احتاط الإمام ( عليه السلام ) أشدّ ما يكون الاحتياط في الولاة والعمّال ، فلم يستعمل أحداً على قطر من الأقطار الإسلامية أو يعهد إليه بعمل إلا بعد إحراز الثقة بدينه ، والكفاءة بقدراته الإدارية .
ولم يستعمل ( عليه السلام ) أحداً مُحاباة ، وإنما استعمل خيار المسلمين ، أمثال مالك الأشتر ، ومحمد بن أبي بكر ، وسهل بن حنيف ، وحبر الأمة عبد الله بن عباس ، ونظرائهم من الذين توفّرت فيهم الخبرة التامة في شؤون الحكم والإدارة .
وقد زوّدهم ( عليه السلام ) برسائل مهمّة عرض فيها لشؤون الحكم وسياسة الدولة ، كما حدّد من صلاحياتهم ومسؤولياتهم .
وكان من أروع تلك الوثائق السياسية عهده ( عليه السلام ) لمالك الأشتر ، فقد حفل بتشريع ضخم لإصلاح الحياة السياسية والاقتصادية والعسكرية ، وهو أرقى وثيقة سياسية تهدف إلى ارتقاء المجتمع وتحقيق مصالحه .
مراقبة الولاة :
وكان ( عليه السلام ) يتفقّد شؤون ولاته وعمّاله ، ويرسل العيون لتحري أعمالهم ، فإن رأى منهم خيانة أو تقصيراً في واجبات أحد منهم عزله ، وأنزل به أقصى العقوبات .
وقد تحرّى ( عليه السلام ) كل بادرة تصدر من ولاته ، وقد بلغه أن عامله على البصرة قد دعي إلى وليمة قوم من أهلها ، فكتب إليه يلومه على ذلك .
وقد جاء في رسالته ( عليه السلام ) لابن حنيف : ( أما بعد : يا بن حنيف ، فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة ، فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك الجنان ، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مَجفو ، وغَنيّهم مَدعو ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فَالفُظْهُ ، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه ) .
إقصاء الانتهازيّين :
ولم يقرّب الإمام ( عليه السلام ) أحداً من الانتهازيين الذين لا يخلصون للحق ، وإنما يسعون وراء أطماعهم ومصالحهم ، ولا يفقهون المصالح العامة ، فإنهم عون للسلطة على الباطل لا على العدل .
وكان المجتمع الكوفي يضم طائفة كبيرة منهم كالأشعث ، وعمرو بن حريث ، وشبث بن ربعي ، وأمثالهم من الذين ضربت مصالحهم في عهد الإمام ( عليه السلام ) .
فاتصلوا بحكومة دمشق ، وقاموا بدور العمالة لها ، فراحوا يعقدون المؤامرات لإفساد جيش الإمام ( عليه السلام ) وشعبه ، مستهدفين من ذلك الإطاحة بحكومته .
وقد كانوا – فيما يقول المؤرّخون – قادة الجيش الذي اقترف أبشع جريمة في التاريخ ، وهي قتل سيد الشهداء الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، فقد أيقنوا أنه إذا اسْتَتَبّ له الأمر فإنه سيدمّر مصالحهم .
فإن سياسته ( عليه السلام ) إنما هي امتداد لسياسة أبيه ( عليه السلام ) التي لا ظل فيها للخونة والمجرمين .
إبعاد الطامعين :
ويرى الإمام ( عليه السلام ) أن الإمارة وسيلة من وسائل الإصلاح الاجتماعي ، ولا يجوز أن تمنح إلا للمتحرّجين في دينهم ، والذين لا يخضعون للرغبات والأهواء ، ويجب أن تُستغلّ لتحقيق ما ينفع الناس ، فلا يجوز أن تمنح مُحاباة .
يقول الإمام ( عليه السلام ) في رسالته لقاضيه رفاعة بن شدّاد : ( واعلم يا رفاعة ، أن هذه الإمارة أمانة ، فمن جعلها خيانة فعليه لعنة الله إلى يوم القيامة ، ومن استعمل خائناً فإن محمدا ( صلى الله عليه وآله ) بريء منه في الدنيا والآخرة ) .
وكان ( عليه السلام ) إذا شعر من أحد أن له ميل أو هوى في الإمارة فلا يرشحه لها ، لأنه يتخذ الحكم وسيلة لتحقيق مآربه وأطماعه .
ولما أعلن طلحة والزبير عن رغبتهما المُلحّة في الولاية امتنع ( عليه السلام ) عن إجابتهما .
الصراحة والصدق :
والشيء البارز في سياسة الإمام ( عليه السلام ) هو التزام الصراحة والصدق في جميع شؤونه السياسية ، فلم يوارب ، ولم يخادع ، وإنما سلك الطريق الواضح الذي لا التِواء فيه ، وسار على منهج ابن عمه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ومضى على طريقته ، وواكب جميع خطواته .
ولو أنه التزم بالأعراف السياسية التي تبيح وسائل الغدر والنفاق في سبيل الوصول إلى الحكم لما آلت الخلافة إلى عثمان .
فقد ألَحّ عليه عبد الرحمن بن عوف أن يبايعه شريطة أن يسير على سيرة الشيخين ، فامتنع ( عليه السلام ) من إجابته ، وصارحه ( عليه السلام ) أنه يسيّر الأمة على ضوء كتاب الله الذي وعاه ، وعلى ضوء سنة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وليس غيرهما رصيد يعتمد عليه في عالم التشريع ، والسياسة في الإسلام .
فيقول ( عليه السلام ) : ( لولا أن المكر والخداع في النار لكنتُ أمكر الناس ) .
وأنكر ( عليه السلام ) على من قال فيه أنه لا دراية له بالشؤون السياسية ، وأن معاوية خبير بها ، فقال ( عليه السلام ) : ( والله ما معاوية بِأَدهَى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ) .
وتحدّث ( عليه السلام ) عن الوسائل المنكرة التي يعتمد عليها بعض الناس في سبيل الوصول إلى أهدافهم ، من الغدر وما شَاكَلَهُ من المكر والنفاق ، وأنكر على الذين يبرّرون هذه الوسائل ويصفونها بحسن الحيلة .
على هذا الخلق بنى الإمام ( عليه السلام ) سياسته التي أضاءت في دنيا الإسلام ، وكان السبب في خلوده ( عليه السلام ) ، واعتِزَاز الإنسانية به في جميع الأجيال والآباد .
مركز آل البيت العالمي للمعلومات
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً