حدثنا عبد الرحمن بن كثير ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده علي بن الحسين ( عليهم السلام ) ، قال : لما أجمع الحسن بن علي ( عليه السلام ) على صلح معاوية خرج حتى لقيه ، فلما اجتمعا قام معاوية خطيبا ، فصعد المنبر وأمر الحسن ( عليه السلام ) أن يقوم أسفل منه بدرجة ، ثم تكلم معاوية ، فقال : أيها الناس ، هذا الحسن بن علي وابن فاطمة، رآنا للخلافة أهلا، ولم ير نفسه لها أهلا، وقد أتانا ليبايع طوعا، ثم قال: قم يا حسن؟
فقام الحسن ( عليه السلام ) فخطب فقال : الحمد لله المستحمد بالآلاء ، وتتابع النعماء ، وصارف الشدائد والبلاء ، عند الفهماء وغير الفهماء ، المذعنين من عباده لامتناعه بجلاله وكبريائه ، وعلوه عن لحوق الأوهام ببقائه ، المرتفع عن كنه ظنانة المخلوقين ، من أن تحيط بمكنون غيبه رويات عقول الرائين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده في ربوبيته ، ووجوده ووحدانيته ، صمدا لا شريك له ، فردا لا ظهير له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، اصطفاه وانتجبه وارتضاه ، وبعثه داعيا إلى الحق ، وسراجا منيرا ، وللعباد مما يخافون نذيرا ، ولما يأملون بشيرا ، فنصح للأمة ، وصدع بالرسالة ، وأبان لهم درجات العمالة ، شهادة عليها أموت وأحشر ، وبها في الآجلة أقرب وأحبر .
وأقول معشر الخلائق فاسمعوا ، ولكم أفئدة وأسماع فعوا : إنا أهل بيت أكرمنا الله بالاسلام ، واختارنا واصطفانا واجتبانا ، فأذهب عنا الرجس وطهرنا تطهيرا ، والرجس هو الشك ، فلا نشك في الله الحق ودينه أبدا ، وطهرنا من كل أفن وغية ، مخلصين إلى آدم نعمة منه ، لم يفترق الناس قط فرقتين إلا جعلنا الله في خيرهما ، فأدت الأمور وأفضت الدهور إلى أن بعث الله محمدا ( صلى الله عليه وآله ) للنبوة ، واختاره للرسالة ، وأنزل عليه كتابه ، ثم أمره بالدعاء إلى الله ( عز وجل ) فكان أبي ( عليه السلام ) أول من استجاب لله ( تعالى ) ، ولرسوله ( صلى الله عليه وآله ) وأول من آمن وصدق الله ورسوله ، وقد قال الله ( تعالى ) في كتابه المنزل على نبيه المرسل : ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ” فرسول الله الذي على بينة من ربه، وأبي الذي يتلوه، وهو شاهد منه.
وقد قال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين أمره أن يسير إلى مكة والموسم ببراءة ( سر بها يا علي ، فإني أمرت أن لا يسير بها إلا أنا أو رجل مني ، وأنت هو يا علي ) فعلي من رسول الله ، ورسول الله منه ، وقال له نبي الله ( صلى الله عليه وآله ) حين قضى بينه وبين أخيه جعفر بن أبي طالب ( عليهما السلام ) ومولاه زيد بن حارثة في ابنة حمزة : ( أما أنت لا علي فمني وأنا منك ، وأنت ولي كل مؤمن بعدي ) .
فصدق أبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سابقا ووقاه بنفسه ، ثم لم يزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في كل موطن يقدمه ، ولكل شديدة يرسله ثقة منه وطمأنينة إليه ، لعلمه بنصيحته لله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وإنه أقرب المقربين من الله ورسوله ، وقد قال الله ( عز وجل ) : ( والسابقون السابقون * أولئك المقربون ) وكان أبي سابق السابقين إلى الله ( عز وجل ) وإلى رسوله ( صلى الله عليه وآله ) وأقرب الأقربين ، فقد قال الله ( تعالى ) : ( لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة ) .
فأبي كان أولهم إسلاما وايمانا ، وأولهم إلى الله ورسوله هجرة ولحوقا وأولهم على وجده ووسعه نفقة ، قال ( سبحانه ) : ( والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ) فالناس من جميع الأمم يستغفرون له بسبقه إياهم الايمان بنبيه ( صلى الله عليه وآله ) ، وذلك أنه لم يسبقه إلى الايمان أحد ، وقد قال الله ( تعالى ) : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ) فهو سابق جميع السابقين ، فكما أن الله ( عز وجل ) فضل السابقين على المتخلفين والمتأخرين ، فكذلك فضل سابق السابقين على السابقين ، وقد قال الله ( عز وجل : ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ” .
( فكان أبي المؤمن بالله واليوم الآخر ) والمجاهد في سبيل الله حقا ، وفيه نزلت هذه الآية .
وكان ممن استجاب لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عمه حمزة وجعفر ابن عمه ، فقتلا شهيدين ( رضي الله عنهما ) في قتلى كثيرة معهما من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فجعل الله ( تعالى ) حمزة سيد الشهداء من بينهم ، وجعل لجعفر جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء من بينهم ، وذلك لمكانهما من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ومنزلتهما وقرابتهما منه ( صلى الله عليه وآله ) ، وصلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على حمزة سبعين صلاة من بين الشهداء الذين استشهدوا معه .
وكذلك جعل الله ( تعالى ) لنساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) للمحسنة منهن أجرين ، وللمسيئة منهن وزرين ضعفين ، لمكانهن من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وجعل الصلاة في مسجد رسول الله بألف صلاة في سائر المساجد إلا مسجد خليله إبراهيم ( عليه السلام ) بمكة ، وذلك لمكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من ربه .
وفرض الله ( عز وجل ) الصلاة على نبيه ( صلى الله عليه وآله ) على كافة المؤمنين ، فقالوا : يا رسول الله ، كيف الصلاة عليك ؟ فقال : قولوا : ” اللهم صل على محمد وآل محمد ” فحق على كل مسلم أن يصلي علينا مع الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فريضة واجبة .
وأحل الله ( تعالى ) خمس الغنيمة لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأوجبها له في كتابه ، وأوجب لنا من ذلك ما أوجب له ، وحرم عليه الصدقة وحرمها علينا معه ، فأدخلنا – فله الحمد – فيما أدخل فيه نبيه ( صلى الله عليه وآله ) وأخرجنا ونزهنا مما أخرجه منه ونزهه عنه ، كرامة أكرمنا الله ( عز وجل ) بها ، وفضيلة فضلنا بها على سائر العباد ، فقال الله ( تعالى ) لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) حين جحده كفرة أهل الكتاب وحاجوه : ( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين ) فأخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الأنفس معه أبي ، ومن البنين إياي وأخي ، ومن النساء أمي فاطمة من الناس جميعا ، فنحن أهله ولحمه ودمه ونفسه ، ونحن منه وهو منا .
وقد قال الله ( تعالى ) : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) . فلما نزلت آية التطهير جمعنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنا وأخي وأمي وأبي ، فجللنا ونفسه في كساء لام سلمة خيبري ، وذلك في حجرتها وفي يومها ، فقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، وهؤلاء أهلي وعترتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا . فقالت أم سلمة ( رضي الله عنها ) : أدخل معهم يا رسول الله ؟ فقال لها ( صلى الله عليه وآله ) .
يرحمك الله ، أنت على خير وإلى خير ، وما أرضاني عنك ! ولكنها خاصة لي ولهم .
ثم مكث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعد ذلك بقية عمره حتى قبضه الله إليه ، يأتينا كل يوم عند طلوع الفجر فيقول : ( الصلاة يرحمكم الله ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) .
وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بسد الأبواب الشارعة في مسجده غير بابنا ، فكلموه في ذلك ، فقال : ” إني لم أسد أبوابكم وافتح باب علي من تلقاء نفسي ، ولكني اتبع ما يوحى إلي ، وإن الله أمر بسدها وفتح بابه ) فلم يكن من بعده ذلك أحد تصيبه جنابة في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويولد فيه الأولاد غير رسول الله وأبي علي ابن أبي طالب ( عليها السلام ) تكرمة من الله ( تعالى ) لنا ، وفضلا اختصنا به على جميع الناس .
وهذا باب أبي قرين باب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في مسجده ، ومنزلنا بين منازل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وذلك أن الله أمر نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يبني مسجده ، فبنى فيه عشرة أبيات تسعة لبنيه وأزواجه وعاشرها وهو متوسطها لأبي فها هو لبسبيل مقيم ، والبيت هو المسجد المطهر ، وهو الذي قال الله ( تعالى ) : ( أهل البيت ) فنحن أهل البيت ، ونحن الذين أذهب الله عنا الرجس وطهرنا تطهيرا .
أيها الناس ، إني لو قمت حولا فحولا أذكر الذي أعطانا الله ( عز وجل وخصنا به من الفضل في كتابه وعلى لسان نبيه ( صلى الله عليه وآله ) لم أحصه ، وأنا ابن النبي النذير البشير ، السراج المنير ، الذي جعله الله رحمة للعالمين ، وأبي علي ، ولي المؤمنين ، وشبيه هارون ، وإن معاوية بن صخر زعم أني رأيته للخلافة أهلا ، ولم أر نفسي لها أهلا ، فكذب معاوية ، وأيم الله لأنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، غير أنا لم نزل أهل البيت مخيفين مظلومين مضطهدين منذ قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فالله بيننا وبين من ظلمنا حقنا ، ونزل على رقابنا ، وحمل الناس على أكتافنا ، ومنعنا سهمنا في كتاب الله ( من الفئ ) والغنائم ، ومنع أمنا فاطمة إرثها من أبيها .
إنا لا نسمي أحدا ، ولكن أقسم بالله قسما تاليا ، لو أن الناس سمعوا قول الله ( عز وجل ) ورسوله ، لأعطتهم السماء قطرها ، والأرض بركتها ، ولما اختلف في هذه الأمة سيفان ، ولأكلوها خضراء خضرة إلى يوم القيامة ، وما طمعت فيها يا معاوية ، ولكنها لما أخرجت سالفا من معدنها ، وزحزحت عن قواعدها ، تنازعتها قريش بينها ، وترامتها كترامي الكرة حتى طمعت فيها أنت يا معاوية وأصحابك من بعدك ، وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( ما ولت أمة أمرها رجلا قط وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا ” .
وقد تركت بنو إسرائيل – وكانوا أصحاب موسى ( عليه السلام ) – هارون أخاه وخليفته ووزيره ، وعكفوا على العجل وأطاعوا فيه سامريهم ، وهم يعلمون أنه خليفة موسى ، وقد سمعت هذه الأمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول ذلك لأبي ( عليه السلام ) ( إنه مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) وقد رأوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين نصبه لهم بغدير خم وسمعوه ، ونادى له بالولاية ، ثم أمرهم أن يبلغ الشاهد منهم الغائب ، وقد خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حذارا من قومه إلى الغار – لما أجمعوا أن يمكروا به ، وهو يدعوهم – لما لم يجد عليهم أعوانا ، ولو وجد عليهم أعوانا لجاهدهم .
وقد كف أبي يده وناشدهم واستغاث أصحابه فلم يغث ولم ينصر ، ولو وجد عليهم أعوانا ما أجابهم ، وقد جعل في سعة كما جعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في سعة .
وقد خذلتني الأمة وبايعتك يا بن حرب ، ولو وجدت عليك أعوانا يخلصون ما بايعتك ، وقد جعل الله ( عز وجل ) هارون في سعة حين استضعفه قومه وعادوه ، كذلك أنا وأبي في سعة حين تركتنا الأمة وبايعت غيرنا ، ولم نجد عليهم أعوانا ، وإنما هي السنن والأمثال تتبع بعضها بعضا .
أيها الناس ، إنكم لو التمستم بين المشرق والمغرب رجلا جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبوه وصي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم تجدوا غيري وغير أخي ، فاتقوا الله ولا تضلوا بعد البيان ، وكيف بكم وأنى ذلك منكم ! ألا وإني قد بايعت هذا – وأشار بيده إلى معاوية – ( وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين “.
أيها الناس ، إنه لا يعاب أحد بترك حقه ، وإنما يعاب أن يأخذ ما ليس له ، وكل صواب نافع ، وكل خطأ ضار لأهله ، وقد كانت القضية ففهمها سليمان فنفعت سليمان ولم تضر داود ، فاما القرابة فقد نفعت المشرك وهي والله للمؤمن أنفع ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعمه أبي طالب وهو في الموت . ” قل لا إله إلا الله ، أشفع لك بها يوم القيامة ” ولم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول له إلا ما يكون منه على يقين ، وليس ذلك لاحد من الناس كلهم غير شيخنا – أعني أبا طالب – يقول الله ( عز وجل : ( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ” .
أيها الناس ، اسمعوا وعوا ، واتقوا الله وراجعوا ، وهيهات منكم الرجعة إلى الحق ، وقد صارعكم النكوص ، وخامركم الطغيان والجحود ( أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) والسلام على من اتبع الهدى .
قال : فقال معاوية : والله ما نزل الحسن حتى أظلمت علي الأرض ، وهممت أن أبطش به ، ثم علمت أن الاغضاء أقرب إلى العافية .
اترك تعليقاً