على ضفاف الطف (٤)
البحث الثاني : آلية الإصلاح في النهضة الحسينية .
بقلم : حيدر السندي
بِسْم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد واله الطاهرين
اعرف من هو الثائر تعرف الثورة :
في البداية وقبل الحديث عن آلية الإصلاح في النهضة الحسينية لا بد وأن نمهد بمقدمة نتحدث فيها عن عظمة سيد الشهداء ( عليه السلام) بحسب الروايات الواردة في كتب الطرفين ، ونتحدث عن ذلك إجمالاً ، لأن الغرض من هذه السلسلة تحليل بعض الموضوعات المرتبة بالنهضة الحسينية ، والوقوف عند ما ينبغي أن تكون عليه نظرة المسلمين إلى سيد الشهداء (عليه السلام) بمقتضى الروايات على نحو التفصيل يخرجنا عن الغرض المقصود ، لأنه في نفسه يستدعي كتابة مصنف مستقل في عدة مجلدات ، لكثرة الروايات الواردة في مقام سيد الشهداء (عليه السلام) وغزارة معانيها ، والتي رتب عليها الشيعة بحق أنه إمام معصوم منصوب من قبل الله تعالى ، وعليه نقتصر في هذه المقدمة على استعراض رواية واحدة وهي قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) وكلامنا فيها في نقطتين :
النقطة الأولى : في اعتبار الحديث من الناحية السندية .
و لا ينبغي الشك في اعتباره بل في صدوره عن النبي ( صلى الله عليه وآله) فقد تعددت طرقه التي حُكم بصحة بعضها إلى حد يفيد القطع بصدوره ، أما في كتب الخاصة أظهر الله برهانهم فالأمر أوضح من أن يبين ، وأما في كتب العامة ، فقد أخرجه أحمد بإسناده عن حذيفة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم : « ملك من الملائكة لم يهبط إلى الأرض قبل هذه الليلة ، فاستأذن ربّه أن يسلّم علي ويبشّرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ».مسند أحمد ٥ / ٣٩١.
وأخرجه الترمذي بسنده عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلم : « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » .صحيح الترمذي ٢ / ٣٠٦.
و كذلك ابن ماجة بسنده عن عبدالله بن عمر ، قال : « قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وأبوهما خير منهما ».سنن ابن ماجة ١ / ٤٤.
والحاكم بسنده عن حذيفة عنه صلى الله عليه [وآله] وسلّم قال : « أتاني جبرئيل فقال : إن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. ثم قال لي رسول الله : غفر لله لك ولامّك يا حذيفة » المستدرك على الصحيحين ٣ / ٣٨١. و ابن حبّان في صحيحه كما في موارد الظمان : ٥٥١. والنساني في خصائص أمير المؤمنين : ٣٦. والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٩ / ٢٣١. وأبو نعيم في حلية الأولياء ٤ / ١٩٠. وابن حجر العسقلاني في الإصابة ١ / ٢٦٦. وابن الأثير في أُسد الغابة ٥ / ٥٧٤. وصحّحه الذهبي في تلخيصه وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : (وعن البراء يعنى ابن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة . رواه الطبراني و اسناده حسن) ج 9 ص 184.
وذكره الزركشي في « التذكرة في الأحاديث المشتهرة » والسيوطي في « الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة » والسخاوي في « المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة » و الزبيدي في كتابه« لقط اللآلي المتناثرة في الأحاديث المتواترة ».
ولعله لتواتره جزم النووي في شرحه على صحيح مسلم بثبوته فقال : (وثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)ج 16 ص 41 ، وقد أخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 796 و أعترف بتواتره.
النقطة الثاني : في مدلول الحديث .
ولا ينبغي التأمل في أن الحديث الشريف يدل على أفضلية الحسنين على جميع المؤمنين الذي سيدخلهم الله الجنة ، فإن السيادة تعني الفضل وهذا ما فهمه مسلم صاحب الصحيح و النووي من حديث ( أنا سيد ولد آدم) فراجع ، و حيث أن البالغ المطيع الذي سيدخله الله الجنة لا يكون فيها إلا شاباً ، وحيث أن من شباب الجنة الأنبياء فالحسنان أفضل من جميع أهل الجنة بما فيهم الأنبياء.
وقد تقول يلزم من ذلك أفضليتهما على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، و الجواب : هو أن الرواية مطلقة تقبل التقييد و للإجماع على أفضلية النبي وعلي ( عليهما السلام) والأدلة القطعية في ذلك نقيد الرواية بهما ، وليس في هذا ما يوهن دلالة الحديث إذ ما أكثر الروايات المطلقة التي قيدت هذا أمرا نحن نعلم بأن النبي ( صلى الله عليه وآله
وقد تقول : الحديث بفضل الحسنين على الشباب فقط ولا يشمل غيرهم من الكهول والشيوخ ولهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيد البلغاء لم يقل ( سيدا أهل الجنة ) وإنما قال ( سيدا شباب أهل الجنة ) فأضاف كلمة (شباب) وإضافته ليست لغوية ، فتكون سيادتهما محدودة .
والجواب هو أن عنوان أهل الجنة لا يختص بالناس كما أن الناس أيضا ليسوا جميعا في الجنة شبابا بل بعضهم أطفال بحسب روايات القوم أنفسهم ففي حديث سمرة بن جندب ، قال : ( كانَ رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – مِمَّا يُكثِرُ أن يَقُولَ لِأَصحَابِهِ : هَل رَأَى أَحَدٌ مِنكُم مِن رُؤيَا ؟ قالَ : فَيَقُصُّ عَلَيه مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُصَّ . وَإِنَّه قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ : إِنَّه أَتَانِي الليلَةَ آتِيَانِ ، وَإِنَّهما ابتَعَثَانِي ، وَإِنَّهُما قَالَا لِي انطَلِق ، وَإِنِّي انطَلَقتُ مَعَهُمَا . . .( فذكر أشياء رآها ثم قال ) فانطَلَقنَا ، فَأتَينَا عَلَى رَوضَةٍ مُعتَمَّةٍ ، فِيهَا مِن كُلِّ لَونِ الرَّبِيعِ ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَي الرَّوضَةِ رَجُلٌ طَويلٌ لَا أَكادُ أَرَى رَأسَهُ طُولًا فِي السَّماءِ ، وإِذَا حَولَ الرَّجُلِ مِن أَكثَرِ وِلدَانٍ رَأيتُهم قَطُّ . . . :
وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّويلُ الذي فِي الرَّوضَةِ فَإِنَّه إبراهيمُ ، وَأَمَّا الوِلدَانُ الذِينَ حَولَه فَكُلُّ مَولُودٍ مَاتَ عَلَى الفِطْرَةِ ، فَقَالَ بَعضُ المُسلِمِين : يَا رَسُولَ اللهِ ! وَأَوْلَادُ المُشْرِكِين ؟ فَقَالَ : وَأَوْلَادُ المُشرِكِين ) رواه البخاري (7047)
والتعبير بالأولاد وان كان يطلق على الشيوخ أيضا إلا أن ظاهر الرواية بقرينة السؤال عن أولاد المشركين من كان دون التكليف سنا لوضوح كم البالغ من الكفار. عن ابن مسعود قال : ” أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت ، فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش ” انتهى. و عن أبي حسان قال : قلتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ : إنَّه قَدْ مَاتَ لِي ابنانِ ، فَمَا أَنْتَ مُحَدِّثِي عَنْ رَسُولِ اللهِ بِحَدِيْثٍ تُطَيِّبُ بِهِ أَنْفُسَنَا عَنْ مَوْتَانَا ؟ قالَ : نَعَمْ ، صِغَارُهُم دَعَامِيْصُ الجَنَّةِ ، يَتَلَقَّى أَحَدُهُم أَبَاهُ – أَوْ قَالَ أَبَوَيْهِ – فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ ، – أَوْ قَالَ بِيَدِهِ – كَمَا آخُذُ أَنَا بِصَنَفَةِ ثَوْبِكَ هذا ، فَلَا يَتَنَاهَى حتى يُدخِلَه اللهُ وَأَبَاهُ الجَنَّةَ . رواه مسلم (2635) يقول ابن الأثير : ” الدعاميص : جمع دعموص ، وهي دويبة تكون في مستنقع الماء . والدعموص أيضا : الدخال في الأمور : أي أنهم سيَّاحون في الجنة ، دخَّالون في منازلها ، لا يمنعون من موضع ، كما أن الصبيان في الدنيا لا يمنعون من الدخول على الحُرَم ، ولا يُحجب منهم أحد ” انتهى. “النهاية” (2/279)
وقد تقول هناك رواية تدل على أن الأطفال يحشرون شباباً فقد روي عن أبي سعيد الخدري وفي أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال : ( مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ يُرَدُّونَ بَنِي ثَلاَثِينَ فِي الجَنَّةِ لاَ يَزِيدُونَ عَلَيْهَا أَبَدًا ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ ) .
والجواب : هو أن هذه الرواية ضعيفة ، فقد رواه الترمذي (2562) وضعفه بقوله : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين – وهو ابن سعد -. قال ابن معين : ليس بشيء. وقال النسائي: متروك.
وقد نص القوم ومنهم ابن القيم على أن من الصحابة والتابعين ، ذهبوا إلى أن من مات من أطفال المسلمين قبل بلوغ سن الحلم ، يكونون خدم أهل الجنة ، يطوفون عليهم بالشراب والطعام والنعيم ، وأولئك هم المذكورون في قوله تعالى : ( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ . بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ) الواقعة/17-18 ، وقوله سبحانه : ( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ) الطور/24، وقوله عز وجل : ( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا) الإنسان/19 ومن الذين ذهبوا الى ذلك الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، والحسن البصري. فإذا اتضح أن أهل الجنة ينقسمون إلى قسمين :
القسم الأول : الشباب وهم كل من مات فوق سن الطفولة ويشكل جميع الأنبياء والأولياء والصالحين .
والقسم الثاني : الأطفال . سوف يتضح لنا أن ذكر الشباب ليس لغوا لان النبي ( صلى الله عليه واله ) أراد أن يبين أفضلية الحسنين على جميع من كان من القسم الأول فجاء اللفظ للتمييز ، فهو يريد أن يقول هما أفضل من كل بالغ مطيع في الدنيا سيدخله الله الجنة .
ولا يمكن أن يقال : إن نظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى من مات شاباً ، وليس إلى من يكون شاباً في الجنة ولو مات كهلاً أو شيخا ، وذلك لأن من المعلوم أن الحسنين لم يموتا شابين ، فان الحسين (عليه السلام ) استشهد بعد إن تجاوز سن الشباب و أصبح كهلا بل شيخنا فقد استشهد في السنة ٦١ وعمره قرابة ٥٧ ولا شك في أن من كان في هذا السن فقد تجاوز مرحلة الشباب .
قال ابن الأَثير : الكَهْلُ من الرجال من زاد على ثلاثين سنة إِلى الأَربعين وقيل هو من ثلاث وثلاثين إِلى تمام الخمسين وقد اكْتَهَلَ الرجلُ وكاهَلَ إِذا بلغ الكُهولة فصار كَهْلاً . وقال الزبيدي في تاج العروس:قال الأزهري : وقيل له كهل حينئذ لانتهاء شبابه وكمال قوته . وقال ابن منظور في مادة شيخ:الشيْخُ الذي استبانتْ فيه السن وظهر عليه الشيبُ وقيل هو شَيْخٌ من خمسين إِلى آخره وقيل هو من إِحدى وخمسين إِلى آخر عمره وقيل هو من الخمسين إِلى الثمانين والجمع أَشياخ وشِيخانٌ وشُيوخٌ وشِيَخَة وشِيخةٌ ومَشْيَخٍة ومِشِيخة ومَشْيُوخاء ومَشايِخُ وأَنكره ابن دريد وفي الحديث ذكر شِيخانِ قريش جمع شَيْخ كضَيْف وضِيفانٍ والأُنثى شَيْخَة .
فهو (عليه السلام) ممن استشهد شيخا أو كهلا ثم يبعث شابا ، فلا معنى للقول بان النبي ( صلى الله عليه واله) ذكره مع أخيه لبيان أنهما أفضل من مات شابا .
ولا يمكن أن يقال هو ناظر إلى فترة حديثه وصدور الكلام بمعنى أنهما أفضل ممن كان في سنهما وقت حديثه ، لأنهما ما كانا شابين وإنما كان طفلين صغيرين ، وعليه يكون الحديث كما هو ظاهر التركيب الإضافي في ( سيدا شباب أهل الجنة ) أنهما أفضل من الشاب المتصف فعلاً بأنه من أهل الجنة ، وذلك الاتصاف الفعلي لا يكون إلا بعد الدخول في الجنة .
وبهذا نصل إلى نتيجة مهمة : وهي أن مقام الحسين (عليه السلام) مقام سيد جميع أهل الجنة ومنهم الأنبياء إلا ما استثني ، وبالتالي ينبغي أن ينظر إليه و إلى أخيه على أنهما بعد النبي وعلي ( عليهما السلام) في عقلهما وورعهما وعلمهما أفضل من جميع أفراد الأمة ، و بأخذ هذه النظرة بعين الاعتبار ينبغي أن نحلل حركة الإمام الحسين (عليه السلام) في نهضته ، وبالتالي ينبغي أن نلحظ هذه الرتبة العالية في هدفه (عليه السلام) من النهضة ، وهذا يعني أننا لا يمكن أن نقبل أن الهدف كان من أجل أن يتحصل على مصالح دنيوية ومكاسب مادية ، أو أن يكون الداعي تصفية حسابات قبلية متجذرة إلى ما قبل الإسلام بين الهاشميين والأمويين ـ كما يصور بعض المستشرقين ، وعليه ينحصر الهدف في كونه هدفاً دينياً خالصاً لله تعالى إذ لا يمكن أن يتصور غير هذا الهدف من سيد سباب أصل الجنة وعدل الكتاب في حديث الثقلين والمطهر في آية التطهير و ريحانه النبي وبضعته ، وهذا ما بينه سيد الشهداء (عليه السلام ) بقوله : لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر) .
مناقشة نظرية : طلب الحكم .
ومن الواضح أن كون الحسين ( عليه السلام) مصلحاً صادق الهدف لا ينافي أن يكون خروجه طلباً للحكم إذا يعتقد أن آلية الحكم هي الأنسب لتحقيق الإصلاح ، ولهذا ذهب جماعة من الباحثين إلى أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان طالب حكم ، غير أن الظروف لم تساعده على ذلك ، وقد دعمت هذه النظرية بدليلين :
الدليل الأول : هو أن الإمام (عليه السلام ) كان يتصرف تصرف من يريد الحكم والسلطة ، فقد أخذ البيعة لنفسه ، وأرسل الرسل كمسلم بن عقيل و قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبد الله السلولي وإلى الكوفة كتب إلى أهلها ( فقوموا مع ابن عمي وبايعوه ) وقال لمسلم : ( ادع الناس إلى طاعتي) الفتوح ج 5 ص 35.
وملاحظة ما كتب إليه أهل الكوفة وجوابه يدل على أنه كان يطلب الحكم ، فمن ذلك ما نقله أبو مخنف : اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد فذكرنا هلاك معاوية فحمدنا الله عليه ، فقال لنا سليمان بن صرد : ان معاوية قد هلك وان حسينا قد تقبض على القوم ببيعته وقد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فان كنتم تعلمون انكم ناصروه ومجاهد وعدوه فاكتبوا إليه ، وان خفتم الوهل والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه . قالوا لا بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه . قال : فاكتبوا إليه ، فكتبوا إليه ( بسم الله الرحمن الرحيم ) لحسين بن علي من سليمان بن صرد والمسيب بن نجمة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة سلام عليك فانا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو . اما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمر عليها بغير رضى منها ، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعدا له كما بعدت ثمود انه ليس علينا امام ، فاقبل لعل الله ان يجمعنا بك على الحق ، والنعمان بن بشير في قصر الامارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا انك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله والسلام ورحمة الله عليك . قال : ثم سرحنا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال وأمرنا هما بالنجاء ، فخرج الرجلان مسرعين حتى قدما على حسين لعشر مضين من شهر رمضان بمكة ، ثم لبثنا يومين ثم سرحنا إليه قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الرحمان بن عبد الله بن الكدن الأرحبي وعمارة بن عبيد السلولي فحملوا معهم نحوا من ثلاثة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة .
قال ثم لبثنا يومين آخرين ثم سرحنا إليه هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي وكتبنا معهما ( بسم الله الرحمن الرحيم ) لحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين : أما بعد فحيهلا فان الناس ينتظرونك ولا رأى لهم في غيرك فالعجل العجل والسلام عليك . وكتب شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي : اما بعد فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وطمت الجمام فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند والسلام عليك وتلاقت الرسل كلها عنده فقرأ الكتب وسأل الرسل عن أمر الناس . ثم كتب مع هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي وكان آخر الرسل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) من حسين بن علي إلى
الملاء من المؤمنين والمسلمين : أما بعد فان هانئا وسعيدا قدما علي بكتبكم وكانا آخر من قدم علي من رسلكم ، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم ومقالة جلكم : انه ليس علينا إمام فاقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق . وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي ، وأمرته ان يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم ، فان كتب إلي أنه قد أجمع رأى ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم علي مثل ما قدمت علي به رسلكم وقرأت في كتبكم أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله ، فلعمري ما الامام الا العامل بالكتاب والاخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله والسلام .
وكتب على ما نقله الطبري إلى أهل البصرة : ( منه نسخة واحدة إلى جميع أشرافها أما بعد فان الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم على خلقه وأكرمه بنبوته واختاره لرسالته ثم قبضه الله إليه وقد نصح لعبادة وبلغ ما أرسل به صلى الله عليه وسلم وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحق الناس بمقامه في الناس فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه وقد أحسنوا وأصلحوا وتحروا الحق فرحمهم الله وغفر لنا ولهم وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فان السنة قد أميتت وإن البدعة قد أحييت وأن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد والسلام عليكم ورحمة الله ).
و كل هذا يدل على أنه كان طالباً للحكم والسلطة ، ويطمع في الإصلاح بواسطة إقامة حكومة العدل الإلهي .
الدليل الثاني : هو أن الإمام (عليه السلام) بعد أن خذله أهل الكوفة وأحاطوا به طلب الانصراف والرجوع ، فقد نقل الشيخ المفيد في الارشاد ج 2 ص 86 : أن عمر بن سعد قرة بن قيس الحنظلي فقال له : ويحك يا قرة ، الق حسينا فسله ما جاء به وماذا يريد ؟ فأتاه قرة فلما رآه الحسين مقبلا قال : ” أتعرفون هذا ؟ ” فقال له حبيب بن مظاهر : نعم ، هذا رجل من حنظلة تميم ، وهو ابن أختنا ، وقد كنت أعرفه بحسن الرأي ، وما كنت أراه يشهد هذا المشهد . فجاء حتى سلم على الحسين عليه السلام وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه ، فقال له الحسين : ” كتب إلي أهل مصركم هذا أن أقدم ، فأما إذ كرهتموني فأنا أنصرف عنكم ” ثم قال حبيب بن مظاهر : ويحك يا قرة أين ترجع ؟ ! إلى القوم الظالمين ؟ ! انصر هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة ، فقال له قرة ؟ أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته ، وأرى رأيي . قال : فانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر ؟ فقال عمر : أرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله ، وكتب إلى عبيد الله بن زياد : بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد : فإني حين نزلت بالحسين بعثت إليه رسلي ، فسألته عما أقدمه ، وماذا يطلب ؟ فقال : كتب إلي أهل هذه البلاد ، وأتتني رسلهم يسألونني القدوم ففعلت ، فأما إذ كرهوني وبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم ، فأنا منصرف عنهم . قال حسان بن قائد العبسي : وكنت عند عبيد الله حين أتاه هذا الكتاب ، فلما قرأه قال :
ألآن إذ علقت مخالبنا به * يرجو النجاة ولات حين مناص
وكتب إلى عمر بن سعد :
أما بعد : فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت ، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه ، فإذا فعل هو ذلك رأينا ، والسلام .
وروى الطبري ج 4 ص 323 أنه ( عليه السلام) قال يوم العاشر: يا شبث بن ربعي ويا حجار بن أبجر ويا قيس ابن الأشعث ويا يزيد بن الحارث ألم تكتبوا إلى أن قد أينعت الثمار وأخضر الجناب وطمت الجمام وإنما تقدم على جندك لك مجند فأقبل قالوا له لم نفعل فقال سبحان الله بلى والله لقد فعلتم ثم قال أيها الناس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض).
وهذا يدل على أن خروجه كان للحكم ، فلما وجد أن الظرف لا يناسب أراد الانسحاب والرجوع ، لعدم تمكنه من تحقيق هدفه .
ويمكن أن نسجل على هذه النظرية التالي :
الملاحظة الأولى : هي أن الإمام الحسين ( عليه السلام) كان يعلم أنه لن يحكم ، والعاقل لا يقدم على فعل لتحقيق ما يعلم بأنه لن يتحقق ، والشواهد على علمه كثيرة جداً منها :
1ـ إخبار رسول الله (صلى الله عليه و آله ) .
فقد روى الطبراني بسنده عن عائشة حديثاً فيه: “ثم خرج إلى أصحابه ـ فيهم علي وأبو بكر وعمر وحذيفة وعمار وأبو ذر (رضي الله عنهم) ـ وهو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: أخبرني جبرئيل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة، وأخبرني أن فيها مضجعه”. (المعجم الكبير ج:3 ص:107 مسند الحسين بن علي: ذكر مولده وصفته ح:2814. مجمع الزوائد ج:9 ص:188 كتاب المناقب: باب مناقب الحسين بن علي (عليهم السلام) . كنز العمال ج:12 ص:123 ح:34299. فيض القدير ج:1 ص:266. وغيرها من المصادر) .
و عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) خطب في ذلك وقال: “ثم نزل عن المنبر، ولم يبق أحد من المهاجرين والأنصار إلا وتيقن بأن الحسين مقتول”. (مقتل الحسين للخوارزمي ج:1 ص:164ـ 165 الفصل الثامن، واللفظ له. الفتوح لابن أعثم ج:4 ص:328ـ330 ابتداء أخبار مقتل مسلم بن عقيل والحسين بن علي وولده) .
وقد نقل العلامة الأمين في كتابه النفيس ( سيرتنا وسنتنا) عشرياً مجلساً قام فيهما رسول الله (صلى الله عليه واله)وذكر شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) وبكى وأبكى ، وقد نقل المخالفون هذه المجالس في كتبهم .
2ـ إخبار أمير المؤمنين ( عليه السلام).
فقد روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لعمر بن سعد: “كيف أنت إذا قمت مقاماً تخير فيه بين الجنة والنار، فتختار النار؟!” (تاريخ دمشق ج:45 ص:49) .
و روى ابن أبي الحديد أنه قال: “روى ابن هلال الثقفي في كتاب الغارات عن زكريا بن يحيى العطار عن فضيل عن محمد بن علي قال: لما قال علي (عليه السلام): سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله لا تسألونني عن فئة تضل مائة وتهدى مائة إلا أنبأتكم بناعقتها وسائقته. قام إليه رجل فقال: أخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة شعر. فقال له علي (عليه السلام): والله لقد حدثني خليلي أن على كل طاقة شعر من رأسك ملكاً يلعنك، وإن على كل طاقة شعر من لحيتك شيطاناً يغويك، وإن في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وكان ابنه قاتل الحسين (عليه السلام) يومئذٍ طفلاً يحبو، وهو سنان بن أنس النخعي”. شرح نهج البلاغة ج:2 ص:286.
و في رواية قال أمير المؤمنين (عليه السلام) للبراء بن عازب: “يا براء أيقتل الحسين وأنت حي فلا تنصره؟!”. فقال البراء: “لا كان ذلك يا أمير المؤمنين”. فلما قتل الحسين (عليه السلام) كان البراء يذكر ذلك، ويقول: “أعظم بها حسرة إذ لم أشهده، وأقتل دونه” (شرح نهج البلاغة ج:10 ص:15، واللفظ له. الإرشاد ج:1 ص:331. إعلام الورى بأعلام الهدى ج:1 ص:345) .
3ـ إخبار الإمام الحسين (عليه السلام) نفسه .
فقد قال في خطبته قبل الخروج ( وخير لي مصرع أنا لاقيه) ، وقال ( من لحق بي استشهد) ، وأخبر بأنه رسول الله (صلى الله عليه وآله ) قال له : ( شاء الله أن يراك قتيلاً ). وروي أن عمر بن سعد قال للإمام الحسين (صلوات الله عليه): “إن قوماً من السفهاء يزعمون أني أقتلك”. فقال له الإمام الحسين (عليه السلام): “ليسوا بسفهاء ولكنهم حلماء. ثم قال: والله إنه ليقر بعيني أنك لا تأكل برّ العراق بعدي إلا قليلاً” (تاريخ دمشق ج:45 ص:48. تهذيب الكمال ج:21 ص:359. تهذيب التهذيب ج:7 ص:369. تاريخ الإسلام للذهبي ج:5 ص:195 ).
4ـ ما دل على وضوح استشهاده عند المسلمين .
فعن ابن عباس ـ أيضا ـ أنه قال: “ما كنّا نشك وأهل البيت متوافرون أن الحسين بن علي يقتل بالطف” (المستدرك على الصحيحين ج:3 ص:179 كتاب معرفة الصحابة: أول فضائل أبي عبد الله الحسين بن علي الشهيد (رضي الله عنهم) . السلسلة الصحيحة ج:3 ص:245 حديث:1171.مقتل الحسين للخوارزمي ج:1 ص:160 الفصل الثامن. إمتاع الأسماع للمقريزي ج:12 ص:328، ج:14 ص:145. وغيرها من المصادر) .
وعنه ـ أيضا ـ أنه قال: “أوحى الله إلى نبيكم (صلى الله عليه واله) أني قتلت بيحيى سبعين ألف. وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفاً” (المستدرك على الصحيحين ج:2 ص:290 وقال الحاكم بعد ذكر الحديث: “هذا حديث صحيح الإسناد لم يخرجاه”) .
وروى الشيخ المفيد أن عبد الله بن شريك قال: كنت أسمع أصحاب علي (عليه السلام) إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحسين بن علي (عليه السلام) . وذلك قبل قتله بزمان” (الإرشاد ج:2 ص:131ـ132. بحار الأنوار ج:44 ص:263.) .
وقال ابن الأثير: “قال عبد الله بن شريك: أدركت أصحاب الأردية المعلمة وأصحاب البرانس السود من أصحاب السواري إذا مرّ بهم عمر بن سعد قالوا: هذا قاتل الحسين. وذلك قبل أن يقتله” (الكامل في التاريخ ج:4 ص:242) .
وقال العريان بن الهيثم: “كان أبي يتبدى، فينزل قريباً من الموضع الذي كان فيه معركة الحسين. فكنا لا نبدو إلا وجدنا رجلاً من بني أسد هناك، فقال له: إني أراك ملازماً هذا المكان. قال: بلغني أن حسيناً يقتل ههن. فأنا أخرج، لعلي أصادفه، فأقتل معه. فلما قتل الحسين قال أبي: انطلقوا ننظر هل الأسدي فيمن قتل؟ وأتينا المعركة، فطوفنا فإذا الأسدي مقتول” (تاريخ دمشق ج:14 ص:216ـ217) .
وهذا يدل على أن قتل الإمام ( عليه السلام) كان مطلوباً لله تعالى ، لأن النبي لم ينه سبطه عن الخروج ، والحسين ( عليه السلام) مع أنه سيد سباب أهل الجنة ويفوق أعظم الأولياء درجة خرج إلى القتل عن علم ، فشهادته كانت بتدبير إلهي معلوم مسبقاً ، وهذا ما أكدت عليه روايات أهل البيت ( عليهم السلام) ، فعن ضريس الكناسي عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال: “قال له حمران: جعلت فداك أرأيت ما كان من أمر علي والحسن والحسين (عليهم السلام)، وخروجهم وقيامهم بدين الله عزّ وجلّ، وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظفر بهم حتى قتلوا وغلبو؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): يا حمران إن الله تبارك وتعالى [قد] كان قدر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه، ثم أجراه. فبتقدم علم ذلك إليهم من رسول الله (صلى الله عليه واله) قام علي والحسن والحسين (عليهم السلام) . وبعلم صمت من صمت منّا” . الكافي ج:1 ص:262.
و عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): قال: “إن الله عزّ وجلّ أنزل على نبيّه (صلى الله عليه واله) كتاباً قبل وفاته، فقال: يا محمّد هذه وصيتك إلى النُجَبَة من أهلك… فدفعه النبيّ (صلى الله عليه واله) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وأمره أن يفكّ خاتماً منه ويعمل بما فيه، ففكّ أمير المؤمنين (عليه السلام) خاتم، وعمل بما فيه. ثم دفعه إلى ابنه الحسن (عليه السلام)، ففكّ خاتماً منه، وعمل بما فيه. ثم دفعه إلى الحسين (عليه السلام)، ففكّ خاتم، فوجد فيه: أن اخرج بقوم إلى الشهادة، فلا شهادة لهم إلا معك، واشتر نفسك لله عزّ وجلّ. ففعل. ثم دفعه إلى عليّ بن الحسين (عليهم السلام) …” الكافي ج:1 ص:280.
الملاحظة الثانية: هي أن الإمام الحسين (عليه السلام) مع كمال عقله وسعة علمه واطلاعه على أحول الأمة ومجريات الأمور خالف كل من أشار عليه بعدم الخروج وفيهم عقلاء أصحاب رأي ، وقصد الكوفة مع تشتت كلمتهم و تقلب أحوالهم ومعاينه أذيتهم وغدرهم لسلفيه أمير المؤمنين والحسن (عليهما السلام) ، ولما لقي الفرزدق في الطريق سأله (عليه السلام) عن خبر الناس فقال: “الخبير سألت. قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء”. فقال (صلوات الله عليه): “صدقت. لله الأمر يفعل ما يشاء، وكل يوم ربنا في شأن. إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر. وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته، والتقوى سريرته”تاريخ الطبري ج:4 ص:290
فقد صدق الفرزدق في وصفه ومع ذلك استمر في الذهاب إلى الكوفة ، وبلغه بعد ذلك غدرهم وقتلهم لمسلم فبكى وقال (صلوات الله عليه): “رحم الله مسلما، فلقد صار إلى روح الله وريحانه وتحيته وغفرانه ورضوانه. أما إنه قد قضى ما عليه، وبقي ما علينا” .مقتل الحسين للخوارزمي ج:1 ص:223
و أخبر من معه بغدر أهل الكوفة وأسقط ما له عليهم من حق النصرة حتى فرقوا واستمر بالذهاب ، فقد نقل الطبري أن بكر بن مصعب المزني قال : “كان الحسين لا يمرّ بأهل ماء إلا اتبعوه حتى انتهى إلى زبالة سقط إليه مقتل أخيه من الرضاعة مقتل عبد الله بن بقطر… فأخرج للناس كتاباً فقرأ عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإنه قد أتانا خبر فظيع. قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن بقطر. وقد خذلتنا شيعتن. فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام”.
قال: “فتفرق الناس عنه تفرق، فأخذوا يميناً وشمال، حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة. وإنما فعل ذلك لأنه ظن إنما اتبعه الأعراب لأنهم ظنوا أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون على مَ يقدمون. وقد علم أنهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلا من يريد مواساته والموت معه” تاريخ الطبري ج:4 ص:300ـ301
ومن الواضح أن ذلك لا يفعله من يرد الحكم وعنده عقل ومستوى بسيط من الفهم ، فكيف يصدر من الإمام الحسين (عليه السلام) وهو سيد السادات وإمام الأئمة و ربيب النبوة بضعة الذي غذته يد رسول الله (صلى الله عليه آله)!
إن هذه الشواهد وغيرها تدل على أن الحسين (عليه السلام) لم يرد الإصلاح من خلال الإطاحة بحكم بني أمية وإقامة حكومة عادلة ، وإنما أرد الإصلاح بآلية ثانية خططها الله له ، وهي التي بينها هو على ما نقل جابر بسند معتبر عن الإمام الباقر (عليه السلام): “قال: قال الحسين (عليه السلام) لأصحابه قبل أن يقتل: إن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال لي: يا بني إنك ستساق إلى العراق. وهي أرض قد التقى بها النبيون وأوصياء النبيين. وهي أرض تدعى عمور. وإنك تستشهد به، ويستشهد جماعة من أصحابك…”. بحار الأنوار ج:53 ص:61ـ62.
لقد شاء الله تعالى أن يكون تغيير الإمام وإصلاحه من خلال سفك دمه ، لقد انحدرت المسلمون و ابتعدوا عن تعاليم النبي (صلى الله عليه وآله) حتى أفرز انحرافهم جعل يزيد على ما هو عليه خليفة لرسول الله( صلى الله عليه و آله) وممثلاً عنه وقائماً مقامه وأي هتك للدين ولمقام رسول الله أعظم من هذا ، وأي جهل وتعامي عن تعاليم الدين أكثر من هذا ، لقد بلغ واقع في تجذر الفساد والكساد وهلاك الإرادة وفشل العزيمة والانحراف عن الدين حداً لا يمكن إصلاحه إلا بإحداث زلزال عظيم يهز الأمة ويقلب كيانها ، فكانت تلك الهزة شهادة الحسين( عليه السلام) ، إن قتله وقل من معه وهم أبناء رسول الله وقرابته ، وسبي نسائه وهن ثقل رسول الله( صلى الله عليه وآله) أوقف المسلمين على فداحة واقعهم وخطر ما انتهى إليه حالهم ، وأثار الشكوك حول الثقافة السائدة التي أفرزت هذه الجريمة وشرعنتها
إن الحديث عن التقاء الأنبياء ( عليهم السلام) بكربلاء ، وما روي من الروايات التي بين بكاء الأنبياء عليه ، وما نشاهده في الزيارات من وراثته ( عليه السلام) للأنبياء لم يأت له عدة دلالات منها أن الحسين (عليه السلام) الامتداد الطبيعي للأنبياء و المحيي لمبادئهم حيث روى شجرتها بدمه الطاهر في وقت أوشكت فيه هذه الشجرة على الهلاك .
لم يكن الحسين مخدوعاً ببيعة أهل الكوفة ، أو ظاناً بالنصر بسبب ملاحظة ناقصة للواقع ومعطياته ، وإنما كان يسير ضمن مخطط إلهي نحو فتحه الذي تحقق.
وهذا لا ينافي أن يتصرف الإمام ( عليه السلام) ظاهراً تصرف من يريد الحكم ليبرر خروجه عند الذين لا يمكن أن يتقبلوا مشروع الشهادة أو يفعل ذلك و يطلب الرجوع إمعاناً في إلقاء الحجة أو إضفاء جنبة عاطفية على حركته تحرج خصومه ، وتقطع حجتهم ، مع علمه بأنهم لن يتركوه ولو طلب الانصراف وهذا ما صرح به لأخيه محمد بن الحنيفة في مكة حين قال له أخوه محمد بن الحنفية : ( إني أريد أن أشير عليك برأي فاقبله مني . فقال له الحسين عليه السلام : ( قل ما بدا لك ) . فقال : أشير عليك أن تنجو بنفسك عن يزيد بن معاوية . فقال الحسين عليه السلام) فقد أجابه بقوله : (يا أخي لو كنت في بطن صخرة لاستخرجوني منها فيقتلوني) ينابيع المودة ص 404.
و كتب إلى عبد الله بن جعفر الطيار : فوالله يا بن العم ، لو كنت في جحر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني حتى يقتلوني ، ووالله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في يوم السبت. بحار الأنوار : ج 45 ص 99 ، المنتخب للطريحي : ص 435 .
وقال له ابن الزبير : (أقم في هذا المسجد ـ الحرام ـ أجمع لك الناس ) فقال الحسين ( عليه السلام) له : ( والله لان أقتل خارجا منها بشبر أحب إلى من أن أقتل داخلا منها بشبر وأيم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني
حتى يقضوا في حاجتهم ووالله ليعتدن على كما اعتدت اليهود في السبت ).
وكيف ما كان مع العلم بأنه يعلم بشهادته لا يمكن أن نحمل تصرفه تصرف من يريد الحكم أو طلبه الانصراف على أنه كان يريد الحكم ، نعم يحتمل في وجهه عدة احتمالات ، منها ما أسلفناه.
الحمد لله رب العالمين
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً