بقلم : حيدر السندي
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين .
نتحدث في حلقات متتالية ـ إن شاء الله ـ حول نهضة الحسين (عليه السلام) وحركته الثورية المباركة التي أطلق عليها هو (عليه السلام ) عنوان الفتح ، والسبب وراء قيامي بكتابة هذه السلسلة يعود إلى أمرين أساسيين:
الأمر الأول : هو كثرة الأسئلة الواردة حول ثورة سيد الشهداء (عليه السلام) وما يرتبط بها.
الأمر الثاني : أني لأسباب لن أصعد المنبر في موسم عاشوراء لهذا العام ـ 1437ـ فلم أرد أن أحرم بالكلية من خدمة المولى المعظم (روحي له الفداء) ، و أرجو منه أن ينظر إلى هذا الجهد المتواضع بعين القبول والرضا ويمن على خادم خدامه بالعفو عن التقصير و يتفضل بالشفاعة واللطف فهو معدن الرحمة ومظهر لطف الله وباب نجاة الخلق ومجرى فيض الله عليهم .
البحث الأول : عظمة النهضة الحسينية :
ولكي تتجلى لنا عظمة حركة سيد الشهداء (عليه السلام) نبين جملة من آثارها و النتائج المترتبة عليها :
الأثر الأول : هو الأثر الجزائي في الدارين .
إن قيمة العمل عند الله تعالى تختلف باختلاف أمرين :
الأمر الأول : ذات العامل .
فكلما كان العامل أعرف بالله وأكثر إخلاصاً كلما كان تقبل الله للعمل أتم والثواب المترتب عليه أفضل ، وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (عبادة العالم يوماً واحداً تعادل عبادة العابد أربعين سنة).
وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى : {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} : (ليس يعني أكثركم عملاً ولكن أصوبكم عملاً وإنما الإصابة خشية الله و النية الصادقة).
وهذا يعني أن الجانب الشكلي للعمل لا يحدد مقدار ثواب العمل والجزاء المترتب عليه ، فربما يصلي اثنان ركعتين ، ويتفقان من حيث سرعة الأداء ومراعاة شروط الصحة ، ومع ذلك تكون صلاة أحدهما ليست أفضل من صلاة الآخر إنما أفضل من جميع أعماله التي أداها في حياته ، و هذا وجه قوله (صلى الله عليه وآله) : (ضربة علي يوم الخندق أفضل ـ أو خير ـ من عبادة الثقلين ـ أو أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة ـ ) .
وفي رواية أخرى عن ابن مسعود : أبشر يا علي ، فلو وزن عملك اليوم بعمل أمتي لرجح عملك بعملهم) .
ما أكثر الذين ضربوا في سبيل الله وقَتلوا و قُتِلوا ، إلا أن لضربة علي (عليه السلام) خصوصية ، والسر في ذلك يعود إلى ذات علي (عليه السلام) العارفة بالله والمخلصة تمام الإخلاص في مرضاته.
و الشواهد على ذلك كثيرة منها تخصيص الآل (عليهم السلام) بآية الإطعام والأمير (عليه السلام) بآية الولاية مع كثرة المتصدقين من الصحابة ، و يوجد نص جميل في نهج البلاغة يميز تأثير قيمة الفاعل على قيمة الفعل عند الله تعالى وهو قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه إلى معاوية : ( ألا ترى – غير مخبر لك ولكن بنعمة الله أحدث – أن قوما استشهدوا في سبيل الله من المهاجرين ولكل فضل حتى إذا استشهد شهيدنا قيل : سيد الشهداء وخصه رسول الله صلى الله عليه وآله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه . أولا ترى أن قوما قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل حتى إذا فعل بواحدنا كما فعل بواحدهم قيل : الطيار في الجنة وذو الجناحين . ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجها آذان السامعين فدع عنك من مالت به الرمية فإنا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا لم يمنعنا قديم عزنا وعادى طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء ولستم هناك . وأنى يكون ذلك كذلك ومنا النبي ومنكم المكذب ومنا أسد الله ومنكم أسد الاحلاف ومنا سيدا شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار ومنا خير نساء العالمين ومنكم حمالة الحطب في كثير مما لنا وعليكم . فإسلامنا ما قد سمع ، وجاهليتكم مالا تدفع وكتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا وهو قوله : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) ، وقوله تعالى : ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) فنحن مرة أولى بالقرابة وتارة أولى بالطاعة ).
الأمر الثاني : ذات العمل وآثره.
فإن الأعمال ـ مضافاً إلى تفاوتها من حيث العامل ـ تتفاوت في نفسها عند الله تعالى ، فبعض الأفعال أفضل من البعض الآخر ومقربيتها إلى الله تعالى أقوى من مقربية غيرها ، فالوجبات أفضل من المستحبات والمستحبات تتفاوت فإكرام الأجنبي ليس كإكرام القريب ، وإكرام الوالدين أفضل من إكرام سائر الأقارب ، ومن جهة ثانية بعض الأفعال لها أثر شخصي وبعضها له أثر اجتماعي عام ، وبعضها أثره محدود آني وبعضها مستمر لا ينقطع بانقطاع الحياة كالعلم النافع والوقف.
وسوف نتحدث عن قيمة النهضة الحسينية من حيث ذات العمل والأثر المترتب عليها ـ إن شاء الله ـ ونقصر الحديث تحت عنوان الأثر الجزائي في قيمتها من حيث الفاعل وذلك في نقطتين :
النقطة الأولى : في معرفة سيد الشهداء (عليه السلام) بالله و إخلاصه له.
والحديث في هذه النقطة طويل جداً لا يسعني في كمه وكيفه ، فالحسين (عليه السلام) إمام معصوم يقوم بدور خلافة الله الخاصة ، و الإمام هو المتيقن الذي لا أتم من يقينه ، والمعصوم الذي لا يتطرق إليه الزلل يقول عزوجل : ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) ، ويقول الإمام الرضا (عليه السلام) : (الإمام خليفة الله وخليفة رسول الله) ، والخليفة هو الذي يقوم مقام المستخلف لاشتماله على صفاته المناسبة لخلافته ، ومن صفات الله العلم بالله ، فالحسين (عليه السلام) مظهر هذه الصفة ومجليها بين العباد .
الحسين ( عليه السلام) في سورة الدهر :
إن القائم بالنهضة الحسينية هو أحد الخمسة الذين شهد لهم القرآن بتمام الإخلاص في قوله تعالى : { إِنَّ الأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّه يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ويَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّه مُسْتَطِيراً ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّه مِسْكِيناً ويَتِيماً وأَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْه اللَّه لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً ولا شُكُوراً}.
فقد روى في البرهان عن ابن عباس أنه قال : مرض الحسن والحسين ( عليهما السلام ) ، فنذر علي وفاطمة ( عليهما السلام ) والجارية نذرا إن برئا صاموا ثلاثة أيام شكرا ، فبرئا ، فوفوا بالنذر وصاموا ، فلما كان أول يوم قامت الجارية وجرشت شعيرا ، فخبزت منه خمسة أقراص ، لكل واحد منهم قرص ، فلما كان وقت الفطر جائت الجارية بالمائدة فوضعتها بين أيديهم ، فلما مدوا أيديهم ليأكلوا وإذا مسكين بالباب يقول : يا أهل بيت محمد ، مسكين آل فلان بالباب ، فقال علي ( عليه السلام ) : « لا تأكلوا وآثروا المسكين » . فلما كان اليوم الثاني فعلت الجارية كما فعلت في اليوم الأول ، فلما وضعت المائدة بين أيديهم ليأكلوا ، فإذا يتيم بالباب وهو يقول : يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ، يتيم آل فلان بالباب ، فقال علي ( عليه السلام ) : « لا تأكلوا شيئا وأطعموا اليتيم » . قال : ففعلوا . فلما كان في اليوم الثالث وفعلت الجارية كما فعلت في اليومين ، فلما جاءت الجارية بالمائدة فوضعتها ، فمدوا أيديهم ليأكلوا ، وإذا شيخ كبير يصيح بالباب : يا أهل بيت محمد ، تأسروننا ولا تطعموننا . قال : فبكى علي ( عليه السلام ) بكاء شديدا ، وقال : « يا بنت محمد ، إني أحب أن يراك الله وقد آثرت هذا الأسير على نفسك وأشبالك » . فقالت : « سبحان الله ، ما أعجب ما نحن فيه معك ، ألا ترجع إلى الله في هؤلاء الصبية الذين صنعت بهم ما صنعت ، وهؤلاء إلى متى يصبرون صبرنا » . فقال لها علي ( عليه السلام ) : « فالله يصبرك ويصبرهم ، ويأجرنا إن شاء الله تعالى ، وبه نستعين ، وعليه نتوكل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، اللهم بدلنا بما فاتنا من طعامنا هذا ما هو خير منه ، واشكر لنا صبرنا ولا تنسه لنا ، إنك رحيم كريم » . فأعطوه الطعام .
وبكر إليهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) في اليوم الرابع ، فقال : « ما كان من خبركم في أيامكم هذه ؟ » فأخبرته فاطمة ( عليها السلام ) بما كان ، فحمد الله وشكره وأثنى عليه ، وضحك إليهم ، وقال : « خذوا هنأكم الله وبارك عليكم وبارك لكم قد هبط علي جبرئيل من عند ربي وهو يقرأ عليكم السلام ، وقد شكر ما كان منكم ، وأعطى فاطمة سؤلها ، وأجاب دعوتها ، وتلا عليهم ( إِنَّ الأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ) إلى قوله : ( إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) » .
قال : وضحك النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : « إن الله قد أعطاكم نعيما لا ينفد وقرة عين أبد الآبدين ، هنيئا لكم يا بيت النبي بالقرب من الرحمن ، مسكنكم معه في دار الجلال والجمال ، ويكسوكم من السندس والإستبرق والأرجوان ، ويسقيكم الرحيق المختوم من الولدان ، فأنتم أقرب الخلق من الرحمن ، تأمنون إذا فزع الناس ، وتفرحون إذا حزن الناس ، وتسعدون إذا شقي الناس ، فأنتم في روح وريحان ، وفي جوار الرب العزيز الجبار وهو راض عنكم غير غضبان ، قد أمنتم العقاب ورضيتم الثواب ، تسألون فتعطون ، وتتحفون فترضون ، وتشفعون فتشفعون ، طوبى لمن كان معكم ، وطوبى لمن أعزكم إذا خذلكم الناس ، وأعانكم إذا جفاكم الناس ، وآواكم إذا طردكم الناس ، ونصركم إذا قتلكم الناس ، الويل لكم من أمتي ، والويل لأمتي من الله » .
ثم قبل فاطمة وبكى ، وقبل جبهة علي ( عليها السلام ) وبكى ، وضم الحسن والحسين إلى صدره وبكى ، وقال : « الله خليفتي عليكم في المحيا والممات ، وأستودعكم الله وهو خير مستودع ، حفظ الله من حفظكم ، ووصل الله من وصلكم ، وأعان الله من أعانكم ، وخذل الله من خذلكم وأخافكم ، أنا لكم سلف وأنتم عن قليل [ بي ] لاحقون ، والمصير إلى الله ، والوقوف بين يدي الله عز وجل ، والحساب على الله لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ويَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) » .
وقد نقل نزول هذه الآيات في أهل البيت (عليهم السلام) تفسير الحبري : 326 ح 69 ، العقد الفريد 4 / 77 ، تفسير الثعلبي 10 / 99 – 101 ، أسباب النزول : 247 ، زين الفتى في شرح سورة هل أتى ، مناقب الإمام عليّ عليه السّلام – لابن المغازلي – : 237 – 238 ح 320 ، شواهد التنزيل 2 / 299 – 310 ح 1042 – 1061 ، تفسير البغوي 4 / 397 ، الكشّاف 4 / 197 ، ربيع الأبرار 2 / 148 ، مناقب الإمام عليّ عليه السّلام – للخوارزمي – : 267 ح 250 ، تفسير الفخر الرازي 30 / 244 – 245 ، أسد الغابة 6 / 236 – 237 رقم 7202 ، مطالب السؤول : 127 ، تذكرة الخواصّ : 281 ، كفاية الطالب : 345 – 348 ، الرياض النضرة 3 / 180 و 208 ، تفسير البيضاوي 2 / 552 – 553 ، تفسير النيسابوري 6 / 412 ، المواقف : 411 ، الإصابة 8 / 75 رقم 11628 ، روح المعاني 29 / 270 .
لقد تعرض الشيخ محمد حسن المظفر (قده) في كتابه النفيس دلائل الصدق لبعض دلالات نزول هذه الآية في الحسنين ووالديهما (عليهم السلام) فقال (رحمه الله)في ج 4 ص 59 : إنّ القصّة دالَّة على فضل الحسنين وبلوغهما في المعرفة إلى منتهى الغايات ؛ لصدورها عنهما حال صغرهما بنحو استحقّا من اللَّه سبحانه الثناء عليهما في كتابه المجيد ، وشهد لهما فيه بأنّهما أطعما لوجهه ، وكانا يخافان منه . ولا ريب في أنّ الصغير الذي يصدر منه ذلك أكبر من الكبير الذي لم يعرف اللَّه تعالى أكثر عمره ، وعصاه في عظام الأمور ، كالفرار من الزحف ، فيكون الحسنان أفضل من شيوخ الصحابة . ولا شكّ أنّ أمير المؤمنين أفضل من الحسنين ، بالنصّ والإجماع ، فيكون أفضل من الصحابة جميعا ، فيكون هو الإمام . هذا ، والعجب من تمالؤ هؤلاء القوم على محو فضائل آل الرسول (صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم) بالأوهام الكاسدة والخيالات الفاسدة ، دون ما يروونه في فضائل غيرهم ، وإن كان ظاهر الكذب والبهتان ، فقد رأيت الفضل كيف استشكل من جواز تلك الصدقة ، وهو قد ذكر في مبحث الحلول أنّ أبا يزيد البسطامي ترك شرب الماء سنة تأديبا لنفسه ، وعدّه منقبة له . فليت شعري ، لم لا يجوز التصدّق لأهل البيت بعد السؤال منهم رغبة في الثواب ، بالإيثار على أنفسهم ، وجاز لأبي يزيد ترك شرب الماء سنة – وهو من المحالات – بلا سؤال أحد منه ولا إيثار ، ولا هو من أفعال سيّد المرسلين والأنبياء الأوّلين ، ولا ورد بنحوه الكتاب والسنّة ؟ !
أقول : إن الإمام الحسين (عليه السلام) قد فجر ثورته وقام بالنهضة المباركة وهو يحمل في قلبه هذا الإخلاص التام المستند إلى معرفته العظيمة بالله عز وجل ، إن الحسين ( عليه السلام) إذا قام خطيباً في جماعة الحر ليقول : ( ليرغب كل مؤمن في لقاء الله محقا فإني لا أرى الموت إلا سعادة والعيش مع الظالمين إلا برما) لا يتكلم كلاماً شاعرياً وشعارياً كما يتحدث عامة الزعماء التقليديين ، فالحسين في كيانه همزة الوصل بمقتضى مقام خلافة الله بين جميع عوالم الوجود و يعلم بعين اليقين وحقه بأن حقيقة الحياة في عالم الآخرة التي يعيشها الإنسان حقيقة وهو في هذه النشأة ولكن الشواغل تشغل عامة الناس عن إدراك الحياة الحقيقة وبعد الموت يقول قائلهم : (يا ليتني قدمت لحياتي) ، لهذا هو يرى الموت سعادة لأنه موت في مرضاة الله تعالى من أجل الإصلاح فهو جهاد لوجه الله تعالى .
و هذه الحقيقة أحد معاني ما روى ثقة الإسلام الكليني ( رحمه الله ) عنه المعرفة العظيمة بالله تعالى وهذا الإخلاص التام ، فقد نقل عن ميسر بن عبد العزيز ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ، قال : كتب الحسين بن علي ( عليهما السلام ) إلى محمد بن علي ( عليه السلام ) من كربلاء : بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي ( عليهما السلام ) إلى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم ، اما بعد فكأن الدنيا لم تكن وكأن الآخرة لم تزل ، والسلام .
فإن من المحتمل أن يكون المراد من : (فكأن الدنيا لم تكن) أن العارف بالله لفرط انكشاف الحقيقة له وظهور آثار الآخرة والحياة الحقيقة له لا يشعر بالدنيا وتزول عنه آثارها ، وتتجلى فيه آثار الآخرة ، فهو في الدنيا غير أن ضعف حجابها يكون كالعدم ونسبتها إليه كنسبة الناظر إلى الشمس والهواء المتوسط بينهما ، فالهواء موجود ولكن كأنه غير موجود لضعف آثاره ، فالدنيا بالنسبة إلى الحسين (عليه السلام ) كأنها معدومة ، والحياة هي حياة الآخرة (و كأن الآخرة لم تزل).
النقطة الثانية : في جزاء الله المترتب على شهادة الحسين (عليه السلام).
وقد بينت الروايات الوردة عن العترة الطاهرة عدة أمور رتبها الله تعالى كجزاء للحسين (عليه السلام) منها :
1ـ بلوغ الدرجة الخاصة .
فقد نقل صاحبا البحار والعوالم : عن محمد بن أبي طالب الموسوي : لما ورد الكتاب على الوليد بقتل الحسين (عليه السلام) عظم ذلك عليه ، ثم قال : والله لا يراني الله أقتل ابن نبيه ولو جعل يزيد لي الدنيا بما فيها .
قال : وخرج الحسين عليه السلام من منزله ذات ليلة وأقبل إلى قبر جده ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة ، فرخك وابن فرختك ، وسبطك الذي خلفتني في أمتك ، فاشهد عليهم يا نبي الله أنهم فقد خذلوني وضيعوني ولم يحفظوني ، و هذه شكواي إليك حتى ألقاك ، قال : ثم قام فصف قدميه فلم يزل راكعا ( و ) ساجدا .
قال : وأرسل الوليد إلى منزل الحسين عليه السلام لينظر أخرج من المدينة أم لا ؟ فلم يصبه في منزله ، فقال : الحمد لله الذي خرج 1 ولم يبتلني بدمه ، قال : ورجع الحسين عليه السلام إلى منزله عند الصبح . فلما كانت الليلة الثانية ، خرج إلى القبر أيضا وصلى ركعات ، فلما فرغ من صلاته جعل يقول : اللهم هذا قبر نبيك محمد ، وأنا ابن بنت نبيك ، وقد حضرني من الامر ما قد علمت ، اللهم إني أحب المعروف ، وأنكر المنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والاكرام بحق القبر ومن فيه إلا اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى . قال : ثم جعل يبكي عند القبر حتى إذا كان قريبا من الصبح وضع رأسه على القبر فاغفي ، فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وآله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه حتى ضم الحسين عليه السلام إلى صدره وقبل ( ما ) بين عينيه ، وقال :
حبيبي يا حسين كأني أراك عن قريب مرملا بدمائك ، مذبوحا بأرض كرب وبلاء ، بين عصابة من أمتي ، وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى ، وظمآن لا تروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي ، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة ، حبيبي يا حسين إن أباك وأمك و أخاك قدموا علي وهم مشتاقون إليك ، وإن لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلا بالشهادة .
قال : فجعل الحسين (عليه السلام) في منامه ينظر إلى جده ويقول : يا جداه لا حاجة . لي في الرجوع إلى الدنيا فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك ، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لابد لك من الرجوع إلى الدنيا حتى ترزق الشهادة وما قد كتب الله لك فيها من الثواب العظيم ، فإنك وأباك وأخاك وعمك وعم أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتى تدخلوا الجنة .
2 ـ الأئمة من ذريته.
3ـ إجابة الدعاء عند قبره .
4ـ لا تعد أيام زيارته ( عليه السلام) من العمر.
5-الشفاء في تربته.
ففي الوسائل ج 14 ص433 : عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) وجعفر بن محمد (عليه السلام) يقولان : إن الله عوض الحسين عليه السلام من قتله أن الإمامة من ذريته والشفاء في تربته ، وإجابة الدعاء عند قبره ، ولا تعد أيام زائريه جائيا وراجعا من عمره .
وفي أمالي الشيخ الطوسي (رحمه الله) ص 317: قال محمد بن مسلم : فقلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : هذا الجلال ينال بالحسين ( عليه السلام ) فماله في نفسه ؟ قال : إن الله ( تعالى ) ألحقه بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكان معه في درجته ومنزلته ، ثم تلا أبو عبد الله ( والذين امنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ) الآية .
الحمد لله رب العالمين
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً