الحمدلله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
لعوامل عديدة ومنذ نعومة أظافري كنت ضمن أفراد شكل مجلس سماحة آية الله الهاجري (قدس سره) ومسجده موقعين بالغي الدلالة والأثر في حياتهم فضلاً عن ما للشيخ من المكانة المؤثرة على صعيد المجتمع ككل الأمر الذي أتاح لي أن أرصد الكثير مما يميز هذا العلم الكبير الذي اعتبره مدرسة بما للكلمة من دلالات .
ولايسعني الآن وعبر هذه المساحة المحدودة أن أتناول ما تختزن الذاكرة مما يتعلق بسماحته بالسرد فضلاً عن التحليل , لذا أجد من المناسب أن أختزل كماً مما أشرت إليه من خلال معرفتي به ومعايشتي له رضوان الله تعالى عليه من خلال الإشارة المجملة لعدد من مميزات الشيخ الراحل كمدرسة لها معالمها الخاصة في الرؤية والتناول والمعالجة , متجاوزاً العلاقة بالله سبحانه والتقوى في شخصيته الذين يتطلبان مجالاً أوسع , ومتجاوزاً اجتهاده العلمي والتميز والدقة العلميين إضافة الى الضبط الفريد التي مكنت سماحته لااستحضار المدارك فضلاً عن الأحكام لكل مسألة أو قضية طارئة بغير إعداد لها , ومن بين ما أشرت إليه من مميزات ما يلي :-
التأهب الدؤوب لتجريد الدين من كل ما لايمكن دعمه بالدليل مما يمكن أن يشكل برؤيته تشويهاً للصورة النقية التي ناضل من أجلها الأنبياء والأئمة عليهم السلام من خلال رصد ومعالجة كل أطروحة مهما بدت صغيرة من هذا القبيل وإن اضطره ذلك للتضحية بما يرى أنه أقل أهمية من أن يكون الدين عقيدة وشريعة مرتعاً للأوهام والجهل والتطرف وعدم التثبت , وهو نفس التعاطي الذي يتناول به قضايا الحقوق المختلفة التي رأيناه خلال ذلك التناول العالم الخبير بها والجرئ المضحي من أجلها .
حرصه الواضح على أن يحرز في خاصته والمحسوبين عليه وخصوصاً من طلاب العلم الاحتياط والتثبت في الأقوال والممارسة والتقيد بما يفرضه الذوق الراقي حتى في أدق التفاصيل , واتزان الشخصية وثقتها بذاتها , وكان يجتهد في إعمال فراسته التي عُرف بها في هذا الجانب , وكان (قدس سره) يمنح من يرى فيه هذه الصفات التقدير والحب الذي يتميز عن الحب الأبوي الصادق الذي كان يشغل قلبه الكبير لأمته ومجتمعه , وقد وجدت في هذه الميزة ومنذ صغري خير معين على التكامل في هذا الجانب السلوكي المهم وإلى هذه أكثر من غيرها أعلل محدودية الشخصيات التي كان (قده) يخصها بعنايته ويتيح لها التعاطي مع الأمور التي يرى أهميتها .
الأهتمام الكبير بالعلم وتعليمه مع مراعاة مايستوعبه الظرف من حيث المضمون والكم والأسلوب متجاوزاً في سبيل ذلك العديد من الحيثيات والتعارفات التي هي بعض إفرازات العقد والتخلف , ولعل من لازم المقدس الراحل أو تتبع سيرته يجد هذاا من خلال ما يتعجب منه البعض من تدريسه لمقررات السطوح بل وربما المقدمات أحياناً التي قد يرتفع عن تدريسها من نمعن في ظلمه (ره) إذا قارنا مستواهم العلمي بالمستوى العلمي الشامخ الذي تبوأه .
مزيج الحضور العلمي إلى جانب إحاطته بمسائل الاختلاف بين الفقهاء واحتياطه في مقام الابتلاء إضافة الى قوة الذاكرة وحدة الفراسة وبُعد النظر والخبرة المتنوعة واستحضار أكبر كم من الحيثيات التي تمس القضية محط اهتمامه ومعالجته سواء مايتعلق منها بالجوانب الفقهية أو الاجتماعية أو النفسية , وهذا مايجعل لطريقة تعامله مع القضاء __ الذي يحرص أن يجعل المصالحة هي النهاية لكل قضية من خلاله تكون المصالحة هي الأجمل فيها ما إستطاع إلى ذلك من سبيل __ لوناً مميزاً أهيب بالباحثين من دارسينا أن يقفوا عنده ويوسعوه درساً وتأملاً , وقد تحمل المقدس الراحل جراء هذا اللون المتقن من التعامل في قضائه الوناً من المشقة , إضافة إلى سوء الفهم من قبل البعض الذين أغفلوا في رؤيتهم الجزء الملئ من الكأس ورأوا في طريقة تعامله لتي أشرت إليها تعقيداً وتعطيلاً للمصالح التي جَهِدَ سماحته عنايةً واهتمامهاً بها لتطوير المحكمة من خلال مخاطبته الجهات الرسمية ذات العلاقة , وما الوعود التي ننتظر تحققها في هذا المجال إلا ثمرة من ثمار سعي الشيخ (ره) في هذا المضمار.
الحس الولائي المترف لآل محمد (صلى الله عليه وآله ) والتعبير الراقي عنه وعن مكنون العواطف تجاههم (عليهم السلام) المتكئة على أرضية صلبة من العلم والتي لايغفلها التأجج عن رفضه التشويه والخرافة , وقد كنت أجد في سماحته رضوان الله تعالى عليه حينما يحضر مجلسي الحسيني أمة من الحضور والتفاعل والعبرات والدموع , وهذا وأزعم أنني اطلعت على حالات خاصة لشيخنا الراحل في هذا الصدد لاتستوعبه هذه السطور تدرك شيئاً منها وأنت ترى تلهفه وحرصه على وصل سيد الشهداء (عليه السلام) حتى في أحلك الظروف , ولعل من تعاطى في الشأن العقائدي مع سماحته يجد بصمات ذلك الحس الفذ في رؤاه التي هي بنات الدليل العلمي وربائبه .
التفاعل الواضح مع قضايا الشأن العام وهمومه سواء كانت فكرية الطابع أو عمليته , والتعاطي الإيجابي مع كل فكرة أو مشروع يُسهم في المعالجة أو الوقاية أو التفوق خصوصاً إذا استوضح رجحان الغاية وطيب الوسيلة ومناسبتها لمقتضى الحال والنوعية التي يثق فيه ويؤمل بها من القائمين , ولعل ردة فعله الداعمة والباذلة بل والمتبنية المسؤلة لمشروع مجلس الخطباء الذي كان قبل رحيله بشهور قليلة آخر تجربة لي معه في هذا الصدد تصلح مثالاً لما ذكرت , فقد كان تعاطيه الأبوي المتحمس مصدر تعجب وإعجاب لأحد المشائخ الخطباء الذين كانوا أحد أفراد وفد المجلس والذي كان هذا الموقف أول تعامل له مع شيخنا المقدس في هذا المجال .
ولأنني تجاوزت الكثير الذي يمكن قوله وتحليله حول هذا العلم الفذ لتكون كتابتي بحجم لا يتجاوز مساحة المقال فإنني قد أغفلت ذكر الأمثلة والمواقف التي يمكن إيرادها لدعم وتوثيق النقاط التي أشرت إليها .
وأخيراً أود أن ألفت القارئ الكريم إلى أن الكتابة أو الحديث عن الشيخ في الوقت التي هي سهلة على شخص لازم الشيخ أو عايشه وتذوق السهولة والشفافية في نهجه وتعاطيه إلا أنها صعبة بل ممتنعة بالقدر الذي تمثله صعوبة الوصول إلى قمة شامخة والاستواء عليها لوصفها , أو بالقدر الذي جعل الكثير من القريبين منه عاجزين عن فهمه رغم شدة وضوحه .
وأخيراً مرة أخرى أتمنى قراءتي لهذا السفر الفذ غير بعيدة عن مراد الكاتب لكي لا أكون سبباً إضافياً فيه تيه السالكين لفهم معناه اللذيذ الذي تذوقته أبوة رائعة لايزال مذاقها ملا قلبي وجوانحي .
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً