعض أفراد المجتمع، ولعل هذا أحد أسباب انتشاره. فالربا يكون في موردين:
المورد الأول: في ما يكال و يوزن؛ و يمكن أن نمثل له بما يلي، أن يباع كيلو تمر من نوع الإخلاص، بكيلو وربع من تمر الرزيز، ويمكن التخلص من الربا في هذا المورد وذلك بأن يبيع الإخلاص بعشرة ريال مثالاً ثم يشتري الرزيز بخمسة ريال، و تصبح لدينا معاملتان لا معاملة واحدة.
المورد الثاني: وهو أكثر ابتلاءاً، وهو أن يشترط الزيادة للمقرض؛ فيقول أعطيك (1000) ريال ديناً بشرط أن تعطيني (1200) ريال، والحرمة تكمن في نفس عملية الاشتراط، أما لو أعطاه (1200) دون أن يكون بينهما اشتراط فلا بأس به.
الاستقرار الشامل للعالم التكويني
أن الوضع الاجتماعي الذي نشاهد فيه كثير من المعاملات الربوية، يدعونا أن لا نتغافل عن مثل هذه القضية؛ لأن بقاء المجتمع دون أي حِراك يولد جيل فاسد بعيد عن الإسلام. ومن أجل ذلك لابد أن تكون لدينا اللياقة الكاملة لتضحية، والاستعداد لإنشاء مجتمع صالح يحقق الإصلاح العالمي والشامل في جميع أركان الوجود، ولتكن كلمات علي الأكبر هي الدرب الذي نسير عليه، والمنهج الذي نستمد منه، حين قال لأبيه:« أو لسنا على الحق قال: بلى، فقال: لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا».
إن ذلك المجتمع يستحق أن يمتلك الأهلية للعيش في رحاب الحجة ابن الحسن عليه السلام وأن يحظى بخيرات دولة العدالة الشاملة، التي ينعم فيها بما تخرجه الأرض من بركات، وما تنزل السماء من خيرات، فهو مجتمع يعيش كل فرد فيه السّلوك المنضبط المتقوّم بالتعاليم الشرعية، وينعكس الاستقرار في العالم التشريعي على العالم التكويني فيحدث الاستقرار التام في ذلك المجتمع.
الذنوب التي تغير النعم
إن التغير في ما منحه الله لنا من نِعم، نتيجة طبيعية لارتكاب المعصية وأغترف الذنب « اللهم أغفر لي الذنوب التي تغير النعم » ولبعض الغربيين نظرية في الاقتصاد تفسر ذلك التغير وهي نظرية ماركس.
نظرية ماركس
يفسر ماركس هذا التغير في النعم، تفسيراً ينتظم مع نظرياته في الاقتصاد، ويقول إن ذلك التغير ناتج من تناقضات في المادة و تصارع فيها، ويستمر هذا التناقض إلى أن يصل إلى يومٍ تسعد فيه البشرية.
النظر في تلك النظرية:
إن ما قاله ماركس لا ينسجم مع الحقائق الإسلامية، وأن كانت تتفق معه في بعض الجزئيات، إلا أننا لا نوافقه على القسم الأول فيها، وهو أن التناقض مقدمة ليوم الاستقرار العالمي، بل نقول إن خروج الإمام عليه السلام هو الكفيل بتنظيم أمور الناس؛ الذي يخلق في نفوسهم التوجه والارتباط بالله عز وجل فيسيرون في مسارهم الطبيعي، مما يكون سبباً لإخراج الأرض بركاتها وإنزال السحاب خيراتها، فيأتي المحتاج للإمام عليه السلام فيقول له : خذ ما تحتاج. فيأخذ ما يملأ حجره، ويمضي إلى السوق، فيجد أن كل شيء رخيص، فيشتري كل ما يحتاجه، ثم يذهب إلى الإمام لإرجاع ما فاض من أموال، فيقول له عليه السلام : نحن أهل البيت إذا خرجت منا العطية لا نرجع فيها.
الذنوب التي تنزل النقم
يمكننا أن نربط كل نقص أو كارثة شاملة، بالانحراف العام عن الشريعة المقدسة، « اللهم أغفر لي الذنوب التي تنزل النقم » وأكبر شاهد على ذلك الأحداث التي جرت بعد رسول صلى الله عليه وآله ….
وأخيراً
علينا حيال هذه المتغيرات و المتبدلات، أن نغير سلوكنا وعلاقتنا مع الله كي يغير الله معاملته معنا ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ( [الرعد:11] و سننحضى حينئذٍ بالإجابة في دعائنا، وبقاء النعم علينا ثابتة غير متغيرة.
زاد المعاد – محاضراة سماحة الشيخ علي الدهنين في 13/1/1406هـ
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً