مناظرة الإمام الرضا ( عليه السلام ) مع أبي قُرة
تصدّى الإمام الرضا ( عليه السلام ) لإبطال الشُبَه التي أثيرت حول العقيدة الإسلامية .
وقد قصد أبو قُرة خراسان لامتحان الإمام ( عليه السلام ) ، وطلب من صفوان بن يحيى ، وهو من خواص الإمام ( عليه السلام ) أن يستأذن منه للدخول عليه ، فأذن الإمام ( عليه السلام ) له .
فلمَّا تشرَّف بالمثول أمامه سأله عن أشياء من الحلال والحرام ، والفرائض والأحكام ، فأجابه ( عليه السلام ) عنها .
ثم سأله عن بعض قضايا التوحيد ، وهذه منها :
قال أبو قُرَّة : أخبرني جعلني الله فداك عن كلام الله لموسى ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( اللهُ أعلم بأيٍّ كَلَّمَهُ ، بالسِّريانيَّة أم بِالعِبرَانِيَّة ) .
فأخرج أبو قُرَّة لسانه وقال : إنما أسألك عن هذا اللسان – ومعنى ذلك أنه هل كلَّمه بلسان كَلِسَان الإنسان – ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( سبحان الله عما تقول ، ومعاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلِّمون ، ولكنه تبارك وتعالى ليس كمثله شيء ، ولا كمثله قائل ولا فاعل ) .
فقال أبو قُرَّة : كيف ذلك ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( كَلام الخالقِ لمخلوقٍ ليس كَكَلام المخلوق لمخلوق ، ولا يلفظ بِشَقِّ فَمٍ ولسان ولكن يقول : ( كُنْ ) ، فكان بمشيئتِه ما خاطب به موسى من الأمر والنهي من غير تردّد في نَفَس ) .
فقال أبو قُرَّة : ما تقول في الكُتُب ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( التَّوراةُ ، والإنجِيل ، والزَّبُور ، والفُرقَان ، وكل كتابٍ أُنزِل كان كلام الله ، أنزله للعالمين نوراً وهُدىً ، وهي كلّها مُحدَثة ، وهي غير الله حيث يقول عزَّ وجلَّ : ( أوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ) [ طه : 113 ] .
وقال عزَّ وجلَّ : ( مَا يَأْتِيهِمْ مِّنْ ذِكْرٍ مِّنْ رِّبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ استَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) [ الأنبياء : 2 ] .
والله أحدَثَ الكتب كلها التي أنزَلَها ) .
فقال أبو قُرَّة : هل تُفنَى – أي : الكتب – ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( أجمعَ المسلمون على أنَّ ما سوى الله فانٍ ، وما سوى الله فعل الله ، والتوراة والإنجيل والزَّبور والفرقان فعل الله ، ألم تسمع الناس يقولون : رب القرآن ، وأن القرآن يقول يوم القيامة : يا ربِّ هذا فلان – وهي أعرف به منه – قد أظمأتُ نهارَه وأسهرتُ ليله ، فَشَفِّعنِي فيه .
وكذلك التوراة والإنجيل والزَّبور وهي كلها مُحدَثة ، مَربُوبة ، أحدثها من ليس كمثله شيء هُدىً لقومٍ يعقلون ، فمن زعم أنَّهُنَّ لم يَزلْنَ معه فقد أظهر أن الله ليس بأول قديم ، ولا واحد ، وإن الكلام لم يزل معه ، وليس له بدو ، وليس بإِلَه ) .
فقال أبو قُرَّة : إنا روينا : إن الكتب كلّها تجيء يوم القيامة والناس في صعيد واحد ، قيام لِربِّ العالمين ، ينظرون حتى ترجع فيه ، لأنها منه وهي جزء منه ، فإليه تصير .
فقال ( عليه السلام ) : ( هكذا قالت النصارى في المسيح إنه روحه ، جُزء منه ، ويرجع فيه ، وكذلك قالت المجوس في النار والشمس أنهما جزء منه ترجع فيه .
تعالى ربُّنا أن يكون متجزياً أو مختلفاً ، وإنما يختلف ويأتلَّف المُتجزي لإن كل متجزي متوَّهم ، والكثرة والقلة مخلوقة دالَّة على خالق خلقها ) .
فقال أبو قُرَّة : إنا روينا : إن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيَّين ، فقسم لموسى الكلام ولمحمد الرؤية ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( فمن المُبلغ عن الله الثقلين : الجن والأنس ؟ ، إنه لا تدركه الابصار ، ولا يحيطون به علماً ، وليس كمثله شيء ، أليس محمد ) ؟
فقال أبو قُرَّة : بلى .
وأوضح الإمام ( عليه السلام ) له الأمر ، وكشف ما التبس عليه قائلاً :
( كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله ، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله ، ويقول : إنه لا تدركه الابصار ولا يحيطون به علماً ، وليس كمثله شيء .
ثم يقول : أنا رأيتُه بعيني ، واحطتُ به علماً ، وهو على صورة البشر .
أما تستحيون ؟!! ما قَدِرَت الزنادقة أن ترميهِ بهذا ، أن يكون أتى عن الله بأمر ثم يأتي بخلافه من وجه آخر ) .
فقال أبو قُرَّة : إنه يقول : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) [ النجم : 13 ] ، وما بعدها .
فقال ( عليه السلام ) : ( إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى ، حيثُ قال :
( مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأى ) [ النجم : 11 ] .
يقول : ما كذب فؤاد محمد ما رأت عينَاه ، فقال :
( لَقَدْ رَأى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى ) [ النجم : 18 ] ، فآياتُ الله غير الله .
وقال : ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) [ طه : 11 ] .
فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ، ووقعت المعرفة ) .
فقال أبو قُرَّة : فنكذِّب بالرواية ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( إذا كانت الرواية مُخالفة للقرآن كَذَّبتُها ، وما أجمع المسلمون عليه أنه – أي الله تعالى – لا يُحاط به علماً ، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء ) .
فقال أبو قُرَّة : ما معنى قوله تعالى :
( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى .. ) [ الإسراء : 1 ] .
فقال ( عليه السلام ) : ( لقد أخبر الله تعالى أنه أسرَى به ، ثم أخبر أنَّه لِمَ أُسْرِيَ به ، فقال : ( لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا ) [ الإسراء : 1 ] .
فآيات الله غير الله ، فقد أعذر ، وبَيَّن لِمَ فعل به ذلك ، وما رآه ، وقال :
( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ) [ الجاثية : 6 ] ) .
فقال أبو قُرَّة : أين الله ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( الـ ( أيْنَ ) مَكان ، وهذه مسألة شاهدٍ عن غائب ، فالله تعالى ليس بغائب ، ولا يُقدِمُه قادم ، وهو بِكُل مكان ، موجود ، مدبِّر ، صانع ، حافظ ، ممسك السماوات والأرض ) .
فقال أبو قُرَّة : أليس هو فوق السماء دون ما سواها ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( هو الله في السماوات وفي الأرض ، وهو الذي في السماء إِلَه ، وفي الأرض إله ، وهو الذي يصوِّرُكم في الأرحام كيف يشاء ، وهو معكم أينما كنتُم ، وهو الذي استوى إلى السَّماء وهي دُخَان .
وهو الذي استوى إلى السماءِ فَسوَّاهُنَّ سبع سماوات ، وهو الذي استوى على العرش ، قَد كان وَلا خَلْق ، وهو كما كان إذ لا خَلْق ، لم ينتَقِل مع المُنتَقِلين ) .
فقال أبو قُرَّة : فَما بَالُكم إذا دعوتُم رفعتم أيديكم إلى السماء ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( إن الله استعبدَ خلقه بِضُروب من العبادة ، ولله مَفازِعَ يفزعون إليه ومستعبد ، فاستعبَدَ عبادَه بالقول والعلم ، والعمل والتوجّه ، ونحو ذلك استعبدهم بتوجيه الصلاة إلى الكَعبة ، ووجه إليها الحَجَّ والعمرة .
واستعبد خلقه عند الدعاء والطلب ، والتضرّع ببسط الأيدي ، ورفعها إلى السَّماء حال الاستكانة ، وعلامَة العبودية والتذلل له ) .
فقال أبو قُرَّة : من أقرب إلى الله الملائكة أو أهل الأرض ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( إن كُنتَ تقول بالشِّبر والذراع ، فإن الأشياء كلها باب واحد هي فعله ، لا يشتغل ببعضها عن بعض ، يدبِّر أعلى الخلق من حيث يدبر أسفله ، ويدبر أوَّله من حيث يدبِّر آخره من غير عناء ، ولا كُلفة ولا مُؤْنة ، ولا مشاورة ، ولا نصب .
وإِن كنتَ تقول : من أقرب إليه في الوسيلة ، فأطوَعهم لهُ ، وأنتم ترون أن أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد .
وروَيتم أن أربعة أملاك التقوا أحدهم من أعلى الخلق ، وأحدهم من أسفل الخلق ، وأحدهم من شرق الخلق ، وأحدهم من غرب الخلق ، فسأل بعضهم بعضاً فكلهم قال : مِن عندِ الله ، أرسلني بكذا وكذا .
ففي هذا دليل على أن ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل ) .
فقال أبو قُرَّة : أتقرّ أنَّ الله مَحْمُول ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( كُل محمولٍ مفعول ، ومضاف إلى غيره ، محتاج ، فالمحمول اسم نقص في اللفظ ، والحامل فاعل ، وهو في اللفظ ممدوح .
وكذلك قول القائل : فوق ، وتحت ، وأعلى ، وأسفل ، وقد قال الله تعالى :
( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) [ الأعراف : 180 ] .
ولم يقل في شيء من كُتُبه أنه محمول ، بل هو الحامل في البَرِّ والبحر ، والمُمسك للسماوات والأرض ، والمحمول ما سوى الله ، ولم نسمع أحداً آمن بالله وعظَّمَه قط قال في دعائه : يا محمول .. ) .
فقال أبو قُرَّة : أفنكذِّب بالرواية : إن الله إذا غضب يعرفُ غضبه الملائكة الذين يحملون العرش ، يَجدُونَ ثقله في كواهلهم ، فَيَخرّونَ سُجَّداً ، فإذا ذهب الغَضَب ، خَفَّ فرجعوا إلى مواقفهم ؟ .
فقال ( عليه السلام ) : ( أخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لَعَن إبليس إلى يومك هذا ، وإلى يوم القيامة ، فهو غضبان على إبليس وأوليائه ، أو عَنهم رَاضٍ ) ؟
فأيَّد أبو قُرَّة كلام الإمام ( عليه السلام ) قائلاً : نَعَم ، هو غضبان عليه .
وانبرى ( عليه السلام ) قائلاً : ( وَيْحَك ، كَيف تَجتَرِئ أنْ تَصِفَ رَبَّك بالتغيّر من حال إلى حال ، وأنه يجري عليه ما يجري على المخلوقين ؟
سُبحانه ، لم يزل مع الزَّائلين ، ولم يتغيَّر مع المُتغيِّرين ) .
واستولى الذهول على أبي قُرَّة ، وحارَ في الجواب ، وانهزم من المجلس وهو غضبان ، وقَد أُترِعَت نفسُه بالغيظ والحقد على الإمام ( عليه السلام ) .
————
مركز آل البيت العالمي للمعلومات
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً