التّقوى لها درجاتٌ ومراتب: ٌ أعلاها العصمة المانعة من ارتكاب الرذيلة، وأدناها الخوف من الله – عزّ وجلّ –
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾
لقد دلَّت الآية المباركة على إناطة قبول العمل بالتّقوى؛ حيثُ حصرت القبول بالمتقين، إذ قالت: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[1] ، والتّقوى لها درجاتٌ ومراتب: ٌ أعلاها العصمة المانعة من ارتكاب الرذيلة، وأدناها الخوف من الله – عزّ وجلّ -، كما قال تعالى: ﴿إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾[2] .
وما بين هاتين المرتبتين مرتبةٌ يليق بالمؤمن وبأهل العلم أن يتحلّوا بها، وهذه المرتبة هي ”مرتبة الرجاء“، التي عُبّر عنها في بعض الروايات بعبادة الرجاء، وهي عبارةٌ عن أن يعيش المؤمن قلقاً دائما، ً فلا يستقرّ له بالٌ ولا يهدأ، ونتيجة هذا الفزع أن يكون العقل المسيطر على المؤمن هو الحذر في أن تقترن أعماله بما يمنع من قبولها، فهذه الحالة ”حالة القلق من جهة العمل“ مطلوبةٌ، وحالةٌ راجحةٌ، وهي مثال التّقوى الذي هو الشرط في قبول العمل، فإنَّ هناك فريقين من المؤمنين:
فريقٌ مطمئنٌ لوضعه:
وكأنَّه أحرز أنَّ صفحة أعماله نقيةٌ صافيةٌ لا يشوبها شيءٌ، لذلك يقول أنا واثقٌ من أنَّني في رضا الله، ومقبولٌ عند الله، لأنَّني لا أفعل المحرّمات، ولا أترك الواجبات، وهذا النوع من الشعور غرورٌ بالنّفس، وافتتانٌ بالعمل، فإنَّ الإنسان مهما بلغ من الحيطة والحذر، والمراقبة لعمله؛ فإنَّه يحتمل بعض اللَّمم، وربَّما تغزوه بعض شوائب حبِّ الدُّنيا وحبِّ المقام التي تفسد عمله، وتجعله غير مؤهلٍ للقبول، فالاطمئنان التام غرورٌ بالعمل قد يمنع من قبوله.
وهناك فريقٌ آخر يعيش حالة الحذر:
لا يدري على أيِّ وجهٍ يقابل الله؟! فهو يقول: أنا سائرٌ في هذه الدنيا بالعمل، والطاعة، والحذر، ولكن.. لا أدري هل تَحسن خاتمتي أم لا؟! وهل يحالفني التوفيق للإخلاص في أعمالي أم لا؟! وأن تكون هذه الآية ماثلةً نصب عينيه: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[3] .
فالمؤمن الحقيقيّ هو من كان شعاره باطناً وظاهراً، شعوراً وسلوكاً، هو الحذر من المصير، فقد نقل الشهيد المطهري «ره» في كتابه[4] ، عن بعض من كان حاضراً عند المقدس السيد البروجردي «قده» في مرضه الذي توفي فيه، أنه كان حزيناً جدّاً، وأنَّه قال: وأخيراً انتهى عمرنا وسوف نرحل ولم نستطع أن نقدّم لأنفسنا خيراً! فوقف شخص يمدح إنجازاته: لماذا تقول هذا يا سيدي؟ نحن المساكين يجب أن نقول هذا، فأنتم تركتم آثاراً خيَّرةً كثيرةً بحمد الله، وخرَّجتم طلاباً كثيرين، وكتبتم كتباً كثيرة، وبنيتم مسجداً عظيماً، ومدارس، فقال السيد «ره»: قف عن هذا المديح ”خلِّص العمل فإنَّ الناقدَ بصيرٌ بصيرٌ“، فماذا تقول أنت؟ إنّك تصورت أنَّ ما يوجد عند النّاس وفي منطقهم هو كذلك عند الله، إنَّ مَن خلق العامل والعمل ناقدٌ بصيرٌ عارفٌ بصالحه وطالحه، فقد يختار اللؤلؤة من ركام الأحجار السوداء، وقد لا يرى في عمل العبد إلاّ الفحم المحترق النتن!
إنَّ هذه الكلمة إذا اتّخذها المؤمن درعاً له؛ جعلته وصيَّرته في حالة فقرٍ، ورجاءٍ حثيثٍ، منتظراً من ربّه فيضَ الرّحمة والمنّ والفضل، وهناك آية واضحة الدّلالة على ما ينبغي أن يعيشه المؤمن من حالة القلق: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾[5] .
ومفاد هذه الآية أنَّ المؤمن في حالة قلق دائم، فتراه يتوسَّل بالوسائل المتنوعة ليحصل على قسط من الرّحمة، حيث قال: ﴿يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ﴾، فهم يعيشون على مائدة الرّجاء، والأمل، ﴿وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾، وهذه الحالة فيهم ناشئةٌ عمّا ذكرته الآية في ذيلها ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾، لأنَّهم يعيشون حالة الحذر، يعيشون حالة القلق، وقد ورد عن أبي عبدالله : ”لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو“ [6]
فالحريُّ بنا – خصوصاً الدُّعاة، والمصلحين، والعلماء، والمُبلِّغين – أن نعيش هذه الحالة، وهي حالة القلق من أعمالنا، راجين القبول والتفضُّل علينا بقطرةٍ من فيض الرَّحمة والتوفيق، للبُعد عن مزالق الأقدام وشبكات الشَّيطان، خصوصاً أنَّنا نعيش تحت ظلال مولانا صاحب الأمر والزَّمان، ونعيش على فتات مائدته، وقد جعله الله علينا شاهداً وشهيداً ورقيباً، فمقتضى إحساس الإنسان بأنَّه يعيش تحت رقابة هذا الشاهد الشهيد؛ أن يجعله تحت حالة قلقٍ من أنَّ أعماله وطريقه في إطار رضاه ، أم أنَّه في طريق سخطه وإعراضه، ورضاه رضا الله، وسخطه سخط الله – عزّ وجلّ -.
نسأل الله أن ينبهنا من نومة الغافلين، وأن يبصِّرنا بعيوبنا، وأن يجعلنا من الحذرين على أعمالنا، الرّاجين لرحمة ربنا
اترك تعليقاً