على ضفاف الطف (٣)
بقلم : حيدر السندي
بِسْم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد واله الطاهرين
الأثر الثالث :المترتب على نهضة سيد الشهداء ( عليه السلام) هو الأثر التربوي وما ترتب عليه اجتماعياً وسياسياً .
فلقد أعاد الحسين (عليه السلام) العزة والكرامة إلى نفوس المسلمين وعلمهم دروساً في التضحية والفداء من أجل المبدأ وتغيير الواقع الفاسد ، ولكي يتضح هذا الأثر نتحدث في ثلاث نقاط :
النقطة الأولى : هي أن الأنظمة السابقة قامت على التخويف ثم تعقب ذلك التنكيل بالمعارضين والمخالفين ، ففي اليوم الأول الذي أرتحل فيه النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى اجتمع المسلمون في السقيفة ، وأراد الأنصار أن يكون منهم الأمير أو يكون منهم أمير ، فواجههم المكيون المتواجدون بالتهديد ، حيث هددوهم بالجيوش العربية الموالية لقريش والتي لا ترضى بزعيم من غيرها ، فقال أبو بكر للأنصار : (ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش).
قال ابن حجر : قوله : ( ولن يعرف) بضم أوله على البناء للمجهول ، وفي رواية مالك : ” ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، وكذا في روايةسفيان وفي رواية ابن إسحاق : ” قد عرفتم أن هذا الحي من قريش بمنزلة من العرب ليس بها غيرهم وأن العرب لا تجتمع إلا على رجل منهم ، فاتقوا الله لا تصدعوا الإسلام ولا تكونوا أول من أحدث في الإسلام فتح الباري : ج 12 ص 158.
وهذا كما هو واضح تهديد مباشر بقريش وحلفائها والتابعين لها الذي لا يقبلون تسلط غيرها ، وهذا ما تقتضه طبيعة الأمور في ذلك الوقت ، فقريش كانت محور العرب في والجزيرة ، و قد زالت سلطتها و انكسرت شوكتها على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأنصار وأفراد قليلين من قريش هاجروا إلى المدينة ، وفي مقدمتهم بنو هاشم ، وفي مقدمة بني هاشم أمير المؤمنين ( عليه السلام) ، و من جهة أخرى قريش حديثة عهد بالإسلام ، وأغلبهم كانوا إلى آخر حياة النبي (صلى الله عليه وآله) من ألد الخصام ، ولم يظهروا الإسلام إلا بعد غلبة المسلمين و تسلطهم على مكة ، فدواعي إظهار الإسلام خوفا من السيف ، أو من أجل الاندماج في المجتمع الإسلامي وحفظ مصالحهم أو البقاء على علاقتهم الأسرية وعدم التفريق بين الكافر وزوجته المسلمة ونحو ذلك موجودة ، فإسلامهم الباطني غير محرز ، لعله لهذا قال حذيفة : (إنما كان النفاق على عهد رسول الله فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان) البخاري كتاب الفتن. و في رواية ثانية : (إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون ) البخاري كتاب الفتن.
فإن هؤلاء الذي تظاهروا بالإسلام في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشملهم عفوه وصاروا من الطلقاء والعتقاء ، من القريب جداً بعد ارتحاله وشعورهم بضعف الدولة إسلامية أن يتحركوا من أجل إعادة أمجادهم ، بجعل الزعامة في قرشي منهم ، وليس في غير قريش أو في قرشي ينظرون إليه كعدو قوض حكمهم وأزال ملكهم وناصر رسول الله (صلى الله عليه وآله ) عليهم ، وهذا ما كانت تدركه الأنصار حتى قال الخباب بن المنذر تبريراً لطلبهم الخلافة فيهم في السقيفة : (، فإنا والله ما ننفس عليكم هذا الأمر ولكنا نخاف أن يليها أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم ) ، فقال عمر : (إذا كان ذلك فمت إن استطعت) فتح الباري : ج 12 ص 159.
غير أن التهديد بقريش وحلفائها كان جدياً كسر إرادة الأنصار ، وكان أول ما ترتب على هذا الضعف الهجوم على كبير المعارضين للقرشيين في السقيفة فقد قال عمر وهو يبين ما جرى بعد بيعة أبي بكر: ( ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت قتل الله سعد بن عبادة ).وزاد سفيان في روايته هنا : ” وإلا أعدنا الحرب بيننا وبينكم خدعة ، فقلت : إنه لا يصلح سيفان في غمد واحد ” وفي لفظ آخر ( بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس فقال قائل قتلتم سعد بن عبادة فقال عمر قتله الله) فتح الباري: ج12 ص 158.
وقد بينت عائشة حالة التخوف العامة التي تملكت المسلمين يوم ذاك فقالت – على ما نقل البخاري في صحيحه – : (لقد خوف عمر الناس وإن فيهم لنفاقا فردهم الله بذلك).
ثم بعد الهجوم على سعد هجمت السلطة على دار علي (عليه السلام ) و روايات العامة في الهجوم تفيد القطع بوقوعه فقد رواها ابن عقبة في مغازيه عن بأكثر من طريق إلى ابن عوف وروى عنه جماعة كثيرة منهم أبو الربيع الأندلسي و الطبري ومحمد بن يوسف الشامي و حسين بن محمد الدياربكري والحاكم وقال : صحيح بشرط الشيخين و البيهقي وأبو الفداء الشامي وقال : إسناده جيد وغيرهم ، كما أن سعيد بن منصور قال فيه: إنه حديث حسن.
ورواها أبو الحسن النوفلي و الواقدي ونصر بن مزاحم وروى عنه ابن عبد ربه الأندلسي وابن أبي الحديد و الخطيب الخوارزمي والقلقشندي وابن أبي الحديد وغيرهم.
كما رووا تأسف أبي بكر من كشف بيت فاطمة (عليها السلام) وممن روى ذلك الحافظ بن عبيد وسعيد بن منصور واليعقوبي والطبري و الأندلسي و الطبراني وبن عساكر والضياء المقدسي والذهبي وابن كثير والسيوطي وغيرهم ، نعم حاول البعض التشكيك في السند ولكن البحث ليس في صحة آحاد الروايات وإنما إفادة المجوع للتواتر . ومما روى البلاذري : أن أبا بكر قال عن علي ائتني به بأعنف العنف . راجع أنساب الأشراف ج 1 ص 587 .
ونقل القوم لها يفيد القطع بوقوعها لأنها على خلاف مذهبهم ولا يعقل من عاقل أن يتعمد وضع ونقل ما على خلاف مذهبه ، فهذه قرينة عقلائية على صحة الواقعة .
ولوضوح وقوع الهجوم صرح بوقوعها المخالفون و ممن صرح :
1ـ ابن أبي دارم حيث نقل عنه الذهبي في ميزان الاعتدال أن الزهراء بسبب رفسة أسقطت بمحسن. راجع ج 1 ص 139.
2ـ قال ابن تيمية : نحن نعلم يقيناً أن أبا بكر لم يقدم على علي والزبير بشيء من الأذى، بل ولا على سعد بن عبادة المتخلِّف عن بيعته أولاً وآخراً، وغاية ما يقال: إنه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه، وأن يعطيه لمستحقه، ثم رأى أنه لو تركه لهم لجاز، فإنه يجوز أن يعطيهم من مال الفيء .منهاج السنة 4/343.
و دعونا نطوي الحديث عن هذه المرحلة لننتقل إلى الحقبة التي حكم فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) لنقف على شيء من جرائم بني أمية بالتحديد ، فقد خرج معاوية ـ باتفاق الشيعة ومن يطلق علهم أهل السنة والجماعة ـ على إمام زمانه الشرعي ، وسل السيف في وجهه وقتل بذلك آلاف المسلمين من الفريقين ، وفيهم من كبار الصحابة كعماربن ياسر الذي أخبر رسول الله( صلى الله عليه واله) في المتواتر : بأنه تقتله الفئة الباغية ، وقد كانت لجيش الشام الباغي حملات إرهابية إجرامية على بلاد المسلمين الهدف منها زعزعة الأمن والنظام وإرباك الحكومة الإسلامية كما تفعل المنظمات الإرهابية المنشقة في هذا العصر ، وقد تحدث أمير المؤمنين (عليه السلام) عن بعض تلك الحملات بقوله : (لقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام … إلى أن يقول : فوالله لو أن امرء مسلما مات من هذا أسفا ، ما كان عندي ملوما بل كان عندي جديرا ).
ومن حملاتهم الإجرامية الإرهابية التي هي سلف ما عليه الدواعش وأمثالهم اليوم الحملات التي سيرتها دمشق آنذاك إلى الحجاز واليمن بقيادة بشر بن أرطأة ، فان معاوية بعث بسر إلى اليمن سنة أربعين ليعيث فيها ، وكان الوالي عليها يومئذ من قبل أمير المؤمنين ابن عمه عبيد الله بن العباس وأهلها كانوا من أولياء أمير المؤمنين والمخلصين لله تعالى في ولايته . فسامهم بسر سوء العذاب ! يذبح أبناءهم ! ويستحيي نساءهم ! ! على سنة من فرعون . ( راجع أنساب الأشراف للبلاذري ج 2 / 453 – 457 ، تاريخ الطبري ج 5 / 140 ، الكامل لابن الأثير ج 3 / 383 ، الغدير ج 11 / 16 و 20 ، الاستيعاب بهامش الإصابة ج 1 / 65 و 66 ، وفاء الوفاء ج 1 / 31 ، البداية والنهاية ج 7 / 319 – 322 ، تاريخ ابن عساكر ج 3 / 222 و 459 ).
وما ينسى فلن ينسى ما فعله بنساء همدان ( بإخلاصهن لله في ولاية آل محمد ) إذ سباهن فأقامهن ، ( كما في ترجمة بسر من الاستيعاب ) في السوق وكشف عن سوقهن ! ! فأيتهن كانت أعظم ساقا اشتريت على عظم ساقها ! !
قال ابن عبد البر في الاستيعاب : كن أول مسلمات سبين في الإسلام.
وما أدري أهذه أفظع وأفجع وأوجع ، أم فعله بطفلي عبيد الله بن العباس ؟ ! الوالي يومئذ على اليمن ، فهرب من بسر واستخلف عبيد الله بن عبد المدان الحارثي وهو جد الطفلين لامهما ، فقتله بسر فيمن قتلهم يومئذ من الألوف المؤلفة من خيار المسلمين ، وقتل ابنه وبحث عن الطفلين حتى وجدهما عند رجل من كنانة في البادية ، فلما أراد بسر قتلهما قال له الكناني ( كما في تاريخ ابن الأثير ) : لم تقتلهما وهما طفلان لا ذنب لهما ؟ ! فان كنت قاتلهما فاقتلني قبلهما . فقتله ! ثم ذبحهما بين يدي أمهما ! ! ( كما نص عليه ابن عبد البر في ترجمة بسر من الاستيعاب ) فهامت أمهما على وجهها جنونا مما نالها ، وكانت تأتي الموسم تنشدهما فتقول :
يا من أحس بابني الذين هما * كالدرتين تشظي عنهما الصدف
يا من أحس بابني الذين هما * مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
يا من أحس بابني الذين هما * قلبي وسمعي فقلبي اليوم مختطف
من دل والهة حيرى مدلهة * على صبيين ذلا إذ غدا السلف
نبئت بسرا وما صدقت ما زعموا * من افكهم ومن الاثم الذي اقترفوا
وقالت له امرأة من كنانة لما ذبحهما ( كما في تاريخ ابن الأثير ) : يا هذا قتلت الرجال ! فعلام قتلت هذين ؟ ! والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية ، والله يابن أبي ارطاة ان سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير ، والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء .راجع النص والاجتهاد ص 417.
ولما تمكن معاوية من السلطة تتبع معارضة و اشتغل تصفيةً فيهم ، فسم الامام الحسن (عليه السلام) .
قال أبو الفرج الاصفهاني المرواني في كتابه مقاتل الطالبين ما هذا لفظه : وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن شئ اثقل عليه من أمر الحسن بن علي ، وسعد بن أبي وقاص ، فدس إليهما سما فماتا منه .
و من الذين قتلهم :
1ـ حجر بن عدى الكندي الصحابي الجليل وستة من أصحابه وهم:
2ـ شريك بن شداد الحضرمي .
3ـ وصيفى بن فسيل الشيباني .
4ـ وقبيصة بن ضبيعة العبسى .
5ـ ومحرز بن شهاب المنقرى .
6ـ وكدام بن حيان العنزي .
7ـ وعبد الرحمن بن حسان العنزي .
8ـ عمرو بن الحمق الخزاعي الصحابي العظيم وحمل رأسه وهو أول رأس حمل في الاسلام .
9ـ مسلم بن زيمر الحضرمي .
10 ـ عبدالله بن نجى الحضرمي .
11ـ مالك بن الحارث الأشتر النخعي .
12ـ محمد بن أبى بكر قتل ووضع في جيفة حمار ثم احرق .
( راجع : تاريخ الطبري ج 5 / 253 – 280 و 95 – 105 ، عيون الأخبار لابن قتيبة ج 1 / 147 ، الكامل لابن الأثير ج 3 / 352 – 357 و 482 – 488 ، الغدير للأميني ج 11 / 37 – 70 ، أحاديث أم المؤمنين عائشة للعسكري ج 1 / 257 – 260 ، الأغاني لأبي الفرج الاصفهانى ج 16 / 2 – 11 ) .
وقد استمر التعذيب و القتل و الصلب في دولة بني أمية على يد ولاة الجور كزياد بن أبيه وابنه والحجاج وخالد القسري ، ولعل مراجعة كتاب ( أخبار المصلوبين وقصص المعذبين في العصرين الأموي والعباسي) لعبد الأمير مهنا توقف الباحث على شيء مما حفظه التاريخ من هذه الجرائم التي يندى لها جبين و ترتب عليها إركاع الأمة ، حيث خُلق فيها الهلع والخوف والفزع وسلبت منهم الارادة وصودر الرأي ، فأصبحت الامة خانعة خائفة لا تجدون سبيلاً إلا قبول ما عبرنا عنه بالثقافة الرائجة والتي ترى للسلطة مهما كان حالها من حيث الفساد والجرم شرعية تحرم وتجرم مخالفتها و الاعتراض عليها .
النقطة الثانية : لقد تحرك الحسين ( عليه السلام) في هذا الجو الإرهابي فخرج بأهل بيته ونسائه والخُلص من أصحابه ، وواجه المعسكر الأموي بكل شجاعة و بسالة ، وقدم التضحيات الجسام ، بذل الأهل حتى طفله الرضيع ، وقدم الأصحاب الذي كانوا مع أهله يتساقطون أما عينه كتساقط النجوم في ليلة سواء مظلمة ، وما كان يبدوا منه الضعف والوهن ، وإنما كان كلما أشتد عليه الأمر يشرق وجهه ويزداد تلألؤاً حتى قال فيه بعض من حضر كربلاء : و الله ما رأيت مكثورا قط قد قتل ولده و أهل بيته و أصحابه أربط جأشا و لا أمضى جنانا و لا أجرأ مقدما منه و الله ما رأيت قبله و لا بعده مثله و إن كانت الرجالة لتشد عليه فيشد عليها بسيفه فتنكشف عن يمينه و عن شماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب، و لقد كان يحمل فيهم فينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر.
وقبل يوم عاشوراء أطلق (عليه السلام) بياناته الحماسية المدوية التي أخبر فيها بأنه مشروع شهادة وأنه يريد الإصلاح بسفك دمه ، وأنه شديد الشوق إلى القتل في سبيل الله تحدياً لأعداء الله و إعلاءً لكلمة الحق ، فهو الذي قام في خطبته في مكة المكرمة قائلا : ( وخير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا ) وهو القائل للحر ومن معه : ( إني لا أرى الموت إلا سعادة والعيش مع الظالمين إلا برما ) ولما أراد الحر أن يخوفه بالموت قال : ( أفبالموت تخوفني وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ، لا أقول لك إلا ما قاله أخو الأوس:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى * إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما
وواسى الرّجال الصالحين بنفسه * وفارق مثبوراً وخالف مجرما
فإن عشت لم أندم وإن متّ لم ألم * كفى بك موتاً أن تذّل وترغ
وهو أبي الضيم القائل لابن الأشعث يوم عاشوراء : (لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد ) ، و هو المقبل على شهادة بقلب مطمئن مخلص مع ضعف جيشه وقوة خصومه قائلا: (لا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين : بين السلة والذلة ، وهيهات منا الذلة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ،وحجور طابت وطهرت ، وأنوف حمية ، ونفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ، ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر ).
حقيق أن تكتب هذه الكلمات بماء الذهب على صفائح الفضة ، لأنها عِبَرٌ ودروس تربوية تحيي النفوس الخانعة الخائفة التي أماتها الوهن ، وتزرع فيها العزة والكرامة والإقدام والبسالة ، إن الحسين (عليه السلام) قد أراد لثورته المباركة أن تتجلى فيها عدة عناصر ، ليكون لها تأثير تربوي في نفوس الأمة :
العنصر الأول : عدالة القضية ، فأي عاقل مجرد عن العصبية يقبل أن يكون يزيد على الحق ، والحسين (عليه السلام) على الباطل ، خصوصا مع كونه( عليه السلام) الأحق حتى بحسب معتقد الثقافة الرائجة لوجود بند في صلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية ، يجعل الأمر للحسين لا لغيره بعد معاوية .
العنصر الثاني : اتصال حركته بالنبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله) فالحسين بضعته وريحانته وأحد الذي جللهم بكسائه وأخبر الله بطهارتهم ، وسيد شباب أهل الجنة ، و عدل القرآن .
العنصر الثالث : الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى جعل الحركة محط عناية الناس واهتمامهم بالحد الأعلى ، وتلك أسباب كثيرة جداً من أهمتها السببان التاليان :
1ـ الإعلام .
فقد أطلق عدة شعارات في قوالب أدبية تحرك المشاعر و تهز وجدان كل من يسمعها ، وقصد مكة وهي مجمع المسلمين في موسم الحج ، ثم خرج قبل الموقف بيوم ، وهذا ما يلفت النظر ويدعو الى التساؤل ، و أخذ الثقل الهاشمي ومعهم النساء والأطفال ، وسلك الطريق الرئيسي مع وضوح تعقب الدولة له و تحينها الفرص للقضاء عليه ، وقصد حاضرة من أهم الحواضر ذات التيارات المختلفة والمتضاربة وهي الكوفة .
2ـ ربط الموعظة بالعاطفة ، والعِبرة بالعَبرة ، و كشف الستار عن الوجه الدموي القبيح للسلطة.
العنصر الثالث : تفوق الفعل في الحماسة و الإقدام على القول ، إن الحسين ( عليه السلام ) كان يعلم بإخلاص أصحابه له وعدم تركهم إياه ، ومع ذلك خيرهم بين البقاء والشهادة أو الرحيل والسلامة ، فقد جمع أصحابه ليلة العاشر من المحرم ثم قال : ( أثني على الله حسن الثاء و أحمده على السراء والضراء اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين فاجعلنا لك من الشاكرين أما بعد فإني لا أعلم أصحابا أوفي ولا أخير من أصحابي ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعا عني خيرا ألا وإني لأظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا وإني قد أذنت لكم جميعا فانطلقوا في حل ليس عليكم مني ذمام هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعا خيرا ثم تفرقوا في البلاد في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله فإن القوم يطلبوني ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري .
فقال له أخوته وأبناؤه وأبناء إخوته وأبناء عبد الله بن جعفر : لم نفعل ؟ هذا لنبقي ! بعدك لا أرانا الله ذلك أبدا فقال الحسين ( عليه السلام ) : يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم اذهبوا فقد أذنت لكم قالوا وما نقول للناس نقول تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا لا والله لا نفعل ولنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك !
وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال أنحن نتخلى عنك ولم نعذر إلى الله في أداء حقك أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي والله لو لم يكن معي سلاحي لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك . وتكلم أصحابه بنحو هذا ، فجزاهم الله خيرا ).
إن الحسين ( عليه السلام) بهذا أراد أن ينحت في جدران قلوب الناس مواقف عملية تنعكس على وجدانهم وسلوكهم ، ليصبحوا أحراراً في دنياهم متفانين في تحقيق أهدافهم ولو على حساب النفس والأهل والمال .
النقطة الثالثة : لقد استطاع الحسين ( عليه السلام) من خلال نهضته المقدسة أن يحقق هذا الأثر التربوي العظيم ، ولو أطلعنا على الدرسات المستقلة التي قام بها عدد كبير من المستشرقين للنهضة الحسينية لوقفنا على رصدهم المدروس لترتب هذا الأثر وغيره ، فالصحافي الألماني جرهارد كنسلمان يقول : ( إن الحسين ومن خلال ذكائه قاوم خصمه الذي ألب المشاعر ضد آل علي وكشف يزيد عبر موقفه الشريف والمتحفظ ) و يقول المستشرق الهنغاري أجنانس غولد تسيهر : ( قام بين الحسين بن علي والغاصب الأموي نزاع دام، وقد زودت ساحة كربلاء تاريخ الإسلام بعدد كبير من الشهداء.. اكتسب الحداد عليهم حتى اليوم مظهراً عاطفياً). و يقول المستشرق الفرنسي ـ هنري ماسيه : (في نهاية الأيام العشرة من شهر محرم طلب الجيش الأموي من الحسين بن علي أن يستسلم، ولكنه لم يستجب، واستطاع رجال يزيد الأربعة آلاف أن يقضوا على الجماعة الصغيرة، وسقط الحسين مصاباً بعدة ضربات، وكان لذلك نتائج لا تحصى من الناحيتين السياسية والدينية).
ويقول المؤرخ الإنكليزي جيبون : (إن مأساة الحسين المروّعة ـ على الرغم من تقادم عهدها ـ تثير العطف وتهز النفس من أضعف الناس إحساساً وأقساهم قلباً. إن مذبحة كربلاء قد هزّت العالم الإسلامي هزاً عنيفاًى) . ويقول الزعيم الهندي المهاتما غاندي: (وبعد دراسة عميقة لسائر الأديان عرف الإسلام بشخصية الإمام الحسين ) وقال مخاطباً الشعب الهندي: على الهند إذا أرادت أن تنتصر أن تقتدي بالإمام الحسين… تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فانتصر) . و يقول : العالم الإيطالي ـ الدومييلي : ( نشبت معركة كربلاء التي قتل فيها الحسين بن علي، وخلفت وراءها فتنة عميقة الأثر، وعرضت الأسرة الأموية في مظهر سيء، ولم يكن هناك ما يستطيع أن يحجب آثار السخط العميق في نفوس القسم الأعظم من المسلمين على السلالة الأموية والشك في شرعية ولا يتهم). ويقول الكاتب الإنكليزي توماس لايل لما شاهد حماسة الحسين المتدفقة في دماء المعزين في المواكب : ( لم يكن هناك أي نوع من الوحشية أو الهمجية، ولم ينعدم الضبط بين الناس.. فشعرت في تلك اللحظة وخلال مواكب العزاء وما زلت أشعر بأني توصلت في تلك اللحظة إلى جميع ما هو حسن وممتلئ بالحيوية في الإسلام، وأيقنت بأن الورع الكامن في أولئك الناس والحماسة المتدفقة منهم بوسعهما أن يهزا العالم هزا. فيما لو وجّها توجيهاً صالحاً وانتهجا السبل القويمة ولا غرو فلهؤلاء الناس واقعية فطرية في شؤون الدين) . و يقول المستشرق الأميركي غوستاف غرونييام : ( الكتب المؤلفة في مقتل الحسين تعبر عن عواطف وانفعالات طالما خبرتها بنفس العنف أجيال من الناس قبل ذلك بقرون عديدة. ان واقعة كربلاء ذات أهمية كونية، فلقد أثرت الصورة المحزنة لمقتل الحسين الرجل النبيل الشجاع في المسلمين تأثيراً لم تبلغه أيّة شخصية مسلمة أخرى) .
إن هذه الكلمات وغيرها لم تأت من فراغ وإنما هي نتيجة رصد تاريخي لما وقع في كربلاء وبعدها إلى يوم الناس هذا ، فقد تغيرت شريحة كبيرة من الناس و اكتسبت من الحسين (عليه السلام) الشجاعة والإقدام والتضحية في سبيل المبدأ والعقيدة ، فقد انطلقت من النخيلة ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد ، وكان الشعار ( يا لثارات الحسين ) ، وكانت هذه الحركة كحركة زيد فيما بعد يقودها العلماء والفقهاء ، ومن الواضح بحسبب السنن التاريخية أن القضاء على ثورة العالم عسكرياً لا ينهي الثورة فكرياً وثقافياً ، فالعالم لا يتحرك بدنيا فقط وانما يتحرك فكريا علاوة على ذلك ، وهذا يعني بقاء من يحمل ثقافة العالم في حركته ، ويشتعل إصراراً و إقداماً بسبب مشاهدته للتضحيات العملية التي قدمها في ميدان الجهاد .
و تحرك المختار داعياً للرضا من آل البيت ، و استطاع أن يقضي على جملة من رؤوس الفساد ودعاة الإرهاب ، وتمكن إلى حد ما من إيجاد بيئة مناسبة لأهل البين ( عليهم السلام) و لترعرع نهجهم ( عليهم السلام) في الكوفة وغيرها دون خوف من بني أمية ، وقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام ) أنه قال : (لا تسبوا المختار فإنه قد قتل قاتلنا وطلب بثأرنا وزوج أراملنا وقسم فينا المال على العسرة).
و ثار أهل المدينة ووقعت فيهم مجازر خلدها التاريخ على يد مسلم بن عقبة ، وقتل فيها خيرة أهل المدينة ومنهم الصحابة . وهكذا تتالت الأحداث حتى زال حكم آل أبي سفيان ، واللطيف أن عبد الملك بن مروان لما تولى الحكم صعد على المنبر مهدداً يقول : ( إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف يعني عثمان ، ولا بالخليفة المصانع يعني معاوية ! وإنكم تأمروننا بأشياء تنسونها منه في أنفسكم ، والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه ) ! ( أحكام القرآن : 1 / 86 ) ولكن لما كتب إليه الحجاج : ( كتب الحجاج إلى عبد الملك : إن أردت أن يثبت ملكك فاقتل علي بن الحسين) رد عليه : (جنبني دماء بني هاشم ( أو بني عبد المطلب ) فإن آل أبي سفيان لما غلوا فيها لم يلبثوا بعدها إلا قليلاً).
إن كل هذا الوعي العام الذي تحقق بعد كربلاء وعصف بالدولة الأموية واستمر الى اليوم ، ونشاهده دئما يتجدد ما كان ليستمر لولا الحسين ( عليه السلام) وكربلاء ، فبالحسين بقاء الدين و هو منبع المعارضة والحماسة ، ومن عبق كرامته يستنشق المجاهدون أريح العزة والاباء .
الحمد لله رب العالمين
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً