محاضرة لسماحة الشيخ حيدر السندي (حفظه الله).
روي عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال في قوله تعالى {وما ادراك ما ليلة القدر }: الليلة فاطمة والقدر الله فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر .
في البداية وقبل بيان المحتملات في معنى هذه الرواية الشريفة التي بدأنا بها المحاضرة أتعرض لبيان قيمة معرفة الزهراء (عليها السلام) فقد دلت جملة من الروايات على حسن هذه المعرفة ، ففي الزيارة الجامعة نتوجه اولا بالسلام على أهل البيت (عليهم السلام) فنقول :(السلام عليكم يا اهل بيت النبوة ) ولا اشكال في شمول هذا العنوان للصديقة (عليها السلام) فهي من اهل الكساء وبها ابتدأ الله تعريفهم للملائكة فقال : ( هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها ) .
فالزهراء من الذين نتوجه اليهم في هذه الزيارة الشريفة التي نقول في ختامها بعد ذكر المقامات العالية والمناقب الرفيعة : ( اللهم اني لوجدت شفعاء اقرب اليك من محمد واهل الأخيار الائمة الأبرار لجعلتهم شفعائي فبحقهم الذي أوجبت لهم عليك أسألك ان تدخلني في جملة العارفين بهم وبحقهم) ومعرفتهم بمعرفة ذواتهم و ما يرتبط بهم من الناحية التشريعية والتكوينية .
وفي رواية عن رسول الله (صلى الله عليه واله ) : (وعلى معرفتها دارت القرون الاولى ). ولا شك في حسن معرفتها فيما اذا كانت هذه المعرفة المحور الذي تدور عليه القرون الاولى فبما فيها من أولياء لله مع اختلاف مراتبهم ومنازلهم وقربهم من الله عز وجل .
وفي الرواية التي بدأنا بها المحاضرة يقول الامام الصادق (عليه السلام) : (الليلة فاطمة والقدر الله فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر). وقد حرض القران على معرفة ليلة القدر ببيان عظمتها فقال : ( وما ادراك ما ليلة القدر ، ليلة القدر خير من الف شهر ) فان هذا التعبير كناية عن جلالة قدر هذه الليلة وعظم منزلتها ، وتحريض وحث على تحصيل الدراية بهذه العظمة ، ويؤكد دلالة الاية على عظمة الليلة – كما ذكر في الميزان -تكرار إظهار الاسم حيث قال تعالى : (… ما ليلة القدر ، ليلة القدر خير… ) ولم يقل : (…ما ليلة القدر ، هي خير…).
ولعل من اهم الادلة الدالة على حسن معرفة الزهراء (عليها السلام) ومعرفة مقاماتها ، الروايات المتعددة الواردة عن رسول الله( صلى الله عليه واله) وسائر المعصومين (عليهم السلام) والتي تتصف بالامور التالية:
١- الكثرة المتكثرة .
٢- تعرضها لجوانب متعددة من كمالات الزهراء (عليها السلام) ومقاماتها ، كمقام الاختيار والوساطة والسبق الوجودي وعموم الولاية والشفاعة بل ان الروايات بينت تعدد أسمائها وبينت معاني تلك الاسماء وبمستويات مختلفة ، كما جاء في الروايات التي بينت معنى (فاطمة ، الزهراء ).
٣- تعدد المخاطبين بها من اصحاب الائمة (عليهم السلام).
فان هذه البيانات المختلفة وان كانت فعلا صادا منهم (عليهم السلام) الا انه بسبب الامور السابقة وظهور حال المعصومين في بيان ما يقرب الى الله تعالى ظاهر عرفا في حسن هذه المعرفة ومحبوبيتها عند الله تعالى ولو من جهة ما يترتب عليها .
بعد هذا نأتي الى الرواية التي فيها يقول الامام الصادق (عليه السلام) : (فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر) . لنتأمل قليلا في فقرتها هذه ، فما معنى (من عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر ) ؟
في الحقيقة لا يمكن الجزم بمراد الامام (عليه السلام) وما يسعنا هو ذكر بعض الاحتمالات منها :
الاحتمال الاول : ان يكون المراد بيان عدم إمكان معرفتها (عليها السلام)بالمعرفة التامة ، فكما ان الخلائق لا يتمكنون من تحديد ليلة القدر بالدقة فهم كذلك لا يتمكنون من معرفة الزهراء (عليها السلام ) حق معرفتها ، وعلى هذا النحو من المعرفة ينزل الخبر القائل : ( انما سميت فاطمة لان الخلائق فطموا عن معرفتها).
الاحتمال الثاني : ان من عرف الزهراء (عليها السلام ) حق معرفتها فهو من اهل كرامة الله الذين لا يحجب عنهم علم ليلة القدر بالتحديد ، وبيان ذلك يحتاج الى ذكر أمور :
الأمر الاول : هو ان بعض الروايات بينت أن الأئمة ( عليهم السلام) يعلمون ليلة القدر بالتحديد فعن الامام الباقر (عليه السلام) : (يا ابا الهذيل انه لا تخفى علينا ليلة القدر إن الملائكة يطوفون بنا فيها ).
الامر الثاني : إن الائمة (عليهم السلام) ستروا عنا ليلة القدر ، ففي الرواية عن امير المؤمنين ( عليه السلام ) : (ما اخلو من ان اكون أعلمها فاستر علمها ) ، وبينت الرواية علة سترها وهي تكاسل الناس عن العبادة في غير ليلة القدر ففي الرواية عن الامام علي (عليه السلام) : (ولست اشك أن الله إنما سترها عنكم نظرا لكم لانكم لو اعلمكموها عملتم فيها وتركتم غيرها ).
الامر الثالث : اذا عُرفت علة الحجب والستر سوف يُعرف ان الحجب والستر يدور مدار العلة ، فمن كان إعلامه يؤدي الى الكسل عن العبادة في غير ليلة القدر ، فالله ستر عنه علم ليلة القدر بالتحديد ، واما من لا يأخذه الكسل حتى لو بينت له الليلة بالتحديد فالله لم يستر عنه ليلة القدر ، و قول الامام (من عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر ) يريد ان يبين أن من بلغ مقام معرفة فاطمة الحقية فهو من اهل الكرامة الذي لا يستر الله عنه تحديد ليلة القدر لعدم وجوب علة الحجب والستر فيه .
الاحتمال الثالث : ان المقصور بيان ان معرفة فاطمة (عليها السلام) بالمعرفة الحقية توجب ادراك ليلة القدر بمعنى بلوغ غاية تلك الليلة ، ولكي يتضح هذا الاحتمال اذكر عدة نقاط :
النقطة الاولى : هي ان الإدراك في اللغة بمعنى البلوغ و اللحوق ، ففي المعجم (أَدْرَكَ الشيءُ: بلغَ وقتَهُ. وـ الثمَرُ: نضج. وأَدْرَكَ الصبِيُّ: بلغ الحُلُم. وأَدْرَكَ فلانٌ: بلغ علمُه أَقْصى الشيءِ. وأَدْرَكَ ماء البِئر: وَصَل إِلى دَرْكِها. وأَدْرَكَ الشيء: لحقه وبلَغَهُ ونالَهُ. و أَدْرَكَ الشيءَ ببصَرهِ: رآه. و أَدْرَكَ المعنى بعَقْلِهِ: فَهِمَهُ.
( دَارَكهُ ) مُدَاركةً، ودراكاً: لَحِقَهُ. وـ أَتْبَعَ بعضَهُ بعضاً. يقال: سَيْرٌ دِراك: مُتلاحِقٌ متواصل. وطَعْنٌ دِراك: مُتتابِع. ( وصف بالمصدر )).
النقطة الثانية : ادراك كل شيء بحسبه ، فادراك الصبي بمعنى تمام نموه ، وإدراك التجارة بمعنى تحصيل ربحها ، وإدراك الوقت بمعنى إنجاز العمل فيه قبل فوته و ادراك الركب بمعنى لحوقه و هكذا .
وحيث ان ليلة القدر تمتاز بأمرين :
١- أنها ليلة عبادة ، فقد ورد ( فاطلبها في ليلة احدى وعشرين وثلاث وعشرين وصل في كل واحدة منهما مائة ركعة واحيهما ان استطعت الى النور).
٢- أنها ليلة نزول التقادير ( تنزل فيها الملائكة والكَتَبة الى السماء الدنيا فيكتبون ما يكون في أمر السنة وما يصيب العباد ) ، و ( فيها يفرق كل أمر حكيم) .
فادراك ليلة القدر بمعنى إدراكها العبادي أو ادراكها التقديري بمعنى الاطلاع على التقادير او بعضها أو هما معا ، وليس المقصود مجرد الكون في ذلك الزمان الخاص الذي هو في علم الله ليلة القدر ، اذ لا مزية في ذلك ، لانه متحقق في الكفار وغير المؤمنين ، فالمقصود اذا ادراك ليلة القدر بمعنى عبادة الله تعالى بالعبادة المطلوبة المقربة الى الله تعالى ، وهذه العبادة معراج المؤمن نحو القرب وانفتاح العلم الغيبي الذي يطلع به العبد على تقادير الله المحجوبة عن عامة الخلق.
النقطة الثالثة : قيمة العبادة ليست في العامل الكمي ، وانما هي في العامل الكيفي ، ففي قوله تعالى : ( ليبلوكم ايكم احسن عملا ) روي عن الامام الصادق (عليه السلام ) انه قال ( ليس يعني أكثركم عملا وانما اصوبكم ، وانما الإصابة في خشية الله والنية الصادقة ).
وخشية الله التي بها إصابة العمل فرع معرفة الله تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء) ( من كان بالله اعرف فهو منه أخوف ).
فقيمة العبادة المقربة من الله والمحققة لإدراك ليلة القدر بقدر معرفة الله تعالى .
النقطة الرابعة : معرفة الله تعالى بالوقوف على مظاهر ذاته وهي الآيات والآثار ( الطريق مسدود وطلب مردود دليلة آياته ووجوده إثباته ) {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق}.
والآيات وان تساوت في دلالتها على وجود الله تعالى الا ان كشفها عن صفات الله يختلف باختلاف مرتبتها فان الأثر كلما كان اكمل وأتم كان كشفه عن قدرة الله وعلمه وجماله اتم ، وأتم كاشف هو اتم وافضل مخلوق ، فمعرفة اتم مخلوق تحقق اعلى مراتب العلم بالله وبالتالي تحقق أعلى مراتب الخشية من الله تعالى ، وبذلك تحقق أصوب العبادة في محراب الخضوع والتذلل ليلة القدر .
وافضل وأتم واكمل ما خلق الله تعالى فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها (آتاكم الله ما لم يات أحدا من العالمين طأطأ كل شريف لشرفكم ) ، فمعرفة الزهراء (عليها السلام ) توجب معرفة الله التامة ، وهذه المعرفة تحقق العبادة الصائبة ليلة القدر ، والعبادة الصائبة هي بلوغ غاية ليلة القدر ، فادراك ليلة القدر بمعنى بلوغ غايتها وهدفها إنما هو بمعرفة اهل البيت (عليهم السلام) ومنهم الزهراء ، فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر .
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً