110.ومن خطبة له عليه السلام
أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرِةٌ، حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، وَتَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ، وَرَاقَتْ بِالْقَلِيلِ، وَتَحَلَّتْ بِالاَْمَالِ، وَتَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ، لا تَدُومُ حَبْرَتُهَا
(1) وَلاَ تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا، غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ، حَائِلَةٌ (2) زَائِلَةٌ، نَافِدَةٌ (3) بَائِدَةٌ
(4) أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ (5) لاَ تَعْدُوـ إِذَا تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا والرضى بِهَا ـ أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى: (كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّماَءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاََْرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً (6) تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) .
لَمْ يَكُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبْرَةٍ إِلاَّ أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةً (7) وَلَمْ يَلْقَ منْ سَرَّائِهَا بَطْناً (8) إِلاَّ مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً (9) وَلَمْ تَطُلَّهُ (10) فِيهَا دِيمَةُ
(11) رَخَاءٍ (12) إِلاَّ هَتَنَتْ (13) عَلَيهِ مُزْنَةُ بَلاَءٍ! وَحَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أَنْ تُمْسِيَ لَهُ مُتَنَكِّرَةً، وَإِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ وَاحْلَوْلَى، أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى (14)
لاَ يَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا (15) رَغَباً (16) إِلاَّ أَرْهَقَتْهُ (17) مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً! وَلاَ يُمْسِي مِنْهَا فِي جَنَاحِ أَمْنٍ، إِلاَّ أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ (18) خَوْفٍ! غَرَّارَةٌ، غُرُورٌ مَا فِيهَا، فَانِيَةٌ، فَانٍ مَنْ عَلَيْهَا، لاَ خَيْرَ في شَيْءٍ مِنْ أَزْوَادِهَا إِلاَّ التَّقْوَى.
مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ! وَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُهُ (19) وَزَالَ عَمَّا قَلِيلٍ عَنْهُ.
كُمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ، وَذِي طُمَأْنِينَةٍ إِلَيْهَا قَدْ صَرَعَتْهُ، وَذِي أُبَّهَةٍ (20) قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِيراً، وَذِي نَخْوَةٍ(21) قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِيلاً!
سُلْطَانُهَا دُوَّلٌ (22) وَعَيْشُهَا رَنِقٌ (23) وَعَذْبُهَا أُجَاجٌ (24) وَحُلْوُهَا صَبِرٌ (25) وَغِذَاؤُهَا سِمَامٌ (26)وَأَسْبَابُهَا رِمَامٌ (27) حَيُّهَا بِعَرَضِ مَوْتٍ، وَصَحِيحُهَا بَعَرَضِ سُقْمٍ! مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ، وَعَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ، وَمَوْفُورُهَا (28) مَنْكُوبٌ، وَجَارُهَامَحْرُوبٌ (29).
أَلَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً، وَأَبْقَى آثَاراً، وَأَبْعَدَ آمَالاً، وَأَعَدَّ عَدِيداً، وَأَكْثَفَ جُنُوداً! تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ، وَآثَرُوهَا أَيَّ إِيثَارٍ، ثُمَّ ظَعَفُوا عَنْهَا بَغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ وَلاَ ظَهْرٍ قَاطِعٍ (30) .
فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَةٍ (31) أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ؟ أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً؟ بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بَالْفَوَادِحِ (32) وَأوْهَنَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ (33) وَضَعْضَعَتْهُمْ (34) بِالنَّوَائِبِ، وَعَفَّرَتْهُمْ (35) لِلْمَنَاخِرَ، وَوَطِئَتْهُمْ بَالْمَنَاسِمِ (36) وَأَعَانَتْ عَلَيْهِمْ (رَيْبَ الْمَنُونِ) ، فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا (37) وَآثَرَهَا وَأَخْلَدَ إِلَيْهَا(38) حِينَ ظَعَنُوا عَنْهَا لَفِرَاقِ الاََْبَدِ.
هَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلاَّ السَّغَبَ (39) أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلاَّ الضَّنْكَ (40) أوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلاَّ الظُّلْمَةَ؟ أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلاَّ النَّدَامَةَ؟
أَفَهذِهِ تُؤْثِرُونَ؟ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ؟ أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ؟ فَبِئْسَتِ الدَّارُ لَمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا!
فَاعْلَمُوا ـ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ـ بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَظَاعِنُونَ عَنْهَا، وَاتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ (قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) : حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَلاَ يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً (41) وَأُنْزِلُوا [الاََْجْدَاثَ (42) فَلاَ يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً، وَجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ (43) أَجْنَانٌ
(44) وَمِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ، وَمِنَ الرُّفَاتِ (45) جِيرَانٌ، فَهُمْ جِيرَةٌ لاَ يُجِيبُونَ دَاعِياً، وَلاَ يَمْنَعُونَ ضَيْماً، وَلاَ يُبَالُونَ مَنْدَبَةً، إِنْ جِيدُوا (46) لَمْ يَفْرَحُوا، وَإِنْ قُحِطُوا لَمْ يَقْنَطُوا، جَمِيعٌ وَهُمْ آحَادٌ، وَجِيرَةٌ وَهُمْ أَبْعَادٌ، مُتَدَانُونَ لاَ يَتَزَاوَرُونَ، وَقَرِيبُونَ لاَ يَتَقَارَبُونَ، حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ، وَجُهَلاءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ، لاَ يُخْشَى فَجْعُهُمْ (47) وَلاَ يُرْجَى دَفْعُهُمْ، اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الاََْرْضِ بَطْناً، وَبِالسَّعَةِ ضِيقاً، وَبِالاََْهْلِ غُرْبَةً، وَبِالنُّورِ ظُلْمَةً، فَجَاؤُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا، حُفَاةً عُرَاةً، قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى الْحَيَاةِ الْدَّائِمَةِ وَالدَّارِ الْبَاقِيَةِ، كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّافَاعِلِينَ) .
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً