بقلم : حيدر السندي
بِسْم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والسلام والسلام على محمد واله الطاهرين.
الأثر الثاني : هو إصلاح أمر الدين .
فقد ترتبت فوائد دينية كثيرة على نهضة سيد الشهداء (عليه السلام) ، وقد تقول ما هي الفوائد الدينية المترتبة وقد أستمر تسلط الظالمين وولوغهم في الدماء وسلب حقوق الناس والتاريخ الواقع مباشرة بعد شهادة الحسين (عليه السلام) وإلى اليوم مليء بتسلط الظالمين و الظلم والمجازر و هتك الحقوق والإفساد والفساد؟
والجواب عن هذا السؤال هو : أن الحسين (عليه السلام) كإمام معصوم معلم من الله تعالى ، ويتصف بالوعي والحكمة ، ويتحرك ـ كما سوف نبين ـ وفق تخطيط إلهي متقن لا يمكن أن يكون غرضه من الخروج غرضاً لا يترتب على خروجه ، وذلك لأن جعل الغرض غير المترتب خارجاً مع التسليم بإمامة الحسين (عليه السلام) وعصمه يعني نسبة الجهل أو العبث إلى الله تعالى ، لأن الله أمره بالخروج لذلك الغرض ، والحسين (عليه السلام) لمكان عصمته خرج لذلك ولم يترتب الغرض ، وهذا يعني أن الله عز وجل إما يعلم بعد ترتب هذا الغرض من خلال هذه الحركة التي أمر بها ، فيكون أمره لعباً وعبثاً ، وإما لا يعلم فيكون ـ تعالى جاهلاً ـ وكلاهما مستحيل في حقه عز وجل .
و هذا يعني أن أي نتيجة لم تترتب على خروجه (عليه السلام ) لا يمكن أن تجهلا هدفاً لخروجه ، فعلى سبيل المثال لا يمكن أن نقول أن خروجه من أجل تغيير الحاكم والإطاحة بعرش يزيد ، أو من أجل الحصول على الحكم أو تحصيل منصب مرموق في الدولة ، أو تعديل الوضع الإقتصادي في ذلك الظرف ، أو منع استمرار حكومات الجور أو صدور الذنوب من الخلق ، لأن كل هذه أسباب لم تتحقق ، نعم لا مانع من أن يكون هدفه التمهيد لحكومة الإسلام والإطاحة بحكومات الجور ولكن في المستقبل حيث كان لخروجه آثار عقدية و شرعية وتربوية ، و استمرت صرخته مدوية تصنع روح الإيمان والكرامة في نفوس الصادقين من عباد الله حتى قامت دولاً على منهجه الحق وسوف تتوج هذه الدول بدولة العدل الإلهي ـ إن شاء الله ـ على يد حفيده المهدي (عليه السلام).
الإصلاح الديني هدف الحسين (عليه السلام):
وهذا يدعونا إلى أن نتأمل أكثر لمعرفة النتائج الإصلاحية المهمة التي ترتبت على خروجه (عليه السلام ) فإن مما لا شك فيه أن الحسين (عليه السلام) كان مصلحاً وترتب على نهضته صلاح الدين والواقع الإسلامي ، وهذا الصلاح لا ينافي استمرار ما نشاهده من بقاء حكومات الجور واستمرار الناس على الفساد والمعاصي والتسلط واستثمار السلطة من أجل المصالح الشخصية أو الفئوية ، و قد تعرضت الروايات إلى تلك النتائج وإليك أولاً بعض هذه الروايات ، ثم بعدها ندخل في عملية تحليل الصلاح الذي ترتب واستمر أثره إلى يوم الناس هذا ، وهو ما يبرر عناية أهل البيت (عليهم السلام ) الفائقة بإحياء نهضة الحسين (عليه السلام) و تبيينها وتبيين مقاصدها و الحث على الحفاظ عليها بطرق عقلائية مختلفة على ما سوف تقف عليه إن شاء الله في مستقبل هذه الحلقات.
1ـ نقل العلامة المجلسي (رحمه الله) عن الشيخ المفيد (رحمه الله ) في ج 44 ص 330 : وتهيأ الحسين عليه السلام للخروج عن المدينة ، ومضى في جوف الليل إلى قبر أمه فودعها ، ثم مضى إلى قبر أخيه الحسن ففعل كذلك ، ثم رجع إلى منزله وقت الصبح ، فأقبل إليه أخوه محمد ابن الحنفية وقال : يا أخي أنت أحب الخلق إلي وأعزهم علي ولست والله أدخر النصيحة لأحد من الخلق ، وليس أحد أحق بها منك لأنك مزاج مائي ونفسي وروحي وبصري وكبير أهل بيتي ، ومن وجب طاعته في عنقي ، لأن الله قد شرفك علي ، وجعلك من سادات أهل الجنة . وساق الحديث كما مر إلى أن قال : تخرج إلى مكة فان اطمأنت بك الدار بها فذاك وإن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن ، فإنهم أنصار جدك وأبيك ، وهم أرأف الناس وأرقهم قلوبا ، وأوسع الناس بلادا ، فان اطمأنت بك الدار ، وإلا لحقت بالرمال وشعوب الجبال ، وجزت من بلد إلى بلد ، حتى تنظر ما يؤل إليه أمر الناس ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين .
فقال الحسين (عليه السلام) : يا أخي والله لو لم يكن ملجأ ، ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية ، فقطع محمد ابن الحنفية الكلام وبكى ، فبكى الحسين (عليه السلام) معه ساعة ثم قال : يا أخي جزاك الله خيرا ، فقد نصحت وأشرت بالصواب ، وأنا عازم على الخروج إلى مكة ، وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي ، وأمرهم أمري ورأيهم رأيي ، وأما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة ، فتكون لي عينا لا تخفي عني شيئا من أمورهم .
ثم دعا الحسين (عليه السلام) بدواة وبياض وكتب هذه الوصية لأخيه محمد :” بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف يا بن الحنفية أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأن محمدا عبده ورسوله ، جاء بالحق من عند الحق ، وأن الجنة والنار حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب عليه السلام فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين ، وهذه وصيتي
يا أخي إليك وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
ثم طوى الحسين الكتاب وختمه بخاتمه ، ودفعه إلى أخيه محمد ثم ودعه وخرج في جوف الليل .
أقول : وفي هذا الرواية بين (عليه السلام ) النتيجة التي يريدها وهي الإصلاح في أمة النبي (صلى الله عليه وآله) وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يكون ذلك إلا بالسير بسيرة رسول الله وأمير المؤمنين (عليهما السلام) ولهذا هو يريد أن يسير في الأمة بسيرتهما .
و لا ينبغي الغفلة عما ذكرناه سابقاً من أن الإصلاح المنشود لا يمكن أن يكون أمراً لم ولن يتحقق ، وإنما هو أمر متحقق في الزمان السابق أو سيتحقق في المستقبل .
2ـ في زيارة سيد الشهداء يوم الأربعين التي نقلها الشيخ في المصباح ص 789: اللهم ! إني أشهد أنه وليك وابن وليك وصفيك وابن صفيك الفائز بكرامتك أكرمته بالشهادة وحبوته بالسعادة واجتبيته بطيب الولادة وجعلته سيدا من السادة وقائدا من القادة وذائدا من الذادة وأعطيته مواريث الأنبياء وجعلته حجة على خلقك من الأوصياء ، فأعذر في الدعاء ومنح النصح وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة.
3ـ ما نقله الشيخ في مناسك الزيارات ونقله عنه الوافي ج 4 ص 1502 من أن الزائر للحسين (عليه السلام ) يقول : اللهم إني أشهد أن هذا القبر قبر حبيبك وصفوتك من خلقك الفائز بكرامتك أكرمته بالشهادة وأعطيته مواريث الأنبياء وجعلته حجة على خلقك فأعذر في الدعوة وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الضلالة والجهالة والعمى والشك والارتياب إلى باب الهدى والرشاد .
أقول : في هاذين المقطعين ذكرت عدة نتائج دينية لنهضة سيد الشهداء (عليه السلام) ، وهي تفصيل للإصلاح في أمة رسول الله ( صلى الله عليه وأله) الذي بينه الإمام الحسين (عليه السلام) كهدف لخروجه في وصيته لمحمد بن الحنفية ( رضوان الله تعالى عليه ) .
أ ـ إخراج العباد من الجهالة .
ب ـ إخراج العباد من حيرة الضلال و الابتعاد عن الحق .
و قيل هناك فرق بين هاتين النتيجتين ، فالجهلة فعل أمر مذموم مخالف للمبررات العقلية والعقلائية ، أو هو مفهوم شامل لذلك ، وأما حيرة الضلال فهي شعور نفسي بسبب الجهل بالحق أو اشتباهه بالباطل ، ولعله لهذا عطفت الفقرة الثانية العمى والشك والارتياب على الجهالة فقالت : (ليستنقذ عبادك من الضلالة والجهالة والعمى والشك والارتياب إلى باب الهدى والرشاد .).
ج ـ بيان الدين الحقيقي المجرد عن الشوائب والعوالق ، وهذا يستفاد من النتيجتين السابقتين ، فإن إخراج الناس من الجهالة و حيرة الضلال لا يمكن أن يكون إلا ببيان الحق وإقامة الحجة البالغة ، يقول تعالى : { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} .
إصلاح الدين بتهذيبه :
ولكي يتضح الإصلاح الحسيني المستمر ومقدار تأثيره في واقعنا المعاش أذكر عدة نقاط :
النقطة الأولى : هي أن الدين الإسلامي لا يمكن أن يكون محققاً لغرض الله من الخلقة إلا إذا كان خالصاً عن الله تعالى في عقائده وتشريعاته وقوانينه ، وهذه النقطة واضحة جلية لا تحتاج إلى بيان .
النقطة الثانية : لا يمكن أن يكون الدين الإسلامي خالصاً عن الله تعالى إلا إذا كانت مصادر إثبات قضاياه مصادر مرضية عند الله عز وجل ومأمونة في بلاغها لأحكام الله العقدية والفقهية والأخلاقية ، وهذه أيضاً نقطة جلية واضحة ، وقد أهتم بها مذهب أهل البيت( عليهم السلام) اهتماماً بالغاً فإن الشيعة الإمامية ( أنار الله برهانهم ) أخذوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خلال روايات متواترة يعضدها دليل العقل ـ كحديث الثقلين والغدير والمنزلة و روايات نزول آية التطهير في أهل الكساء ـ عقيدة الإمامة الإلهية التي لا تثبت إلا بالنص ، ولا تكون إلا للمعصوم في تبليغه وتطبيقه .
النقطة الثالثة : هي أن جمهور المسلمين بعد ارتحال النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) لم يقبلوا المنهج القويم الذي حدده رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أخذ معالم الدين ، فسلكوا مسلكاً آخر أفرزته السقيفة دون أن يكون هناك مستند ظاهر سوى وجوه استحسانية ذكرها قرشي لم يُدعمها بآية أو حديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد فصلت الكلام في ذلك في بحثي عن السقيفة .
والغريب أن بعض المذاهب الإسلامية تستبعد ترك المسلمين لوصية رسول الله في آله ونصه على إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام) بحجة أن هذا مستبعد عن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وصدور ذلك منه يعني نسبة الفشل إليه ، وقد غفل هؤلاء عن أن النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله ) كنبي الله موسى ( عليه السلام) وظيفته بيان الحق على جبر الناس عليه ، والقرآن الكريم بين لنا أن أمة موسى في حيته تركت وصيه هارون و انقلبت عليه واستضعفته ، فهل هذا فشل في نبي الله موسى أو تقصير من أمته .
والذي يكسر هذا الاستبعاد أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله) عاش مع المسلمين قرابة 23 سنة يصلي في كل يوم منها على الأقل خمس صلوات وهم ينظرون إليه ويسمعون تعاليمه في كيفية الصلاة ، ومع ذلك ينقل البخاري في كتابه أن المسلمين في زمن الصحابة وفي القرون الأول من القرون الثلاثة الأولى أضاعوا صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) !
فقد نقل البخاري برقم : ٦٧٧ :عن أبي قلابة قال جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال إني لاصلى بكم وما أريد الصلاة اصلى كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلى فقلت لأبي قلابة كيف كان يصلى قال مثل شيخنا هذا قال وكان شيخنا يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض في الركعة الأولى . ونقل عن عمران بن حصين قال صلى مع علي رضي الله عنه بالبصرة فقال ذكرنا هذا الرجل صلاة كنا نصليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أنه كان يكبر كلما رفع وكلما وضع .
النقطة الثالثة : إن الحاكمين في ذلك الزمان منعوا نقل الأحاديث النبوية ، فقد روي عن عروة بن الزبير: إنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله (ص)، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً، ثمّ أصبح يوماً، وقد عزم الله له، فقال: إنّي كنت أردت أن أكتب السنن، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً، فأكبّوا عليها، فتركوا كتاب الله تعالى، وإنّي والله لا أُلبِسُ كتابَ الله بشيء أبداً. راجع تقييد العلم: 49، حجّيّة السنّة 395 عن البيهقيّ في المدخل ، وابن عبدالبرّ.
وروي عن يحيى بن جعدة: أنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنّة ثمّ بدا له أن لا يكتبها. ثمّ كتب في الاَمصار: من كان عنده منها شيء فليمحُه. راجع تقييد العلم: 53، حجّيّة السنّة: 395.
وهذا ما أعترف به أئمة الحديث عند المخالفين ، وذكروا له وجوهاً لا يمكن أن تقبل ، قال الخطيب البغدادي : إن قال قائل: ما وجه إنكار عمر على الصحابة روايتهم عن رسول الله (ص) وتشديده عليهم في ذلك؟
قيل له: فعل ذلك عمر احتياطاً للدين، وحسن نظر للمسلمين، لاَنّه خاف أن ينكلوا عن الاَعمال، ويتّكلوا على ظاهر الاَخبار. وليس حكم جميع الاَحاديث على ظاهرها ولا كلّ من سمعها عرف فقهها؛ فقد يَرد الحديث مجملاً ويستنبط معناه وتفسيره من غيره، فخشي عمر أن يُحمل حديث على غير وجهه، أو يؤخذ بظاهر لفظه، والحُكم خلاف مأخذه، وفي تشديد عمر ـ أيضاًـ على الصحابة في روايتهم حفظ حديث رسول الله (ص) وترهيب من لميكن من الصحابة أن يدخل في السنن ما ليس منها. شرف أصحاب الحديث: 97 98.
ولست أدري أي احتياط فدين يكون بإضاعة السنة وتضييع الدين ، وكيف يكون منع السنة مبرراً بالخوف من تفسيرها بالتفسير غير الصحيح ، أليس بوسع عمر أن يمنع عن التفسير لا نفس السنة ، ثم لماذا لم يخف الخليفة على تفسير القرآن بالتفسير غير الصحيح فيمنع تدوين القرآن ونقله!
إن هذه التأويلات الظاهرة في فسادها تبين مدى الإحراج المذهبي الذي وقع فيه القوم بعد اعتراف أكابرهم بوقوع منع نقل أحديث النبي ( صلى الله عليه وآله)، قال الدكتور محمّد عجاج الخطيب، بعد نقله كلام الخطيب البغداديّ: هذا ما رآه ابن عبد البرّ والخطيب البغداديّ وغيرهما من أئمّة الحديث وإليه أذهب وبه أقول .السنّة قبل التدوين: 106.
فإذا كان هذا كلام أكابرهم و أئمة حديثهم فما عساه يكون قول الصاغر!!
إن لهذا المنع أثر كبير على فهم الدين وهو السبب وراء إضاعة صلاة رسول الله ونسيان المسلمين لها حتى ذكرهم بها أمير المؤمنين ( عليه السلام) وقال أبو الدرداء على ما في البخاري ( و الله ما أعرف من أمة محمد شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً) وفي رواية أخرى ( ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي قيل الصلاة قال أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها ) ، وهو السبب أيضاً وراء ضياع كثير من نصوص رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فضل أهل بيته و ابتعاد عامة المسلمين وجمهورهم عن منهجهم.
النقطة الرابعة : هي أن المسلمين لم يحجر عنهم حديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) فحسب ، وإنما أضيف إليهم مصدر آخر للتشريع ، وهو سنة الخلفاء وسيرتهم في الناس ، ولهذا شواهد كثيرة منها ما قام به عبد الرحمن بن عوف لما أحيلت عليه مسؤولية اختيار الخليفة حيث شرط على عثمان عند البيعة الخليفتين وسيرتهما ، فقال: أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده. وقد وافقه عثمان ، وأقره عامة المسلمين كما في صحيح البخاري وشرحه فتح الباري.
وقد نقل ابن حجر في الفتح عن البيهقي في كتاب “الاعتقاد”، وعن ابن حبان في كتاب “الثقات”، أن عبد الرحمن أخذ بيد عثمان وقال: يا عثمان، نبايعك على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده. قال: نعم. فبايعه عبد الرحمن وبايعه المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد.
وقد روى عبد الله بن أحمد في المسند عن أبي وائل قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: كيف بايعتم عثمان وتركتم عليًّا؟ فقال: ما ذنبي! قد بدأت بعلي، فقلت: أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر. فقال: فيما استطعت. ثم عرضتها على عثمان فقبل.
وبهذا دخل مصدر جديد للتشريع لم يأت به رسول الله صلى الله عليه و آله وترتبت عليه أحكام أثرت على شكل الصلاة وفصول الأذان و أحدثت التراويح ، وتطور هذا الأمر تطوراً خطيراً وهو لزوم إتباع جماعة الخلفاء وحرمة مخالفتهم ووضعت في ذلك روايات فقد نسبوا إلى ابن مسعود أنه قال : “أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنه حبل الله الذي أمر به. وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة” التمهيد لابن عبد البر ج:21 ص:273 .
وهكذا نقل حبل الله من القرآن والآل في حديث الثقلين ، إلى الجماعة والسواد الأعظم ، وهم بطبيعة الحال الحكام وأتباعهم ، وقد حاول معاوية أن يستخدم عصى الجماعة في وجه سيد الشهداء (عليه السلام) ولكنها لم تنفع فقد نقل الكشي ج1 ص 120 أن معاوية كتب إلى الإمام الحسين (عليه السلام): (فاتق شقّ عصا هذه الأمة، وأن يردهم الله على يديك في فتنة، فقد عرفت الناس وبلوتهم. فانظر لنفسك ولدينك، ولأمة محمد (صلى الله عليه واله) …”.
فأجابه (عليه السلام) : ( وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليه، ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني ولأمة محمد (صلى الله عليه واله) وعلينا أفضل من أن أجاهدك… ).
إن من أساليب الحفاظ على العروش إعطاء القداسة للحاكمين و صبغهم بصبغة دينية تعطيهم الحصانة ، وتمنع من الخروج عليهم إلا إذا صدر منهم الكفر البواح و مادون ذلك لا يزلزل شرعيتهم حتى لو هتكت الأعراض وسالت الدماء واستحلت المحارم ، وهذا ما وقع فعلاً فلوا سألت القوم عن كيفية انعقاد الخلافة لقالوا بالشورى لما وقع من الصحابة في السقيفة أو التولية لما وقع من أبي بكر اتجاه عمر ومعاوية اتجاه يزيد ، وإذا سألتهم بكم تنعقد بيعة الإمامة لقالوا بواحد لانعقاد بيعة أبي بكر ببيعة عمر ، وفقه القوم في متناول الأيدي وما أكثر الأحكام التي لا نص عليها في الكتاب والسنة وإنما مدركها فعل الحاكمين .
لقد تشكلت بسبب هذه العوامل وغيرها ثقافة عامة سيطرت على واقع المسلمين ، وهي ثقافة شرعنة كل ما يصدر من الحاكم ، ووجوب الطاعة العمياء المطلقة له لأن القائم مقام الله و المنصوب بإرادته ، فلا يجوز الخروج عليه ولو أخذ المال وضرب البطن والظهر ، وهذه الثقافة تتفق مع ما عليه النصارى ، ففي رسالة بولس إلى أهل رومية الإصحاح الثالث عشر: 1ـ4 : ( لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله. والسلاطين الكائنة هي مرتّبة من الله. حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله. والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة ) .
وأصبحت هذا الثقافة فيما بعد ديناً لا يمكن رفع اليد عنه إلا برفع اليد عن المذهب ، وانسد باب التغيير وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وألتصق بالدين ما ليس منه ، و شاع أمر المنافقين و قويت شوكتهم حتى قال حذيفة كما في البخاري في كتاب الفتن : ( إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون).
النقطة الخامسة : لقد عمل أهل البيت (عليهم السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على تهذيب الدين وتحديد مصادره الأساسية ، فألقت الزهراء ( عليها السلام ) بثقلها في معركة الحفظ هذه ثم الأمير والحسن المجتبى (عليهم السلام) وتمكنوا من إيجاد طليعة مؤمنة تحمل روح الإسلام الحقيقي وتعاليمه وتعلم الناس أحكامه ، و إن سنة التكوين تقتضي أن يتطور كل من طريق الحق وطريق الباطل ، ففي الوقت الذي نجح الأئمة في إيجاد طليعة رسالية بالمقدار المتاح استطاع التيار المقابل أن يوسع قاعدة و يوطد في نفوس الناس أفكاره حتى صار ذكر أهل البيت خاملاً إلا في جماعة معدودة قتل بعضهم وشرد بعضهم و نفي بعضهم ، بذريعة مخالفة الحاكم والخروج عليه ، حتى بلغ الأمر أن تفرض البيعة وراثة ليزيد ، ليصبح مع ظهور حاله بين المسلمين ممثل الله وخليفته والحافظ لشرعة ، فكان لا بد في هذا الظرف من هزة قوية تطيح بهذا الثقافة المترابطة من السقيفة إلى تولية يزيد ، ولن يكون ذلك إلا بخروج شخص لا يمكن أن يقال بأنه من أهل النار ، وليس إلا سيد شباب أهل الجنة بضعة النبي (صلى الله عليه وآله) وريحانته ، وهنا وقعت المعضلة الفكرية الكبيرة التي عصفت بالكيان الرسمي ، فمن جهة هناك روايات تحرم الخروج عن الحاكم وتعتبر الخارج من أهل النار ، و من جهة ثانية يزيد وفق الثقافة السائدة والعقيدة الرائجة خليفة شرعي وأمير للمؤمنين ، ومن جهة ثالثة الحسين سيد سباب أهل الجنة وقد خرج عليه حتى قتل ، فهل يكذب رسول الله (صلى الله عليه وآله )في سبطه أو تُرفع اليد عن الموروث التراكمي الذي أفرز شرعية حكم يزيد وأبيه !!
إن ما فعله الحسين (عليه السلام ) كان بمثابة زلزال حرك كل ساكن ، وجعل الواقع الإسلامي يتقلب كالبحر الهائج ، فشكل فهو علاوة على كونه فضيحة ، ويوجب تعاطف الناس مع أهل البيت (عليهم السلام) وللعاطفة أثرها في جلب المودة أثار أسئلة دينية كبيرة في خلد الأمة وكان حسم جوابها عند شريعة كبيرة بمراجعة النصوص الدينية الواردة في شأن الحسين ( عليه السلام) وحركته وإعادة قراءة الموروث التراكمي الرسمي .
لقد أنتشر الوعي الديني بخروج الحسين (عليه السلام) مع تفاعل الناس مع الفاجعة العظيمة وسعيهم لمعرفة طبيعة الحدث ورجاله وأسبابه ودواعيه كما تقتضيها طبيعة الأمور في كل حدث يرك فيه حب الاستطلاع الناس نحو معرفة خلفياته وأسبابه ، وبهذا وقف الناس على الثائر ومنزلته وتعرفوا على أصله و فرعه ، و قيمه وأهدافه ، والدين الذي خرج من أجل إصلاحه ، و الفرق بينه وبين السائد ، ولهذا تغيرت نظرة شريحة واسعة إلى الدين و تغير رأيهم في الحكام ، وأخذت هذه النظرة تتوسع حتى تشكلت ثورات وقامت دول باسم أهل البيت ( عليهم السلام) وعلى منهجهم ، إن تجريد الدين عن العوالق ، و ضرب الثقافة الدخيلة السائدة ببيان الخلل الموجود في أساسها كان من أعظم إنجازات الثورة الحسينية ، حيث أصبح الإسلام بها خالصاً من الشوائب والعوالق محدد المصادر بدقة عند شريحة كبيرة من الناس ، وفي هذا استنقاذ الناس من الجهالة وحيرة الضلالة والإصلاح المنشود في أمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا شك في أن هذه فائدة باقية خالدة ينعم بها المؤمنون الحسينيون إلى يوم الناس هذا ، و قد رُوِيَ عن الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السَّلام ) أنَّهُ قَالَ : ” لَمَّا قَدِمَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَ قَدْ قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، اسْتَقْبَلَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَ قَالَ : يَا عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ ، مَنْ غَلَبَ ـ وَ هُوَ يُغَطِّي رَأْسَهُ وَ هُوَ فِي الْمَحْمِل؟ قَالَ : فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ : إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ مَنْ غَلَبَ وَ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَأَذِّنْ ثُمَّ أَقِمْ .حار الأنوار : 45 / 177 .
إن المؤشر العام لمسيرة الإسلام بسبب الانحراف عن مرجعة الدين ، وظهور المنافقين الذي تحدث عنه حذيفة ، و إضافة مصدر مبتدع جديد للدين كان ينذر بزوال سريع مؤكد للدين في عهد حاكم كيزيد بن معاوية ، ولولا ثورة الحسين (عليه السلام) لاندثر الإسلام ولم يبق منه عين ولا أثر ، فكلما أذن مؤذن أو أقام مقيم كلما كان ينبغي علينا أن نشكر الحسين ونذكر فضله علينا ، فالحياة الحقيقة لا تكون إلا بالدين وماء حياتنا دماء نحره الشريف الذي ما زال يفيض علينا حياة ووعياً ، وهذا هو الفتح الكبير ، ففي كامل الزيارات ص 158 عن زرارة ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : كتب الحسين بن علي من مكة إلى محمد بن علي : بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم ، أما بعد فان من لحق بي استشهد ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح ، والسلام .
نظرة أتباع الثقافة المتضرر بالنهضة :
إن من الطبيعي أن تكون نظرة أتباع ثقافة السقيفة وما أفرزته من وجوب إتباع الجماعة وإن خالفهم الأعلم الأتقى المطهر الذي أمر الرسول بإتباعه وبين صحة منهجه ووجوب إتباع سبيله نظرة سلبية ، وذلك لأن هذه النهضة أعظم إشكال يتجه عليهم ، فليس من المستغرب أن يقول ابن تيمية : ( ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا بل تمكن أولئــك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتلوه مظلوماً شهيداً وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده. فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشر بخروجه وقتله ونقص الخير بذلك وصار ذلك سبباً لشر عظيم) منهاج السنة ج4 ص530-531.
فإنه لا يملك إلا أن يقول ذلك للحفاظ على موروثه المذهبي ، ولكن هل غاب عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله ) كان يعلم بخروج الحسين (عليه السلام) وهو بحسب نصوص البخاري من أخبر بكل شيء حتى دخل أهل الجنة منازلهم ، بل أخبر بمقتل الحسين نفسه في روايات تكاد تكون متواترة ، وبين موضع شهادته ، قال البيهقي: أنا الحاكم في آخرين قالوا: أنا الأصم، أنا عباس الدوري، ثنا محمد بن خالد بن مخلد، ثنا موسى بن يعقوب عن هاشم بن هاشم، عن عتبة ابن أبي وقاص، عن عبد الله بن وهب بن زمعة، أخبرتني أم سلمة أن رسول الله اضطجع ذات يوم فاستيقظ وهو حائر ثم اضطجع فرقد، ثم استيقظ وهو حائر دون ما رأيت منه في المرة الأولى، ثم اضطجع واستيقظ وفي يده تربة حمراء وهو يقلبها.
فقلت: ما هذه التربة يا رسول الله؟
فقال: « أخبرني جبريل أن هذا يقتل بأرض العراق – للحسين – قلت له: يا جبريل أرني تربة الأرض التي يقتل بها فهذه تربتها ».
قال البيهقي: تابعه أبو موسى الجهني عن صالح بن يزيد النخعي، عن أم سلمة وأبان، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة.
فإذا لم يكن في خروجه مصلحة وكان فيها شر كبير فلماذا لم ينهه رسول الله وهو الذي يعز عليه عنت الأمة فضلا عن عنت ريحاته! والعجيب أن ابن تيمية يرى الحسين سيد شباب أهل الجنة ويقر له بالشهادة فيقول : ( وأكرم الله الحسين بالشهادة، كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته. أكرم بها حمزة وجعفر، وأباه علياً، وغيرهم، وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته، وأعلى درجته . فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة. والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء) مجموع الفتاوى ( 25| 302) وانظر مجموع الفتاوى ( 27| 471) وجامع المسائل ( 3| 91) ومنهاج السنة ( 4| 550)
و أي عقل يقبل أن يكون من رفض البيعة و عصى الله وخرج على الجماعة ومات بلا إمام و زاد بفعله الشر وقل الخير و وجد شر عظيم شهيداً وسيداً لشباب الجنة جميعهم!
الحمد لله رب العالمين
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً