بمناسبة الذكرى السنوية لرحيل سماحة آية الله الشيخ محمد الهاجري (رحمه الله) ننشر نص كلمة سماحة الشيخ حسن الصفار التي ألقاها في ختام مجلس عزاء آية الله الهاجري في الحسينية المحمدية بالهفوف – الأحساء بتاريخ 28 رجب 1425هـ.
وفيما يلي نص الكلمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، صلى الله عليك يا رسول الله وعلى آلك الطيبين الطاهرين.
ورد عن إمامنا السبط الشهيد أبي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه قوله: (إن مجاري الأمور والأحكام بيد العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه ).
ليس غريباً ما عاشته المنطقة، وما شهدته الساحة الإسلامية من تفاعلات وأصداء برحيل فقيدنا الغالي فقيد العلم والدين والوطن سماحة آية الله الشيخ محمد الهاجري ( قدس الله نفسه الزكية )، هذا التفاعل الكبير في مختلف البلدان والأقطار على الصعيد الرسمي والشعبي حيث اهتمت الحكومة عبر اتصال سمو ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز للتعزية بوفاته وعبر البرقيات التي جاءت من سمو أمير المنطقة الشرقية وبقية المسؤولين، وأيضاً البيانات والبرقيات التي أرسلت من المراجع العظام في مختلف الحوزات العلمية، وكذلك مجالس العزاء والتأبين التي أقيمت في مختلف البلدان، في إيران، و سوريا والقطيف و البحرين والكويت وسائر المناطق.
إن هذا التفاعل وهذه الأصداء تعكس تقدير الأمة لعلمائها، وفيه دلالة كبيرة على ما كان يتمتع به هذا الشيخ الجليل من محبة ومكانة في قلوب المؤمنين، وهو يستحق كل ذلك وأكثر، رحمة الله عليه، فبرحيله خسرنا خسارة كبيرة وفجعنا بفاجعة عظيمة، ولكن لا نملك إلا أن نقول إنا لله وإنا إليه راجعون، وأن نرفع أكف الدعاء والضراعة إلى الله أن يخلف علينا وعلى الأمة وعلى الدين بالخلف الصالح إن شاء الله، كما لا يسعني إلا أن أبدي تقديري لهذه المشاعر الإيمانية الجياشة.
إن هذا الاهتمام الذي شهدناه عند أبناء الأحساء بمختلف شرائحهم وطوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم في مجالس عزاء الشيخ الفقيد، فيه دلالة كبيرة على ما تتمتع به هذه المنطقة وهذا المجتمع من طيب في النفس، ومن ولاءٍ للدين، ومن تقديرٍ للعلم والعلماء، فجزاكم الله جميعاً خيرا، أثبتم أن تربية الشيخ وأن توجيه الشيخ وأسلافه من العلماء لم تذهب هدرا، فأنتم والحمد لله ولاؤكم لدينكم، واهتمامكم بعلمائكم دليل على تأثير تلك التربية وذلك التوجيه، فجزاكم الله خيرا، وزادكم إيماناً وتوفيقاً.
ولأن الوقت محدود والجمع رهيب، والمناسبة هامة، سأسعى إلى اختصار الحديث، وسأتحدث عن جانبين:
– الجانب الأول: فيما يرتبط بشخصية الشيخ الفقيد ( رحمة الله عليه ) .
– والجانب الثاني: فيما يرتبط بمرحلة ما بعد الشيخ الفقيد .
• في الجانب الأول: لاشك إنكم سمعتم خلال مجالس العزاء من الخطباء وهم يتحدثون عن مكانة هذا الرجل. وقرأتم بيانات المراجع والعلماء في الإشادة بعلمه وفضله.
إن من المؤسف جداً أن لا تكشف صفات العظماء في مجتمعاتنا وأن لا يتحدث عن مزاياهم ومناقبهم إلا بعد رحيلهم، ففي حياتهم عادة ما يكون هناك تقصير أو تحفظ، وأعلامنا -وخاصة هنا في الأحساء وهذه شهادة لله- فيهم علماء لديهم مكانة علمية عظيمة عميقة ولكن التواضع الذي يسيطر على نفوسهم، والزهد والورع الذي يحكم أخلاقهم وحياتهم عامل من العوامل التي تجعل مكانتهم ومناقبهم وصفاتهم غير واضحة ولا يتحدث عنها.
أتحدث عن ثلاث نقاط في حياة الشيخ الفقيد:
1- النقطة الأولى / الجانب العلمي: تتمتع شخصية الشيخ الفقيد بالعمق العلمي والفقهي ، فقد كان هذا الرجل مشتغلاً طول حياته بالعلم، دراسة ومباحثة وتدريساً.
ففي منتصف العقد الثاني من عمره بدأ دراسة العلوم الدينية، وما إن أتم العقد الثاني حتى ألتحق بالحوزة العلمية في كربلاء، واستمر إلى نهاية حياته المباركة، واحد وثمانين سنة و هو عاكف مهتم بالعلم والفقه والدين.
إن إشادات العلماء بمكانته العلمية أمرٌ واضح، فالرجل فقيه مجتهد مسلمٌ له بالفقاهة والاجتهاد، والمجتهدون على رتبٍ و مستويات، والعلماء الذين يعرفون فضل الشيخ يتحدثون عن مرتبة متقدمة في علميته وفقاهته، وكذلك تلامذته ومجالسوه وزملاؤه.
أحد العلماء وهو سماحة الشيخ محمد هادي معرفة (حفظه الله ) وهو فقيه، -معاصر- في حوزة قم العلمية ومهتم بالدراسات القرآنية، له كتاب ( التمهيد في علوم القرآن ) في عدة مجلدات وتلخيصه يُدّرس في الحوزة العلمية – تلخيص التمهيد- وهو عالم متمكن في مجالات مختلفة من العلوم، يقول: كنا نحضر بحث المرحوم آية الله العظمى الشيخ يوسف الخرساني ( رحمة الله عليه ) في كربلاء وكان الشيخ الهاجري يحضر هذا البحث، لم تكن هناك مسجلات، وأدوات ضبط للدرس، ففي بعض الأحيان بعد الدرس يفوت بعضنا بعض المطالب يريد أن يكتبها فلا نتذكر بالضبط بعض المطالب، أو بعض النقاط التي أثارها الأستاذ في درسه، ولكننا كنا مطمئنين، لأن الشيخ الهاجري كان معنا في الدرس، نتحلق حوله، نسأله عن بعض النقاط في الدرس، عن بعض المطالب، فنجد أن حافظة الشيخ وذاكرته كانت حاضرة، كان مستوعباً للمطلب وأكثر من ذلك، ما كان فقط يذكرنا بما طرحه الشيخ الأستاذ، وإنما كان يضيف إلى ذلك مطالب، يقول: ذكر الشيخ في بحثه هذه النقطة ولكن يمكن أن يرد عليه كلامٌ وهو كذا، والجواب عليه كذا، ممكن أن يناقش في كذا، ويرد عليه بكذا، فكأننا ندخل بحث خارجٍ جديد مع الشيخ، وهو يذكرنا بالمطالب التي تحدث بها أستاذه.
ويقول آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي ( حفظه الله ) أيضاً في مكالمة تلفونية قدمت خلالها له التعازي برحيل الشيخ الفقيد، فكان يتحدث لي عن تواضع الشيخ وعلمه، وكيف أنه حينما يطلب منه احد الفضلاء درساً يقول أنا أتباحث معكم، أنا أقبل أن يكون مجلس مباحثة معكم، وقد سمعت مراراً وتكراراً من المرجع السيد محمد الشيرازي قدس سره الإشادة بفقاهة الشيخ الهاجري وإخلاصه وكذلك من آية الله السيد صادق الشيرازي وآية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي وآية الله السيد محمد تقي المدرسي. وهؤلاء الأعلام الثلاثة حضروا مجلس درسه في كربلاء، وكلهم كانوا يتحدثون عن مدى عمق فقهية الشيخ وعلميته، وكانوا يتحدثون عن ذكاء غير عادي عنده وعن استيعاب كبير لقضايا الفقه والأصول، فقد يلفت الأنظار بأنه حينما يتحدث حول أي مسألة أو يُسأل عن أي مسألة وخاصة إذا كان السائل من الفضلاء فإنه لا يكتفي بذكر الجواب على المسألة فقط، وإنما يتحدث عن أدلتها.
وينقل العلامة الشيخ فرج العمران (رحمة الله عليه)، في كتابه الأزهار الأرجية بعض المشاهد، وكيف أن الشيخ في كل مجلس من مجالسه كان يطرح مسألة من المسائل الفقهية العويصة، وقد طرح في أحد المجالس وكان فيه مجموعة من العلماء والفضلاء المسألة التالية: هل هناك صورة في الفقه فيما يرتبط بالإرث أن البنت ترث نصف ما يتركه الأب من دون زيادة أو نقصان؟ الحاضرون في المجلس قالوا لا يمكن وجود صورة ينطبق فيها هذا الحكم، ولكنّ الشيخ قال بلى توجد هناك ثلاث صور في هذه المسألة وبدأ يفصل ويشرح الصور الثلاث.
وأتذكر حينما زارنا في سوريا عند مقام السيدة زينب صلوات الله وسلامه عليها قبل خمسة عشر عاماً تقريباً حيث كنا مقيمين هناك، بعد طلبٍ ملحٍ عليه وافق أن نعمل احتفاء به ونقيم دعوة على شرفه للعلماء والفضلاء من مختلف مكاتب المراجع ومن الحوزات العلمية، في البداية كان يرفض ولم يكن يقبل، بعد ذلك وافق، وفي حسينية الزهراء عملنا وجبة عشاء ودعونا العلماء، قبل المأدبة بدأ الشيخ يتكلم ويطرح بعض المسائل الفقهية والأصولية، وبعد المجلس أبدى المدرسون في الحوزة العلمية وبعضهم يُدّرس بحث الخارج انبهارهم من ذكاء الشيخ وفطنته، ومن استحضار الشيخ للمباني الأصولية، والأدلة القرآنية، والأحاديث والروايات، أتذكر في تلك السفرة، ذهب يوماً إلى مقام السيدة زينب عليها السلام للزيارة، وبعد ذلك إلتقيناه في مجلس فجاء أحد العلماء الفضلاء، و قال له شيخنا: بعثني العالم الفلاني حتى أقول لك إن المسألة التي طرحتها عليه وأجابك عليها، حينما عاد إلى المنزل فكّر فيها، وتبين له أن الجواب هو كذا وكذا، لأنه في الحرم لم يكن جامعاً لفكره وذهنه، فسألنا الشيخ، فقال إنه في مقام السيدة زينب عليها السلام، كان إلى جانبه أحد العلماء الأجلاء فتصافحا وتعانقا، وجلسا برهة فاغتنم الشيخ الفرصة وطرح عليه مسألة ويبدو أن ذلك الفاضل لم يكن مستحضراً لأدلة المسألة، فكان جوابه ليس متيناً، فلما عاد إلى منزله وراجعها بعث إلى الشيخ من ينقل تصوره، وهذا دليل على أن الرجل (الشيخ الهاجري) كان يعيش هم العلم والفقه في كل لحظة، وفي كل مجلس ومع أي عالم يحاول أن يطرح مسألة علمية، ولعلكم سمعتم كثيراً تأكيده ووصيته الدائمة لطلاب العلوم الدينية لي ولأمثالي الاهتمام بالعلم، وهو كان نموذجاً حتى حينما تحمل أعباء المحكمة، لا يغادر منزله إلى المحكمة إلا بعد إلقاء الدرس يومياً أول الصباح، هذا التواصل العلمي وهذا العشق للعلم، وهذه الروحية العالية، ينبغي الإشادة بها والاقتداء بها.
2. النقطة الثانية/ أخلاق الشيخ وتواضعه:
لقد كان الشيخ يحترم الكبير والصغير، ولقد رأيت شخصياً مواقف كثيرة من الشيخ الفقيد تدل على تواضعه ورعايته، أذكر موقفاً واحداً من المواقف، فقبل سنوات جئت إلى الأحساء عند وقت صلاة الظهر، فذهبت فوراً إلى المسجد، وبدأت أصلي ركعتي تحية المسجد ومعي بعض الإخوان، في هذه الأثناء دخل سماحة الشيخ إلى المسجد، وتوجه إلى المحراب، كان في بالي بعد الانتهاء من الصلاة أن أذهب وأتشرف بالسلام عليه ومصافحته، لكن أحد الإخوة قال له: أن جماعة من القطيف فلان وفلان جاءوا إلى المسجد، فقام من محرابه يشق الصفوف باتجاهنا، خجلت.. من أنا ؟ وماذا أكون ؟ فما أنا إلا ولدٌ من أولاده، أو حفيد من أحفاده، وطالب صغير من طلاب العلوم الدينية، يقوم من محرابه ويشق الصفوف حتى يصافحنا ويحتفي بنا؟! هذا دلالة على صدر واسع وأخلاق عالية، دلالة على تواضع كبير، هكذا يجب أن يكون العالم، أو ما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه: ( ثمرة العلم التواضع )، ( من تواضع لله رفعه ) وبالفعل.. ما هذا التفاعل والأصداء لوفاته ورحيله إلا مصداق ومظهر من مظاهر رفعة الله تعالى لهذا الشيخ الجليل وإن شاء الله مقامه في الجنة يكون أرفع.
3. النقطة الثالثة/ من صفات الشيخ اهتمامه بالشأن العام:
بالشأن الاجتماعي والشأن الوطني مع اهتمامه بالجانب العلمي، وما تصديه للمحكمة وتحمله لأعباء القضاء إلا مثال لهذه الروحية التي كان يمتلكها. وحينما تحمل أعباء المحكمة لم يكن في ريعان شبابه بل كان في سن متقدمة، قبل إحدى عشر عاماً، وقد كان يعاني من بعض الأمراض والحالات الجسمية، لماذا تصدى لهذه المهمة والمسؤولية؟ مع أنه لم يكن راغباً للتصدي، ولكن إحساسه بالمسؤولية وشعوره بالواجب تجاه الوطن وتجاه الدين والمجتمع هو الذي دفعه لكي يتحمل هذه المسؤولية وهذه الأعباء.
إن التصدي للمحكمة وللقضاء فيه أعباء ومشاق خاصة بالنسبة لإنسانٍ ورع يريد أن يضع الحقوق في مواقعها، وبالنسبة لإنسانٍ لا يبحث عن المناصب والمظاهر، فقد كان يتحمل كل ذلك بصدر رحب، ففي المحكمة يأتي الجاهل والمنفعل، ويأتي أصحاب المشاكل والنزاعات، هكذا طبيعة الوضع في المحكمة، وطالما كان يعاني ويعاني، والمشكلة أن البعض من الناس إذا رأى أن حكم القاضي ليس في صالحه لا يقبل، وربما يتجرأ على مقام الشيخ، وفي الخارج يتكلم على الشيخ، كل ذلك مع وجود توجيهات وتعاليم دينية، كما في الحديث الوارد المروي عن الإمام جعفر الصادق صلوات الله وسلامه عليه: ( فإذا حكم – أي القاضي – بحكمنا فإن الراد عليه مستخف بحكم الله تعالى ويكون كالراد علينا والراد علينا كالراد على الله وعلى رسوله وهو على حد الشرك بالله ) لكن قسماً من الناس إذا لم يكن الحكم لصالحه ينزعج ويتجرأ ويتكلم، فمن الطبيعي أي دعوةٍ يكون فيها طرفان إما أن تكون هناك مصالحة وهذا ما كان ينتهجه الشيخ غالباً، وفي بعض الأحيان يحتاج الأمر إلى حسم وتقرير أن الحق لهذا الطرف أو لذاك الطرف، وهنا تأتي المشكلة، ولكن سماحة الشيخ تحمل هذه الأعباء وهذه المشاق، وعانى كثيراً، فقد زرته بعض المرات في المحكمة وعايشت بعض معاناته، لكنّ إحساسه بالمسؤولية هو الذي دفعه للتصدي لهذا الموقع، وكان يتواصل مع المسؤولين في الدولة من أجل أن يوصل إليهم مطالب المجتمع وحاجات الناس، مرات عديدة سماحته يذهب إلى إمارة المنطقة الشرقية في الدمام، ويذهب إلى المسؤولين في الرياض، ويتحدث عن بعض المشاكل والمطالب، وهو بذلك يخدم الوطن ويخدم المجتمع ويخدم الدولة، فمن صالح الدولة أن تُعالج قضايا المواطنين، وعندما تقدم عرائض أو رسائل للمسئولين في الدولة حول أوضاع المجتمع وأوضاع المنطقة كانت تعرض على سماحة الشيخ، فكان الشيخ يوجه ويبدي ملاحظته ويرّشد هذا التحرك، وما كان يتردد في التوقيع على أي خطاب أو رسالة موجهة للمسؤولين، طالما كان فيها مصلحة للناس، ودفاع عن قضاياهم، وما دام فيها النصيحة للجهات المعنية، هذا التصدي مسألة مهمة، لأنه من صالح الوطن أن يكون هناك تواصل بين المواطنين وبين المسؤولين، فهناك بعض المشاكل لدى الناس، قد لا يكون المسؤول يعرف المشكلة أو أبعادها، وخاصة القيادات العليا في الدولة، لا يفيد أن نجلس في مجالسنا ونتذمر، لماذا لم تحل هذه المشكلة؟ لماذا لم تعالج هذه القضية ؟ لماذا الدولة لم تعمل كذا ؟ لماذا لم تفعل كذا ؟ فالطريق الصحيح أن نوصل قضايانا إلى المسؤولين وأن نتحدث عن مشاكلنا معهم، والباب مفتوح خاصة لأمثال سماحة الشيخ ولرجالات المجتمع المخلصين.
وقد كان سماحة الشيخ يقوم بهذا الدور وهو دورٌ هام، ولعل الكثيرين من الناس لا يعرفون عن عدد الرسائل والعرائض التي وقعها سماحة الشيخ ورفعها، وآخرها فيما يرتبط بموضوع التنظيم الجديد في محكمة الأوقاف والمواريث، فقد صرف سماحة الشيخ جهداً، وقد كان مهتما حيث لاحظ وتابع ما كُتب، وقد التقى وزير العدل، ولكن هذه الأمور في كثيرٍ من الأحيان لا تُعلن ولا ينُشر عنها. وبهذه المناسبة يهمني أن أشير أنه من أوائل الموقعين على وثيقة (شركاء في الوطن) التي قدمت لسمو ولي العهد وتتناول شأن المجتمع وقضاياه وما يشكو منه للمسؤولين بطرح وطني شامل.
• انتقل للفقر الثانية: ما بعد الشيخ:
غادرنا الشيخ وفجعنا بفقده، وترك فراغاً كبيراً، وانثلمت في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء كما ورد في الحديث، ولكن على العلماء والفضلاء والمخلصين في المجتمع أن يسعوا لملئ هذا الفراغ، لتحمل المسؤوليات والأعباء وأتحدث عن نقاط ثلاثة باختصار .
نحن نأمل أن علماءنا وفضلاءنا في الحوزة العلمية يكون جدهم ونشاطهم أكبر في تنمية الحالة العلمية والفقهية في المنطقة، حيث لا يكفينا وجود علماء فضلاء وخطباء، نحن بحاجة إلى فقهاء ومجتهدين، يجب أن نعيد العصور الماضية للأحساء فقد كانت فيها حركة علمية قوية وكبيرة، حتى أن بعض المناطق والقرى في الأحساء كانت عواصم وحوزات علمية، فكم أنتجت من العلماء المجتهدين، فالأحساء بلاد خصبة، ومجتمعها أنجب علماء مجتهدين وفقهاء عباقرة, وإذا كانت الظروف التي مرت في الفترات السابقة يشوبها بعض العراقيل وبعض الصعوبات لمختلف الأسباب، فإن الظروف الآن مهيأة، واليوم عندنا حوزة علمية في الأحساء نفخر بها فيها مائتان وخمسون أو أكثر من طلاب العلوم الدينية والمدرسين، حوزة مضى على تأسيسها حوالي ثلاثين سنة، حوزة يتعاون مختلف العلماء في دعمها وفي رفدها بالإمكانات المادية والعلمية والمعنوية، هذه الحوزة من مفاخر الدين ومفاخر التشيع، فعلى المجتمع أن يدعم هذه الحوزة العلمية، وأن يقف إلى جانبها ويوفر لها ما تحتاج من الإمكانات، وعلى العلماء في الحوزة – وإنما أقول ذلك من باب التواصي وإلا فهم بحمد الله لا يحتاجون إلى تذكير – أن يجتهدوا في تخريج الفقهاء والعلماء والمجتهدين، وقد بدأت الطلائع وأصبح عندنا الآن أكثر من شخص يُشار لهم بالبنان في علميتهم، وهذا يجب أن يسرنا وأن نفتخر به، يجب أن نُبرز هذه الطاقات، وهذه الكفاءات العلمية، ونلتف حولها، فالملاحظ في المجتمعات الأخرى إنهم يبرزون طاقاتهم وكفاءاتهم، ويلتفون حول علمائهم وفقهائهم وشخصياتهم، لكن في مجتمعنا بسبب تواضع علمائنا من جهة، وعدم تعود مجتمعنا على بعض الأعراف والتقاليد التي تساعد على إبراز الكفاءات والقدرات من جهة أخرى، لذلك تبقى كفاءاتنا غير ظاهرة، وغير بارزة، علينا أن نبرز هؤلاء العلماء والفضلاء وأن نلتف حولهم وأن نشجعهم حتى يكونوا قدوة للآخرين، هذا ما نأمله إن شاء الله، لن يمضى وقتٌ كثير حتى نرى في كل مدينة من مدن الأحساء وفي كل قرية من قرى الأحساء فقيها مجتهدا وأكثر ببركة دعمكم وتشجيعكم.
والحمد لله علماؤنا وخاصة في الأحساء، ولا أقول هذا الأمر مجاملة، فقد عاصرت العلماء في مختلف المناطق، ولكن علماءنا في الأحساء بشكل عام، يمتازون بصدورهم الرحبة، وبأخلاقهم العالية وبتواضعهم الكبير، وهذه ميزة هامة يجب أن تكرّس حتى يكونوا في مقام الأبوة للمجتمع كله، مهما كانت الاتجاهات مختلفة داخل المجتمع، لا يصح أبداًَ أن يكون اختلاف التوجهات سبباً للصراع ولا سبباً للخلاف، على العالم أن يكون أباً للجميع، ليس من الصحيح أن يعتبر العالم نفسه وكأنه أب لمجموعة معينة، أو ضمن دائرة مرجعية معينة، أو ضمن فئة معينة، بل يجب أن يكون في مقام الأبوة والرعاية والتوجيه لكل أبناء المجتمع فكلهم أبناء الإسلام وأبناء مدرسة أهل البيت .
هذه مسألة مهمة خاصة وأن هناك اهتماماً من قبل المسؤولين ومن قبل وزارة العدل بأن يحصل تطوير في محكمة الأوقاف والمواريث، وهذا لصالح الوطن ولصالح المجتمع.
الشيعة كجزء من هذا الوطن، وكمواطنين أثبتوا صدق ولائهم لوطنهم، وعمق انتمائهم له، فمن حقهم الطبيعي أن تكون لهم محكمة ويكون العمل في حياتهم وفي أحوالهم الشخصية وفق تشريعات وآراء مذهبهم، مذهب أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، ولذلك نحن نأمل من هذا التوجه الجديد أن تأخذ المحكمة الجعفرية صلاحياتها بحيث تكون محكمة كاملة الصلاحيات، ويتوفر لها الدعم الكافي والمطلوب من قبل الدولة، لأن في ذلك مصلحة للمواطنين، والدولة لا تريد إلا مصلحة المواطنين، وهذا حقٌ طبيعي.
ما قد يحصل في بعض الأحيان من تداخل الاختصاصات مع محاكم أخرى تحكم أو تعطي رأياً في قضايا ترتبط بأبناء الطائفة والمذهب، فتحكم برأي مغاير لرأي المحكمة الجعفرية، هذه إشكالية يجب أن تعالج لأن المحاكم والقضاء من أجل معالجة المشاكل، فإذا كانت قضية واحدة تنظر فيها محكمتان ومع الاختلاف الفقهي في بعض المسائل الفقهية، حينئذ لا يكون حلاً للمشكلة وإنما يكون تعقيدا للمشكلة، حينما يجرى الطلاق لامرأة منتمية لمذهب أهل البيت في محكمة أخرى، وضمن مذهب أهل البيت هناك شروط للطلاق، إذا جرى الطلاق من دون توفر هذه الشروط لا تعتبر مطلقة من الناحية الشرعية، قانونياً مطلقة صدر صك طلاق من محكمة شرعية رسمية بالطلاق، دينياً عند المجتمع الشيعي، لا تعتبر مطلقة، ولا تزال على ذمة زوجها، فتصبح مشكلة اجتماعية، هذه المشكلة الاجتماعية ليست من صالح أحد، وكذلك فيما يرتبط بالإرث، حينما يكون هناك اختلاف فقهي، فيفترض أن الناس يتقاضون خاصة في هذه المسائل إلى المحكمة المختصة، لكن يحصل بسبب أو آخر لجهالة أو لغرض يذهب البعض إلى محكمة أخرى فيربك عمل المحاكم، المحكمة الأخرى لا تسعى خلف الناس حتى يأتوا بقضاياهم، لكن البعض يذهبون لاختلاف على إرث ، فحينما تقسم محكمة الأوقاف والمواريث الإرث وفق المذهب الجعفري وهناك اختلاف فيما يرتبط بالتعصيب والعول، وفيما يرتبط بحق الزوجة من إرث زوجها، هل تستحق من الأرض أو لا، والمحكمة الأخرى تقسم وفق المذهب الآخر، هنا تحصل مشكلة، فالدولة وضعت المحاكم من أجل حل المشكلة، إذا تدخلت محكمتان في شأن واحد بدل أن تُحل المشكلة تتعقد، وهذا بالتأكيد ما لا يريده ولاة الأمر، وما لا يريده المسؤولون، ولكن بسبب غفلة أو وضع ما تحصل مثل هذه المسائل، لكننا نأمل في التنظيمات الجديدة والاهتمام الجديد أن تعالج هذه المشاكل إن شاء الله، بحيث تكون المحكمة الجعفرية كاملة الصلاحيات، وهذا حق طبيعي.. مواطنون يريدون أن يتعبدوا لله بأحكام مذهبهم، هذا حقٌ طبيعي، والمسؤولون في الدولة يقرون هذا الحق، ولذلك كان لنا قضاة في القطيف والأحساء من المذهب الشيعي، على أساس الإقرار بهذا الحق، ولكن ينبغي أن تكون الصلاحيات كاملة للمحكمة دون تدخل من المحاكم الشرعية الأخرى، وهذا ما نتأمل أن يحصل إن شاء الله تعالى.
يضاف إلى ذلك أن المحكمة لم تعد معنية بالأوقاف والمواريث فقط فنحن المواطنون الشيعة ليست عندنا مظلة أخرى، ومؤسسة أخرى رسمية معترف بها من قبل الدولة، فالمؤسسة الوحيدة الرسمية هي هذه المحكمة، ولذلك ينبغي أن ترعى هذه المحكمة شؤون هؤلاء المواطنين، وهذا يعني ثلاثة أمور:
– الأمر الأول: حفظ الحقوق: فيما يرتبط بالأوقاف والمواريث والأحوال الشخصية و هذا الأمر الطبيعي في عمل المحكمة.
– الأمر الثاني: الإصلاح الاجتماعي: الإصلاح بين الناس و معالجة القضايا الاجتماعية، حيث نتوقع أن المحكمة ترعى هذا الجانب.
– الأمر الثالث: وهو الأمر المهم: التصدي للشأن العام، أن تشكل المحكمة ويشكل القاضي أو القضاة الشيعة في المحكمة جسراً مهماً بين هؤلاء المواطنين وبين دولتهم وحكومتهم، حيث لا بد من تواصلٍ مع المسؤولين في الدولة، وهذا التواصل يحتاج إلى جسور وقنوات مفتوحة، والقاضي بموقعه وبتعيينه من قبل الدولة يستطيع أن يقوم بخدمة هذا الدور الكبير.
المسألة نحن كلنا نعيش في وطن واحد، في منطقة واحدة، الأحساء والقطيف والشأن العام يهمنا جميعاً وأقول: إننا نتوقع من علمائنا الأجلاء الفضلاء أن لا يتراموا مسؤولية المحكمة والقضاء، فالمسألة ليست مسألة زهد وورع، فكلهم إن شاء الله يمتلكون هذه الصفات، ويعيشون على مستوٍ من التقوى، ولكن المسألة مسألة تحمل للمسؤولية، فإذا امتنع هذا وذاك من الفضلاء الموثوقين إذاً من يتصدى لهذه المسؤولية؟
فينبغي التصدي للمسؤولية، ولا نشك أن هذا العزوف قد يكون دلالة على الزهد، وعلى الورع والتقوى، ولكن في بعض الأحيان إذا كان هناك تزاحم فإنه ينبغي أن يكون هناك من يتصدى لحمل هذه المسؤولية الخطيرة هذا أولاً.
- ثانياً: على الفضلاء والوجهاء أن يدعموا ترشيح بعض الكفاءات والطاقات اللائقة والمناسبة لهذا الموقع، المسألة ليست مسألة ترشيحات انتخابية لبرلمان أو لغرفة تجارة، وإنما المسألة دينية وشرعية، ولذلك ينبغي أن يكون اهتمام بترشيح اللائقين الجديرين بهذا الموقع، وأن لا يكون هناك تباطؤ في الموضوع.
- الناحية الثالثة: أن يكون هناك تفكيرٌ في تطوير تصدي المحكمة لهذه المهام.
أوقافنا، كيف نفعّل هذه الأوقاف؟ الأوقاف ثروة كبيرة، ولكنها ثروة بعض أجزائها قد ضاع، وبعض أجزائها مجمد وبعض أجزائها الاستفادة منه محدودة، ينبغي أن يكون هناك قسمٌ في المحكمة لإدارة وتفعيل موضوع الأوقاف، من أجل مصلحة الدين ومصلحة المجتمع، حتى الأوقاف المخصصة لأئمة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، ينبغي التصرف فيها وفق أحكام الشرع، وبما يخدم مصلحة المجتمع، أن لا تُجمد وأن لا يُتصرف فيها تصرفاً هامشياً، منحصرة في القراءات وطبخ الطعام، صحيح أن كل وقفٍ على ما وقِف له، ولكن عندنا مراجع نستطيع أن نستأذنهم ونستطيع أن نجد الطرق المناسبة لكي نفعل هذه الأوقاف، إن بعض أبناء مجتمعنا يعيشون صعوبات اقتصادية، ويعيشون مشاكل، وجمعياتنا الخيرية تشكو، ومؤسساتنا الخيرية تشكو، وأنشطتنا الاجتماعية تشكو، لماذا لا يستفاد من هذه الثروة الكبيرة.. الأوقاف؟ هذه من المهام المتوقعة. وأيضاً تفعيل التواصل مع المسؤولين، وتفعيل قضية الإصلاح الاجتماعي، هذه من المهام التي نتوقعها من المحكمة في شكلها القادم إن شاء الله، مع التطويرات التي ستحصل فيها، وهذا يعني الاستفادة من كفاءات المجتمع، القاضي أو الشيخ وحده لا يستطيع أن يقوم بكل شيء، لا بد وأن تساعده الكفاءات، يستعين هو بالكفاءات في مختلف التخصصات وهي تعينه، من علماء وفضلاء وأكاديميين ومثقفين ورجال أعمال، علينا أن نهتم بأن تكون المحكمة واجهة لائقة لرعاية مصالح المجتمع، وأن تكون وجهاً مشرقاً كما كانت في سيرة القضاة السابقين، فالظروف الجديدة توجب اهتمامات وتوجب تنظيماً وترتيباً أكثر.
تغمد الله الفقيد الراحل الشيخ الهاجري بواسع رحمته وأسكنه الفسيح من جنته وخلف على المجتمع بالخلف الصالح والحمد لله رب العالمين.
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً