لمّا انصرف الإمام علي ( عليه السلام ) من صفّين كتب إلى ابنه الحسن ( عليه السلام ) كتاباً ، نذكر مقتطفات منه :
كتب ( عليه السلام ) : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، من الوالد الفاني ، المقر للزمان ، المدبر العمر ، المستسلم للدهر ، الذام للدنيا ، الساكن مساكن الموتى ، الظاعن عنها غداً ، إلى الولد المؤمّل ، ما لا يدرك السالك سبيل من قد هلك ، غرض الأسقام ، ورهينة الأيّام ، ورمية المصائب ، وعبد الدنيا ، وتاجر الغرور ، وغريم المنايا ، وأسير الموت ، وحليف الهموم ، وقرين الأحزان ، ورصيد الآفات ، وصريع الشهوات ، وخليفة الأموات .
أمّا بعد ، فإنّ فيما تبينت من ادبار الدنيا عنّي ، وجموح الدهر عليّ ، وإقبال الآخرة إليّ ، ما يزعني عن ذكر من سواي ، والاهتمام بما ورائي ، غير أنّي حيث تفرّد بي دون هم الناس هم نفسي ، فصدفني رأيي وصرفني عن هواي ، وصرح لي محض أمري ، فأفضى بي إلى جد لا يرى معه لعب ، وصدق لا يشوبه كذب ، وجدتك بعضي بل وجدتك كلّي ، حتّى كان شيئاً لو أصابك أصابني ، وحتّى كان الموت لو أتاك أتاني ، فعناني من أمرك ما يعنيني عن أمر نفسي ، فكتبت إليك كتابي ، هذا مستظهراً به إن أنا بقيت لك أو فنيت .
فأوصيك بتقوى الله يا بني ، ولزوم أمره ، وعمارة قلبك بذكره ، والاعتصام بحبله ، وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله جل جلاله إن أخذت به ، فأحي قلبك بالموعظة ، وأمته بالزهد ، وقوّه باليقين ، ونوّره بالحكمة ، وذلّله بذكر الموت ، وقرّره بالفناء ، وأسكنه بالخشية ، وأشعره بالصبر ، وبصّره فجائع الدنيا ، وحذّره صولة الدهر ، وفحش تقلّبه ، وتقلّب الليالي والأيّام .
وأعرض عليه أخبار الماضين ، وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوّلين ، وسر في ديارهم ، واعتبر آثارهم ، وأنظر ما فعلوا وأين حلّوا ونزلوا ، وعمّن انتقلوا ، فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة ، وحلّوا دار الغربة ، وكأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم ، فأصلح مثواك ، ولا تبع آخرتك بدنياك ، ودع القول فيما لا تعرف ، والنظر فيما لا تكلف ، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فإنّ الكف عند حيرة الضلالة خير من ركوب الأهوال ، وأمر بالمعروف تكن من أهله ، وأنكر المنكر بلسانك ويدك ، وباين من فعله بجهدك ، وجاهد في الله حق جهاده ، ولا تأخذك في الله لومة لائم .
وخض الغمرات إلى الحق حيث كان ، وتفقّه في الدين ، وعوّد نفسك التصبّر على المكروه ، فنعم الخلق الصبر ، والجأ نفسك في الأمور كلّها إلى إلهك ، فإنّك تلجئها إلى كهف حريز ، ومانع عزيز ، وأخلص في المسألة لربّك ، فإنّ بيده العطاء والحرمان ، وأكثر الاستخارة ، وتفهّم وصيتي ، ولا تذهبن عنك صفحاً ، فإنّ خير القول ما نفع ، واعلم أنّه لا خير في علم لا ينفع ، ولا ينفع ، ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه .
يا بُني إنّي لمّا رأيتني قَد بَلغت سِناً ، ورأيتني أزداد وهناً ، أردت بوصيتي إيّاك خصالاً منهن : إنّي خفت أن يعجل بي أجلي قبل أن أفضي إليك بما في نفسي ، وأن انقص في رأيي كما نقصت في جسمي ، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى ، وفتن الدنيا ، فتكون كالصعب النفور ، فإنّ قلب الحدث كالأرض الخالية ، ما القي فيها من شيء قبلته ، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ، ويشتغل لبّك لتستقبل بجد رأيك ما قد كفاك أهل التجارب بغيبة وتجربة ، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب ، وعوفيت من علاج التجربة ، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه ، واستبان لك ما أظلم علينا فيه … .
واعلم أنّ أمامك طريقاً ذا مشقّة ، بعيداً ، وهولاً شديداً ، وأنّك لا غنى بك عن حسن الارتياد ، وقدر بلاغك من الزاد مع خفّة الظهر ، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك ، فيكون ثقله وبالاً عليك ، وإذا وجدت من أهل الحاجة من يحمل لك ذلك فيوافيك به حيث تحتاج إليه تغتنمه ، واغتنم ما أقرضت من استقرضك في حال غناك ، وجعل قضاءه لك في يوم عسرتك ، وحمله إيّاه ، وأكثر من تزويده وأنت قادر عليه ، فلعلّك تطلبه فلا تجده ، واعلم أنّ أمامك عقبة كؤوداً لا محالة أن مهبطها بك على جنّة أو نار ، فارتد لنفسك قبل نزولك … .
واعلم يا بني أنّك خلقت للآخرة لا إلى الدنيا ، وللفناء لا للبقاء ، وأنّك لفي منزل قلعة ، ودار بلغة ، وطريق من الآخرة ، وأنّك طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه ، ولا يفوته طالبه ، وإيّاك أن توجف بك مطايا الطمع فتوردك مناهل الهلكة ، وإن استطعت ألا تكون بينك وبين الله تعالى ذو نعمة فافعل … .
يا بني فإن تزهد زهدتك فيه وتعزف نفسك عنها فهي أهل ذلك ، وإن كنت غير قابل نصيحتي إيّاك فيها ، فاعلم يقيناً أنّك لن تبلغ أملك ولا تعدو أجلك ، فإنّك في سبيل من كان قبلك ، فخفض في الطلب ، وأجمل في المكتسب ، فإنّه رب طلب قد جر إلى حرب ، وليس كل طالب بناج ، وكل مجمل بمحتاج ، وأكرم
نفسك عن دنية ، وإن ساقتك إلى الرغائب ، فإنّك لن تعتاض بما تبذل شيئاً من دينك ، وعرضك بثمن وإن جل ، ومن خير حظ امرأ قرين صالح ، فقارن أهل الخير تكن منهم ، وباين أهل الشر تبن عنهم .
لا يغلبن عليك سوء الظن فإنّه لا يدع بينك وبين صديق صفحاً ، بئس الطعام الحرام ، وظلم الضعيف أفحش الظلم ، والفاحشة كاسمها ، والتصبّر على المكروه يعصم القلب ، وإذا كان الرفق خرفاً كان الخرق رفقاً ، وربما كان الداء ودواء ، وربما نصح غير الناصح ، وغش المستنصح ، وإيّاك والاتكال على المنى ، فإنّها بضائع النوكى ، ومطل عن الآخرة والدنيا ، زك قلبك بالأدب كما يزكي النار بالحطب ، ولا تكن كحاطب الليل وغثاء السيل … .
واعلم يا بني أنّ الدهر ذو صروف ، فلا تكن ممّن يشتد لائمته ، ويقل عند الناس عذره ، ما أقبح الخضوع عند الحاجة ، والجفاء عند الغنى ، إنّما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك ، فأنفق في حق ولا تكن خازناً لغيرك ، وإن كنت جازعاً على ما تفلت من بين يديك ، فاجزع على كل ما لم يصل إليك ، واستدلل على ما لم يكن بما كان ، فإنّما الأمور أشباه ، ولا تكفر ذا نعمة ، فإنّ كفر النعمة من ألام الكفر ، واقبل العذر ولا تكونن ممّن لا ينتفع من الغطة ، إلاّ بما لزمه إزالته ، فإنّ العاقل يتّعظ بالأدب ، والبهائم لا يتّعظ إلاّ بالضرب .
اعرف الحق لمن عرفه لك ، رفيعاً كان أو ضيعاً ، واطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين ، من ترك القصد جار ، ونعم حظ المرء القنوع ، ومن شر ما صحب المرء الحسد ، وفي القنوط التفريط ، والشح يجلب الملامة ، والصاحب مناسب ، والصديق من صدق غيبة ، والهوى شريك العمى ، ومن التوفيق الوقوف عند الحيرة ، ونعم طارد الهموم اليقين ، وعاقبة الكذب الندم ، وفي الصدق السلامة ، ورب بعيد أقرب من قريب ، والغريب من لم يكن له حبيب ، لا يعدمك من شفيق سوء الظن ، ومن حم ظمئ ، ومن تعدّى الحق ضاق مذهبه ، ومن اقتصر على قدره كان أبقى له ، نعم الخلق التكرّم ، وألام اللؤم البغي عند القدرة ، والحياء سبب إلى كان جميل ، وأوثق العرى التقوى ، وأوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين الله .
سرّك من أعتبك ، والأفراط في الملامة يشب نيران اللجاجة ، كم من دنف قد نجا ، وصحيح قد هوى ، وقد يكون اليأس إدراكاً إذا كان الطمع هلاكاً ، وليس كل عورة تظهر ، ولا كل فريضة تصاب ، وربما أخطأ البصير قصده ، وأصاب الأعمى رشده ، وليس كل من طلب وجد ، ولا كل من توفّى نجا ، أخّر الشر فإنّك إذا شئت تعجلته ، وأحسن إن أحببت أن يحسن إليك ، واحتمل أخاك على ما فيه ، ولا تكثر العتاب فإنّه يورث الضغينة ، واستعتب من رجوت عتباه ، وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل ، ومن الكرم منع الحزم ، ومن كابر الزمان عطب ، ومن ينتقم عليه غضب ، ما أقرب النقمة من أهل البغي ، وأخلق بمن غدر أن لا يوفى له ، زلة المتوفي أشد زلة ، وعلّة الكذب أقبح علّة ، والفساد يبير الكثير ، والاقتصاد ينمى اليسير ، والقلّة ذلّة .
وبر الوالدين من أكرم الطباع ، والمخافة شر يخاف ، والزلل مع العجل ، ولا خير في لذّة تعقب ندماً ، العاقل من وعّظته التجارب ، ورسولك ترجمان عقلك ، والهدى يجلو العمى ، وليس مع الخلاف ائتلاف ، من خيّر خواناً فقد خان ، لن يهلك من اقتصد ، ولن يفتقر من زهد ، ينبئ عن امرء دخيله ، رب باحث عن حتفه ، لا يشوبن بثقة رجاء ، وما كل ما يخشى يضر ، ولرب هزل قد عاد جدّاً ، من أمن الزمان خانه ، ومن تعظّم عليه أهانه ، ومن ترغّم عليه أرغمه ، ومن لجأ إليه أسلمه ، وليس كل من رمى أصاب ، وإذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان ، خير أهلك من كفاك ، المزاح تورث الضغائن ، أعذر من اجتهد ، وربما أكدى الحريص .
رأس الدين صحّة اليقين ، تمام الإخلاص تجنّب المعاصي ، خير المقال ما صدقه الفعال ، السلامة مع الاستقامة ، والدعاء مفتاح الرحمة ، سل عن الرفيق قبل الطريق ، وعن الجار قبل الدار ، وكن عن الدنيا على قلعة ، احمل من أدل عليك ، واقبل عذر من اعتذر إليك ، وخذا العفو من الناس ، ولا تبلغ من أحد مكروهاً ، وأطع أخاك وإن عصاك ، وصله وإن جفاك ، وعوّد نفسك السماح ، وتخيّر لها من كل خلق أحسنه ، فإنّ الخير عادة .
وإيّاك أن تكثر من الكلام هذراً ، وأن تكون مضحكاً ، وإن حكيت ذلك عن غيرك ، وأنصف من نفسك … وإيّاك أن تعاتب فيعظم الذنب ويهون العتب ، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً ، وما خير بخير لا ينال إلاّ بشر ، ويسر لا ينال إلاّ بعسر ، وإيّاك أن توجف بك مطايا الطمع ، وإن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل ، فإنّك مدرك قسمك وآخذ سهمك ، وإن اليسير من الله أكرم وأعظم من الكثير من خلقه ، وإن كان كل منه ، فان نظرت – فلله المثل الأعلى – فيما تطلب من الملوك ومن دونهم من السفلة ، لعرفت أن لك في يسير ما تصيب من الملوك افتخاراً ، وإن عليك في كثير ما تطلب من الدناة عاراً ، إنّك ليس بايعاً شيئاً من دينك وعرضك بثمن ، والمغبون من غبن نفسه من الله ، فخذ من الدنيا ما آتاك .
وتول عمّا تولّى عنك ، فإن أنت لم تفعل فأجمل في الطلب ، وإيّاك ومقاربة من رهبته على دينك وعرضك ، وباعد السلطان لتأمن من خذع الشيطان ، وتقول : متى أرى ما أنكر نزعت ، فإنّه هكذا هلك من كان قبلك ، إن أهل القبلة قد أيقنوا بالمعاد ، فلو سمت بعضهم ببيع آخرته بالدنيا لم تطب بذلك نفساً ، وقد يتخيّله الشيطان بخدعه ومكره حتّى يورطه في هلكة بعرض من الدنيا يسير حقير ، وينقله من شئ إلى شئ حتّى يؤيسه من رحمة الله ، ويدخله في القنوط ، فيجد الراحة إلى ما خالف الإسلام وأحكامه ، فإن نفسك أبت إلاّ حب الدنيا وقرب السلطان ، فخالفتك إلى ما نهيتك عنه ممّا فيه رشدك ، فأملك عليه لسانك ، فإنّه لا ثقة للملوك عند الغضب ، فلا تسأل عن أخبارهم ، ولا تنطق بأسرارهم ، ولا تدخل فيما بينهم ) .
مركز آل البيت العالمي للمعلومات
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً