استلم الإمام علي ( عليه السلام ) الخلافة بعد مقتل عثمان بسبعة أيام ، ذلك في ( 25 ) ذي الحجة عام ( 35 هـ ) ، فوجد الأوضاع متردّية بشكل عام ، وعلى أثر ذلك وضع خطّة إصلاحية شاملة ، ركّز فيها على شؤون الإدارة ، والاقتصاد ، والحكم ، وفي السطور القادمة سنتناول شواهد على ذلك البرنامج الإصلاحي بشكل مختصر :
الأول : تطهير جهاز الدولة :
أول عمل قام به الإمام ( عليه السلام ) فور توليته لمنصب رئاسة الدولة هو عَزل وُلاة عثمان الذين سَخّروا جهاز الحكم لمصالحهم الخاصة ، وأُثروا ثراءً فاحشاً مما اختلسوه من بيوت المال ، وعزل ( عليه السلام ) معاوية بن أبي سفيان أيضاً .
ويقول المؤرخون : إنه أشار عليه جماعة من المخلصين بإبقائه في منصبه ريثما تستقر الأوضاع السياسية ثم يعزله فأبى الإمام ( عليه السلام ) ، وأعلن أن ذلك من المداهنة في دينه ، وهو مما لا يُقرّه ضميره الحي ، الذي لا يسلك أي طريق يبعده عن الحق ولو أبقاه ساعة لكان ذلك تزكية له ، وإقرارا بعدالته ، وصلاحيته للحكم .
الثاني : تأميم الأموال المختلسة :
أصدر الإمام ( عليه السلام ) قراره الحاسم بتأميم الأموال المختلسة التي نهبها الحكم المُباد .
فبادرت السلطة التنفيذية بوضع اليد على القطائع التي أقطعها عثمان لذوي قُرباه ، والأموال التي استأثر بها عثمان ، وقد صودِرت أمواله حتى سيفه ودرعه ، وأضافها الإمام ( عليه السلام ) إلى بيت المال .
وقد فزع بنو أمية كأشد ما يكون الفزع ، فهم يرون الإمام ( عليه السلام ) هو الذي قام بالحركة الانقلابية التي أطاحت بحكومة عثمان ، وهم يطالبون الهاشميين برد سيف عثمان ودرعه وسائر ممتلكاته التي صادرتها حكومة الإمام ( عليه السلام ) .
وفزعت القبائل القرشية وأصابها الذهول ، فقد أيقنت أن الإمام سيصادر الأموال التي منحها لهم عثمان بغير حق .
فقد كتب عمرو بن العاص رسالة إلى معاوية جاء فيها : ما كنتُ صانعاً فاصنع إذا قشّرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها .
لقد راح الحسد ينهش قلوب القرشيين ، والأحقاد تنخر ضمائرهم ، فاندفعوا إلى إعلان العصيان والتمرد على حكومة الإمام ( عليه السلام ) .
الثالث : اِلتياع الإمام ( عليه السلام ) :
وامتُحِن الإمام ( عليه السلام ) امتحاناً عسيراً من الأُسَر القرشية ، وعانى منها أشدّ ألوان المِحن والخُطوب في جميع أدوار حياته .
فيقول ( عليه السلام ) : ( لقد أخافَتني قُريش صغيراً ، وأنصبتني كبيراً ، حتى قبض الله رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، فكانت الطامّة الكبرى ، والله المُستعان على ما تَصِفون ) .
ولم يعرهم الإمام ( عليه السلام ) اهتماماً ، وانطلق يؤسس معالم سياسته العادلة ، ويحقق للأمة ما تصبوا إليه من العدالة الاجتماعية .
وقد أجمع رأيه ( عليه السلام ) على أن يقابل قريش بالمِثل ، ويسدد لهم الضربات القاصمة إن خلعوا الطاعة ، وأظهروا البغي .
فيقول ( عليه السلام ) : ( مَالي وَلِقُريش ، لقد قتلتُهم كافرين ، ولأقتلنَّهم مَفتونين ، والله لأبقرنَّ الباطل حتى يظهر الحق من خَاصِرَتِه ، فَقُلْ لقريش فَلتضجّ ضَجيجَها ) .
الرابع : سياسة الإمام ( عليه السلام ) :
فيما يلي عرضاً موجزاً للسياسة الإصلاحية التي اتبعها الإمام ( عليه السلام ) لإدارة الدولة الإسلامية وهي كما يلي :
أولاً : السياسة المالية :
كانت السياسة المالية التي انتهجها الإمام ( عليه السلام ) امتداد لسياسة الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) الذي عنى بتطوير الحياة الاقتصادية ، وإنعاش الحياة العامة في جميع أنحاء البلاد ، بحيث لا يبقى فقير أو بائس أو محتاج ، وذلك بتوزيع ثروات الأمة توزيعاً عادلاً على الجميع .
ومن مظاهر هذه السياسة هي :
1 – المساواة في التوزيع والعطاء ، فليس لأحد على أحد فضل أو امتياز ، وإنما الجميع على حدٍّ سواء .
فلا فضل للمهاجرين على الأنصار ، ولا لأسرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأزواجه على غيرهم ، ولا للعربي على غيره .
وقد أثارت هذه العدالة في التوزيع غضب الرأسماليين من القرشيين وغيرهم ، فأعلنوا سخطهم على الإمام ( عليه السلام ) .
وقد خفت إليه جموع من أصحابه تطالبه بالعدول عن سياسته فأجابهم الإمام ( عليه السلام ) : ( لو كان المال لي لَسوّيتُ بينهم فكيف ، وإنما المال مال الله ، ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ، ويضعه في الآخرة ، ويُكرّمه في الناس ، ويهينه عند الله ) .
فكان الإمام ( عليه السلام ) يهدف في سياسته المالية إلى إيجاد مجتمع لا تطغى فيه الرأسمالية ، ولا تحدث فيه الأزمات الاقتصادية ، ولا يواجه المجتمع أي حِرمان أو ضيق في حياته المعاشية .
وقد أدت هذه السياسة المشرقة المستمدة من واقع الإسلام وهَدْيهِ إلى إجماع القوى الباغية على الإسلام أن تعمل جاهدة على إشاعة الفوضى والاضطراب في البلاد ، مستهدفة بذلك الإطاحة بحكومة الإمام ( عليه السلام ) .
2 – الإنفاق على تطوير الحياة الاقتصادية ، وإنشاء المشاريع الزراعية ، والعمل على زيادة الإنتاج الزراعي الذي كان من أصول الاقتصاد العام في تلك العصور .
وقد أكد الإمام ( عليه السلام ) في عهده لمالك الأشتر على رعاية إصلاح الأرض قبل أخذ الخراج منها .
فيقول ( عليه السلام ) : ( وليكُن نظرك في عِمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره إلا قليلاً ) .
لقد كان أهم ما يعني به الإمام ( عليه السلام ) لزوم الإنفاق على تطوير الاقتصاد العام ، حتى لا يبقى أي شبح للفقر والحرمان في البلاد .
3 – عدم الاستئثار بأي شيء من أموال الدولة ، فقد تحرج الإمام ( عليه السلام ) فيها كأشد ما يكون التحرّج .
وقد أثبتت المصادر الإسلامية بوادر كثيرة من احتياط البالغ فيها ، فقد وفد عليه أخوه عقيل طالباً منه أن يمنحه الصلة ويُرَفّهُ عليه حياته المعاشية ، فأخبره الإمام ( عليه السلام ) أن ما في بيت المال للمسلمين ، وليس له أن يأخذ منه قليلاً ولا كثيراً ، وإذا منحه شيء فإنه يكون مختلساً .
وعلى أي حال فإن السياسة الاقتصادية التي تَبنّاها الإمام ( عليه السلام ) قد ثقلت على القوى المنحرفة عن الإسلام ، فانصرفوا عن الإمام وأهل بيته ( عليهم السلام ) ، والتحقوا بالمعسكر الأموي الذي يضمن لهم الاستغلال ، والنهب ، وسلب قوت الشعب ، والتلاعب باقتصاد البلاد .
ثانياً : السياسة الداخلية :
عنى الإمام ( عليه السلام ) بإزالة جميع أسباب التخلف والانحطاط ، وتحقيق حياة كريمة يجد فيها الإنسان جميع متطلبات حياته ، من الأمن والرخاء والاستقرار ، ونشير فيما يلي إلى بعض مظاهرها :
1 – المساواة : وتجسّدت فيما يأتي :
أ – المساواة في الحقوق والواجبات .
ب – المساواة في العطاء .
ج – المساواة أمام القانون .
وقد ألزم الإمام ( عليه السلام ) عُمّاله وَوُلاته بتطبيق المساواة بين الناس على اختلاف قوميّاتهم وأديانهم .
فيقول ( عليه السلام ) في بعض رسائله إلى عماله : ( واخفضْ للرعيّة جناحك ، وابسط لهم وجهك ، وأَلِنْ لهم جنابك ، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة ، والإشارة والتحية ، حتى لا يطمع العظماء في حيفك ، ولا ييأس الضعفاء من عدلك ) .
2 – الحرية :
أما الحرية عند الإمام ( عليه السلام ) فهي من الحقوق الذاتية لكل إنسان ، ويجب أن تتوفر للجميع ، شريطة أن لا تستغلّ في الاعتداء والإضرار بالناس ، وكان من أبرز معالمها هي الحُرّية السياسية .
ونعني بها أن تُتَاح للناس الحرية التامة في اعتناق أي مذهب سياسي دون أن تفرض عليهم السلطة رأيا معاكساً لما يذهبون إليه .
وقد منح الإمام ( عليه السلام ) هذه الحرية بأرحب مفاهيمها للناس ، وقد منحها لأعدائه وخصومه الذين تخلفوا عن بيعته .
فلم يجبرهم الإمام ( عليه السلام ) ، ولم يتخذ معهم أي إجراء حاسم كما اتخذه أبو بكر ضده حينما تَخلّف عن بيعته .
فكان الإمام ( عليه السلام ) يرى أن الناس أحرار ، ويجب على الدولة أن توفر لهم حريتهم ما دام لم يخلوا بالأمن ، ولم يعلنوا التمرد والخروج على الحكم القائم .
وقد منح ( عليه السلام ) الحرية للخوارج ، ولم يحرمهم عطاءهم مع العلم أنهم كانوا يشكلون أقوى حزب معارض لحكومته .
فلما سَعوا في الأرض فساداً ، وأذاعوا الذعر والخوف بين الناس انبرى إلى قتالهم حفظاً على النظام العام ، وحفظاً على سلامة الشعب .
ثالثاً : الدعوة إلى وحدة الأمة :
وجهد الإمام كأكثر ما يكون الجهد والعناء على العمل على توحيد صفوف الأمة ونشر الأُلفة والمحبة بين أبنائها .
واعتبر ( عليه السلام ) الأُلفة الإسلامية من نعم الله الكبرى على هذه الأمة .
فيقول ( عليه السلام ) : ( إنّ الله سبحانه قد امتَنّ على جماعة هذه الأمة فيما عقد بينهم من حبل هذه الأُلفة التي ينتقلون في ظلها ، ويأوون إلى كنفها ، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة ، لأنها أرجح من كل ثمن ، وأجلُّ من كل خطر ) .
فقد عنى الإمام ( عليه السلام ) بوحدة الأمة ، وتبنّي جميع الأسباب التي تؤدي إلى تماسكها واجتماع كلمتها ، وقد حافظ على هذه الوحدة في جميع أدوار حياته .
فقد ترك ( عليه السلام ) حَقّه وسَالَم الخلفاء صِيانة للأمة من الفرقة والاختلاف .
رابعاً : تربية الأمة :
لم يعهد عن أحد من الخلفاء أنه عنى بالناحية التربوية أو بشؤون التعليم كالإمام ( عليه السلام ) ، وإنما عنوا بالشؤون العسكرية ، وعمليات الحروب ، وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية ، وبسط نفوذها على أنحاء العالم .
وقد أولى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) المزيد من اهتمامه بهذه الناحية ، فاتخذ جامع الكوفة معهداً يلقي فيه محاظراته الدينية والتوجيهية .
وكان ( عليه السلام ) يشغل أكثر أوقاته بالدعوة إلى الله ، وإظهار فلسفة التوحيد ، وبَثّ الآداب والأخلاق الإسلامية مستهدفا من ذلك نشر الوعي الديني ، وخلق جيل يؤمن بالله إيمانا عقائدياً لا تقليدياً .
فقد كان الإمام ( عليه السلام ) المؤسس الأعلى للعلوم والمعارف في دنيا الإسلام ، وقد بذل جميع جهوده على إشاعة العلم ونشر الآداب والثقافة بين المسلمين ، وكان دوماً يذيع بين أصحابه قوله : ( سَلوني قَبلَ أن تفقدوني ، سَلوني عن طُرق السَّماء ، فإني أبصَرُ بها من طُرُق الأرض ) .
مركز آل البيت العالمي للمعلومات
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً