الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.
للمنطقة المعروفة اليوم بالأحساء – والتي يُطلق عليها قديماً وعلى جاراتها البحرين تارة، وهجر تارة أُخرى – شأن كبير وأهمّية خاصّة، جعل منها مركزاً مرموقاً وفعّالاً يتلو المراكز العلمية الإسلامية المقدّسة.
فبالإضافة إلى أنّها- ولموقعها الجغرافي المتميّز – كانت تَنعَم بالحياة والسكن منذ السنين الأُولى للتاريخ البشري ، الأمر الذي أوجد فيها حضارة ذات طابعٍ خاصٍّ ، تلاقت فيه مع مختلف الحضارات القديمة.
هذا ويُضاف إلى أنّها منطقة يشكّل تواجد الأُُمّة العربية فيها عاملاً مهمّاً من تاريخ الأمّة العربية قبل أن تشرق عليها شمس الإسلام العظيم، بحيث لا يمكن لباحث في تاريخ هذه الأمّة وجذورها أن يتجاهله.
بالإضافة إلى كلّ ما ذُكر، فإنّ هذه المنطقة تتميّز بمميّزاتٍ لم تجتمع لسواها من البلاد الإسلامية، حتّى المراكز المقدّسة الإسلامية.
الميزة الأولى: أنّها دخلت الإسلام واعتنقته طوعاً وسلماً، وذلك في العام السادس من الهجرة، حيث أرسل النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى المنذر بن ساوى العبدي ـ والي الفرس على المنطقة ـ رسالةٍ دعاه فيها إلى الإسلام، ومما جاء فيها:
من محمّدٍ رسول الله، إلى المنذر بن ساوى، فإنّي أحمد الله الذي لا إله إلاّ هو .
أمّا بعد: فإنّ من صلّى صلاتنا، ونسك نسكنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذاك المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا، به ذمّة الله ورسوله، من أحبّ ذلك من المجوس فهو آمن ، ومن أبى فعليه الجزية.
واستجاب المنذر فأسلم، وأسلم معه مرزبان هجر، وجميع العرب، وبعض العجم، وكان في ما قال: قد نظرت في هذا الذي بيدي من الملك فوجدته للدنيا، ونظرت في دينكم فوجدته للدنيا والآخرة، فما يمنعني من قبول دينٍ فيه أمنية الحياة، وراحة الموت.
وكتب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يخبره عن ذلك، ويسأله عن وظيفته تجاه من لم يقبل الإسلام من المجوس واليهود، فأجابه (صلّى الله عليه وآله) برسالةٍ أثنى عليه فيها، مُبقياً له حكمه على المنطقة، ومبيّناً له وظيفته.
وبعد عامٍ من ذلك توجّه وفد عبد القيس من المنطقة إلى المدينة المنوّرة، للقاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولأهمّية هذا الحدث أخبر(صلّى الله عليه وآله) به فقال: « ليأتينّ ركبٌ من قبل أهل المشرق لم يُكرهوا على الإسلام ».
وفي روايةٍ أُخرى: « سيطلع عليكم من هنا ركبً هم خير أهل المشرق».
ولمّا قدموا رحّب بهم ، وقال: « مرحباً بالقوم، لا خزايا ولا ندامى» ودعا لهم قائلاً: « اللّهمّ اغفر لعبد القيس» ، وقال : « يا معشر الأنصار ! أكرموا إخوانكم، فإنّهم أشبه الناس بكم في الإسلام، أسلموا طائعين غير مكرهين ولا موتورين» ، وفي روايةٍ: « أسلموا طائعين غير مكرهين، إذ قعد قومٌ لم يسلموا إلاّ خزايا موتّرين» .
ومن يدرس إسلام أهل المنطقة وكيفيته، يدرك بوضوحٍ نضوجهم الفكري، الذي جعلهم يسلمون طواعيةً، ومن دون أي طمعٍ أو وجلٍ، بمجرد دعوة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)إيّاهم إلى الإسلام؛ ولو كان ذلك لخوفٍ؛ لكان خوفهم من الدولة الفارسية المستعمرة آنذاك أولى وأجدر.
ويؤكّد هذا النضوج الفكري إسلام بعضهم قبل دعوته (صلّى الله عليه وآله)، منهم: عمرو بن القيس، والمنذر بن عائذ الأشجع العبدي.
ولعلّ في هذا الواقع التاريخي ما يصحّح للباحث ما جاء عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من قوله: « إنّ الله خيّرني في هجرتي هذه بين المدينة والبحرين وفلسطين»[1]، وما اشتهر عنه (صلّى الله عليه وآله) : « لو فُقِدَ الإسلام في الأرض لَوُجِد في هجر »[2].
الميزة الثانية: أنّها كانت ترتبط ـ فكراً وروحاً ـ بالإمام عليّ (عليه السلام) بشكلٍ خاصٍّ، وبأهل البيت (عليهم السلام) بشكلٍ عامٍ.
وهذا ما يؤكّد أنّ الفكر الثقافي الشيعي في المنطقة ليس وليد عوامل خارجية تسرّبت مع الوافدين إلى هذه المنطقة.
ويكفي ردّاً واضحاً لما قد يدّعى من عدم أصالة التواجد الشيعي في المنطقة:
أ – إنّ القبيلة ذات الأهميّة والانتشار الواسع في هذه المنطقة هي قبيلة عبد القيس، وقد عُرف عنها وقوفها إلى جانب الإمام عليّ (عليه السلام) في وقعة الجمل.
ولرجالاتها البارزين – كزيد بن صوحان، وحكيم بن جبلة، والرعل بن جبلة وغيرهم ممن تعود أصولهم الى المنطقة – مواقفهم المعروفة تجاه أعداء الإمام عليّ (عليه السلام) والحكم الأموي، حتّى أنّ التاريخ يحدّثنا عن استشهاد أكثر من سبعين منهم إلى جانب الإمام عليّ (عليه السلام) في وقعة الجمل، كما عُرِفَ هذا الموقف عن غيرهم من أبناء المنطقة ، كرشيد الهجري الشهيد .
ب – إنّنا لا نجد تأثّراً لهذه المنطقة آنذاك بغير الفكر الشيعي، رغم وجود مبرّراته التي منها وجود أبي هريرة في المنطقة حاكماً وممثّلاً من قبل عمر بن الخطّاب، فإنّ مثل أبي هريرة الذي عُرِفَ عنه الكثير من الروايات بحيث تشكّل أخباره مصدراً مهمّاً للفكر السنّي، يستطيع من خلال هذه الموقعية أن يعمل بفعاليةٍ، وأن يُقبل عليه الكثير من الناس المتواجدين في المنطقة لتحمل ما يحمله من أحاديث، بينما لا نجد لذلك عيناً ولا أثراً؛ ولا يصحّ تفسير ذلك إلاّ بعدم وجود التوافق الفكري معه.
ج – المشاركة في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) بكربلاء، فبالإضافة إلى العبديين كان في شهداء تلك المعركة الخالدة: خلاس بن عمر الراسبي – وابنه على رواية – والنعمان بن عمر الراسبي أخ خلاس، الذي التحق بجيش الإمام الحسين (عليه السلام) ليلة الثامن من المحرّم.
د – التفاف عدد من رجالاتها ولو بلحاظ جذورهم وأصولهم حول أهل البيت (عليهم السلام) للرواية والصحبة والدعوة، رغم الموقعية الجغرافية النائية التي تشكلّ عقبة دون وصولهم إلى ربوع أهل البيت (عليهم السلام).
ومن بين أُولئك، سوى بعض من تقدّم ذكره:
1- عبد الله بن حكيم بن جبلة، من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن أصحاب الحسين (عليه السلام) على الظاهر[3].
2- عمرو بن مرحوم العبدي، من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)[4].
3- الأشرف بن جبلة، أخو حكيم بن جبلة[5].
4- النعمان بن عجلان، عامل الإمام عليّ (عليه السلام) على البحرين وعمان له[6].
5- أبو نصرة العبدي، من أصحاب الإمام عليّ (عليه السلام)[7].
6- رشيد الهجري، من أصحاب الإمام عليّ والحسن والحسين والسجّاد (عليهم السلام)[8].
7- عبد الله بن بكير الهجري، من أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) [9].
8- نجم بن الخطيم – وقيل: أبو حطيم العبدي – من أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام)[10].
9- الوليد بن عروة الهجري الشيباني ، من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) [11].
10 – أبو لبيد الهجري، من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) [12].
11- أبو الصباح إبراهيم بن نعيم العبدي الكناني، من عبد القيس، ونسب إلى بني كنانة؛ لأنّه نزل فيهم ، من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)[13]..
12- خيثمة بن عدي الهجري، من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)[14].
13- محمّد بن المشعل الهجري الكوفي، من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)[15].
14- سفيان بن مصعب العبدي، الشاعر[16].
15- يحيى بن بلال العبدي، الشاعر أيضاً[17].
والأخيران ممّن لهما شرف المناضلة والدفاع بشعرهما عن أهل البيت (عليهم السلام) حتّى قال الإمام الصادق (عليه السلام) في حقّ الأوّل: (يا معشر الشيعة! علّموا أولادكم شعر العبدي ، فإنّه على دين الله).
الميزة الثالثة: الاهتمام العلمي المتواصل بالمجالات العلمية بشتّى فروعها، بحيث لا نبالغ إذا قلنا: بأنّ لهذه المنطقة حقاً كبيراً في التراث والثقافة الشيعية، خصوصاً إذا نظرنا إلى هذا المثلّث (الأحساء – القطيف – البحرين) كمنطقةٍ واحدةٍ، كما هو الواقع الجغرافي قديماً، والذي يتجلّى واضحاً في الترابط العلمي والاجتماعي والأُسري العميق بين أهل هذه المناطق.
ويمكن القول بصراحة: إنّه لو قدّر لهذه المنطقة حظُّ من التاريخ والاهتمام بما يجري فيها على مدى السنين والحقب الماضية، لَمْا قَصُرت في الأهمّية عن المراكز الشيعية العلمية المقدّسة، إن لم تزد مقاماً على بعضها.
أجل، إنّ نأي المنطقة عن مواقع الصراع، والحركة جعلها تعيش في تأريخٍ مبهمٍ وغامضٍ من الناحية السياسية ذات الباعث التاريخي، فكيف بالنواحي الأُخرى.
ولأجل هذا وغيره لم يُكشف الكثير من تاريخ هذه المنطقة، وخصوصاً منطقة الأحساء التي احتضنت عدداً لا يُستهان به من رجال العلم والفضل والأدب، حتّى رُوي أنّ منطقة التيمية – والتي هي الآن قرية من قرى الأحساء- كانت تضم في حوالي القرن الثامن للهجرة أربعين مجتهداً، يُقيم كلّ واحدٍ منهم الجماعة في مسجدٍ يخصّه، ومن بينهم الشيخ ابن أبي جمهور، والشيخ محمّد البويهي.
وإلى هذا يشير العلاّمة الشيخ فرج آل عمران القطيفي قائلاً:
قدّسوها مدينة التيمية |
فهي من خيرة القرى الهجريه |
وليس هذا ببعيدٍ، بعد أن عرفنا أنّ العلم والفضل لا يختّص بأفرادٍ من عوائل هذه المنطقة، وإنّما هو تراث يتوارثه الأبناء عن الآباء؛ بحيث تعدّ العائلة الواحدة مجمعاً علمياً يشكّل كياناً حوزوياً مستقلاً.
وكشاهد على ذلك نشير إلى أُسرة ابن أبي جمهور، وآل السبعي، وآل زين الدين ، وآل المحسني، وآل المزيدي، وآل السلمان، وآل أبي خمسين، وآل خليفة السادة، وآل خليفة الشيوخ، وآل الشخص، وآل الدندن، وآل الرمضان، وغيرهم.
كما يشهد على ذلك تواجد الحوزات العلمية بما لها من معنى بين فترةٍ وأُخرى، رغم الظروف الصعبة التي مرّت على هذه المنطقة.
ومن آثار هذا التواجد العلمي اكتفاء المنطقة علمياً، حيث استغنت فيما يرتبط بالمرجعية الدينية بنفسها، فرجعت إلى أبنائها أمثال: الشيخ أحمد الأحسائي، والسيّد هاشم السلمان، والشيخ محمّد حسين أبي خمسين، والشيخ موسى أبي خمسين، والسيّد ناصر السلمان، والشيخ حبيب بن قرين و..
وكادت هذه الحال تتواصل لولا تورّع كثيرٍ من علماء هذه المنطقة المتصاعد عن تحمّل هذه المسؤولية الخطيرة، الأمر الذي دفعهم إلى ربط هذه المنطقة بالمرجعيات الدينية المشهورة في البلاد المقدّسة، ولو أنهم تحمّلوا هذه المسؤولية لما استطاع غيرهم أن ينافسهم عليها في هذه المنطقة حتماً.
وهذه المسألة تلفت النظر إلى صفة مهمّة تلازم رجال الدين في هذه المنطقة، بل تتعدّاهم إلى سائر أهلها، وهي صفة التواضع والعفّة، والابتعاد عن كلّ ما من شأنه جلب الأنظار والشهرة والجاه، حتّى وإن حملوا من العلم والفضل ما يؤهّلهم لكلّ ذلك.
ولأجل هذه الصفة نرى مدى تعلّق العلماء الأجلاّء ومراجع الدين بهم، فهذا يعتبرهم كالملائكة، وذاك يعتبرهم وروداً نبتت في نارٍ، وغير ذلك من الصفات والسّمات.
ولكي لا نطيل في مقدّمتنا هذه، نختمها ذاكرين كشاهدٍ على ما نقول عالِمَين من أعلام هذه المنطقة، شاءت دواعي الأقدار أن يتّحدا في قيام كلٍّ منهما بمهمّة القضاء الشرعي في هذه المنطقة:
1- سماحة العلاّمة الكبير المجتهد السيّد محمّد بن العلاّمة السيّد حسين العلي السلمان (المتوفّى سنة 1388 هـ).
فهذا العالِم الجليل كان مثالاً في العفّة والتقى والتواضع، بحيث طُلب منه التصدّي للمرجعية، وكُتبت الرسائل إلى علماء النجف الأشرف من أجل ذلك ، فتأذّى كثيراً، ومانع بشدةٍ من إرسالها، رغم ما له من مقامٍ عظيمٍ يشهد له فيه آية الله الشيخ محمّد رضا آل ياسين، والإمام الحكيم (قدّس سرّهما).
واكتفى – من أجل أن لا تُهمل المنطقة – بمنصب القضاء والوكالة عن مراجع عصره فقط.
2- سماحة العلاّمة الكبير المجتهد الشيخ محمّد سلمان الهاجري صاحب هذه الترجمة.
فهو من العلماء البارزين الّذين جمعوا بين صفتي العلم والعفّة، يشهد له بذلك القريب والبعيد.
وبرغم مقامه العلمي، وشهادة أمثال العلاّمة آية الله الشيخ يوسف الخراساني، وآية الله السيّد عبد الله الشيرازي باجتهاده؛ فمقامه يكاد يكون مجهولاً حتّى بين أبناء منطقته، وإذا عرفوا عنه شيئاً فليس إلاّ أنّه المتصدّي لمنصب القضاء في المنطقة أخيراً، خلفاً للعلاّمة الشيخ باقر أبي خمسين (المتوفّى سنة 1413 هـ) .
ولا ننسى أن نستثني من أُولئك من لازمه في مجالسه العلمية، أو اطّلع على مقامه بحكم وظيفته العلمية، ممّن استغرب عدم تصدّيه للمرجعية في الآونة الأخيرة، معتبراً إيّاه كفؤاً لها وجديراً بالقيام بمهامّها، وإنّ في ذلك دليلاً كافياً للقيام بالتعريف بشخصية هذا العالم الجليل.
وفي الختام لا يسعني إلاّ أن أُشيد بما قام به أخي الجليل سماحة الشيخ حسين العباد، من مجهودٍ قيّمٍ، وعملٍ مشرّفٍ في هذه المهمّة، وإنّ دلّ ذلك على شيءٍ فإنّما يدلّ على روحٍ شفّافةٍ، ذات طموحاتٍ عاليةٍ يهمّها حفظ تُراث المنطقة والتعريف بأعلامها.
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً