وهذا الحديث الوارد عن النبيَّ – صلى الله عليه وآله – نُقِل بألفاظٍ عديدةٍ:
- منها: ”شجنَةٌ منِّي“ [3] .
- ومنها: ”مضغةٌ منِّي“ [4] .
- وفي بعضها: ”يسرُّني ما يسرُّها“ [5] .
- وفي بعضها: ”يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها“ [6] .
- وفي بعضها: ”يريبني ما أرابها“ [7] .
- وبعضها الآخر: ”يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها“ [8] .
- وفي بعضها: ”يؤلمني ما يؤلمها“ [9] .
ومن أروع العناوين الواردة عنه في حقها: ”فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبي“ [10] .
والظاهر أنَّها أحاديثٌ عديدةٌ قالها الرسول في عدة وقائع، وليس حديثاً واحداً اختلف الرواة في لفظه، وكان الهدف من هذه الأحاديث كلّها أن يظهر لنا مدى العلاقة بين فاطمة البتول الصديقة الشهيدة – صلوات الله وسلامه عليها وعلى آلها الطيبين الطاهرين – وبين أبيها المصطفى ، فهي بضعته في جميع عوالم وجوده ، فهو في عالم الأنوار التي تسبح حول العرش بضعته نور فاطمة، وفي عالم الملكوت بضعته روح فاطمة، وفي عالم الأصلاب – حيث كان نوراً وطهراً – بضعته طيب فاطمة، وهو في عالم الوجود المادي، ّ والبرزخيّ، والأخروي؛ ّ بضعته كيان فاطمة، جسداً، وجسماً، ومادةً، وصورةً، فإنَّ مقتضى إطلاق هذا الحديث ”فاطمة بضعةٌ منّي“ أنَّها جزؤه المُمَثِّل له في جميع أنحاء وجوده، وإنَّما يُعبَّر بهذه العناوين المُتنوِّعة لِمَن كان مُمَثِّلاً له تمثيلاً تامّاً، فقد عبر النَّبيُّ صلى الله عليه وآله عن الحسين والحسن عليهما السلام كما في بعض الرّوايات: ”حسينٌ منّي، وأنا من حسين“ [11] .
وفي بعضها: ”حسنٌ منّي وأنا منه“ [12] ، وهذا التعبير ظاهرٌ في أنَّ الحسن والحسين جزءٌ منه في جميع عوالم وجوده، ولكنَّ التعبير بالبضعة، والشجنة، والمضغة؛ يدلُّ على أنَّها أقرب إنسانٍ إليه ، قُربَ القلب من الجسد، وقُربَ الرُّوح من نفسها، فهي كلُّ كيانه ، كما أنَّ هذا التعبير أوضح ظهوراً في إفادة التَّمثيل والتجسيد من لفظ ”هو منِّي“، فإنَّه إنَّما يصحُّ أن يقال: ”فلان بضعة منّي“ إذا كان فلان صورة أخرى منّي، فأراد النَّبيُ صلى الله عليه وآله أن يقول: ليست فاطمة جزءاً منّي فقط، حتّى يُقال: أنَّ هذا أمرٌ معلومٌ؛ لأنَّها ابنته ومن صلبه، إلاَّ أنَّها مضافاً أنَّها جزءٌ منِّي فهي الصورة المُعبِّرة عن مقامي، وهي المُمَثِّل لموقعي في دائرة الوجود الإمكانيّ بجميع أنحائه ومراتبه، ولا يوجد مقامٌ أعظم قدراً من مقام المصطفى ، وهذا المقام وإن كان يتجسد في جميع الأئمة الأطهار ، إلاّ أنَّ تمثيل هذا المقام له مراتبٌ ودرجات، ٌ ثبوتيَّةٌ وإثباتيَّة، ٌ وأظهرها وأبرزها يتجلّى في البتول .
وقد قالت بعض بزوجاته:
”ما رأيت من النّاس أحداً أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله من فاطمة. كانت إذا دخلت عليه رحب بها، وقبَّل يديها، وأجلسها في مجلسه، فإذا دخل عليها قامت إليه فرحَّبت به، وقبَّلت يديه“ [13] .
فهي صورته: خَلقاً، وخُلقاً، وطهارةً، وعصمةً، وهي مثاله في محرابه، وبيته، وبابه، وحجابه، وبالتالي صح ما ورد عن النَّبيِّ : ”ألا إنَّ فاطمة بابها بابي، وبيتها بيتي، فمن هتكه فقد هتك حجاب الله“ [14] .
فإنَّها إذا كانت هي الصورة المُمَثِّلة للنَّبيِّ صلى الله عليه وآله، فلا محالة بابها باب رسول الله، وحجابها حجاب رسول الله، وحرمتها حرمة رسول الله، بقدر ما لتلك الحرمة من حدود، حيث إنَّ لرسول الله حرمةً بين الخلائق كلِّهم، لأنّه سيد الخلق، فلا حرمة أعظم من حرمته في هذا الوجود كلِّه، وتلك الحرمة بما لها من العظمة، وبما لها من الحدود اللا متناهية؛ هُتكت في هَتْكِ حرمة فاطمة ، ولذلك عقَّب رسول الله على هذه الجملة ”فاطمة بضعة منّي“ بما يدلُّ على أنَّ حرمتها حرمته، والاعتداء عليها اعتداءٌ عليه، فقال: ”يؤذيني ما يؤذيها“، أو ”يؤلمني ما يؤلمها“، ”من آذاها فقد آذاني“، ”يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها“، وما أشدَّ غضب الله إذا كان مقابل اعتداءٍ على حرمة الله نفسه، فإنَّ حرمة رسول الله حرمةٌ لله، ولأنَّها بعضة رسول الله، وصورته، فشفاعتها شفاعة رسول الله ، فقد منحها الله الشفاعة الّتي هي مقام أبيها.
نسأل الله أن يؤجرنا في مصابها، وأن يثيبنا في رزيتها، وأن يرزقنا شفاعتها، وأن يجعلنا من المُسْتنِّين بسُننها، ومن المُدافعين عن شخصيَّتها، ومقامها، ومظلوميَّتها – صلوات الله عليه وعلى آلها الطيبين الطاهرين -.
اترك تعليقاً