محاضرة لسماحة الشيخ حيدر السندي ( حفظه الله)
قال سيدنا ومولانا الإمام الباقر (صلوات الله وسلامه عليه) : (بأبي وأمي المسمى باسمي والمكنى بكنيتي السابع من بعدي ، بأبي من يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجوراً)(بحار الأنوار للمجلسي ج36 ص394) صدق سيدنا ومولانا الإمام الباقر صلوات الله وسلامه عليه.
أصول العقيدة المهدوية:
من الأسس العقائدية عندنا نحن الشيعة العقيدة المهدوية، والعقيدة المهدوية تشتمل على أصول ثلاثة:
الأصل الأول: هو الاعتقاد بأنّ الإمام المهدي (عليه السلام) هو آخر الأئمة الاثني عشر الذين بشر بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في روايات متواترة عند الطرفين، ففي البخاري عن عبد الملك سمعت جابر بن سمرة قال سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: (يكون اثنا عشر أميراً فقال كلمة لم اسمعها فقال أبي أنه قال كلهم من قريش)(صحيح البخاري للبخاري ج8 ص127)، وفي مسند أحمد: سُئل عبد الله بن مسعود كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ قال سألنا رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: (اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل)(مسند أحمد لأحمد بن حنبل ج1 ص398).
الأصل الثاني: هو أنّ الإمام المهدي (عليه السلام) هو الحجة بن الحسن عليه السلام على نحو التحديد، ولد ـ تقريباً ـ سنة 255 وغاب سنة 260.
الأصل الثالث: هو أنّ الإمام المهدي (عليه السلام) موجود في يوم الناس هذا ، أطال الله تبارك وتعالى وجوده إلى أن يشاء الله تعالى، و بعد أن يظهر سوف يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
موضوعنا سوف يكون حول (وضوح أدلة العقيدة المهدوية وشبهة الحيرة) وذلك ضمن نقطتين:
النقطة الأولى: إثبات العقيدة المهدوية.
أهم دليل يستدل به على ثبوت العقيدة المهدوية هو الروايات المتواترة التي تحدد هوية الإمام (عليه السلام)، فالروايات التي تحدد هويته كثيرة جداً وعلى طوائف متعددة ولا يمكن أن نحصي جميع هذه الطوائف ولكن نقتصر على أربعة طوائف، مع ذكر مثال لكل طائفة :
الطائفة الأولى: هي الروايات التي بينت أنّ الإمام المهدي (عليه السلام) هو آخر الأئمة الاثني عشر، آية الله العظمى الصافي الكلبيكاني (حفظه الله) في كتابه النفيس (منتخب الأثر) أخرج من روايات هذه الطائفة 151 رواية ، ومن ضمن هذه الروايات ما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري: دخلت على فاطمة عليها السلام وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها ، فعددت اثني عشر آخرهم القائم عليه السلام ، ثلاثة منهم محمد وثلاثة منهم علي)(الكافي للشيخ الكليني ج1 ص532).
الطائفة الثانية: هي الروايات التي بينت أنه (عليه السلام) التاسع من ولد الحسين (عليه السلام)، وقد أخرج الشيخ الكلبيكاني من ورايات هذه الطائفة 160 رواية، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال للإمام الحسين (عليه السلام) : (التاسع من ولدك يا حسين القائم بالحق المظهر للدين الباسط للعدل)(كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص304).
الطائفة الثالثة: هي التي بينت أنه السابع من ولد الإمام الباقر (عليه السلام) وقد أخرج الشيخ في منتخب الأثر 121 رواية منها (بأبي وأمي المسمى باسمي والمكنى بكنيتي السابع من بعدي ، بأبي من يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجوراً)(بحار الأنوار للمجلسي ج36 ص394).
الطائفة الرابعة: وهي التي بينت أنه حفيد الإمام الهادي وولد الإمام العسكري (صلوات الله عليهم جميعاً)، وقد أخرج الشيخ 107 رواية، ومن ضمن تلك الروايات ما نقله عن داود بن القاسم، قال سمعت الإمام الهادي (عليه السلام) يقول: (الخلف من بعدي الحسن ، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف ؟ فقلت : ولم جعلني الله فداك ؟ فقال : إنكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره باسمه ، فقلت : فكيف نذكره ؟ فقال : قولوا : الحجة من آل محمد عليهم السلام)(الكافي للشيخ الكليني ج1 ص328).
هذه الطوائف وما تحويه من روايات ليست متواترة بل فوق التواتر، مضمونها قطعي لا يقبل التشكيك، لا يمكن أن نشكك في مضمون طوائف متعددة كل طائفة منها فيها روايات تزيد على مائة رواية، إذ فتح باب التشكيك في مضمون هذه الطوائف يلزم منه أن ينفتح باب الشك على مصراعيه في كل الحوادث التاريخية، و الشخصيات التاريخية مثل شخصية سلمان المحمدي أو هارون العباسي أو قائد الحملة الفرسية نابيلون، هذه الشخصيات لا تقبل الشك لأنها وردت بطرق متواترة، طرق هذه الشخصيات المتواترة ليست أحسن حالاً من طرق الروايات الواردة في ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) وتحديد هويته، أي قضية تاريخية مهما كان طريقها حسن الحظ فإنه لا يزيد على أن يكون قطعياً ، وروايات الإمام المهدي (عليه السلام) ليست فقط متواترة بل هي فوق التواتر، فإذا كنا سنشكك في مضمون روايات الإمام المهدي فسوف نشكك في مضمون كل واقعة تاريخية، و لن نقبل بأي وثيقة تثبت أي حدث تأريخي.
طريق آخر لإثبات العقيدة المهدوية:
وليست هذه الروايات المتواترة فقط الطريق الوحيد لإثبات القضية المهدوية بل يوجد طريق آخر وهو الطريق الذي سلكته السيدة الجليلة حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام) والقابلة التي تولت ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)، ففي رواية جاء محمد بن عبد الله الطهوي، ودخل على السيدة حكيمة (عليها السلام) فسألها هذا السؤال سألها عن الحجة وعن اختلاف الناس فيه، فقالت له: (يا محمد إن الله تبارك وتعالى لا يخلي الأرض من حجة ناطقة أو صامتة ، ولم يجعلها في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام تفضيلا للحسن والحسين وتنزيها لهما أن يكون في الأرض عديلهما إلا أن الله تبارك وتعالى خص ولد الحسين بالفضل على ولد الحسن عليهما السلام كما خص ولد هارون على ولد موسى عليه السلام وإن كان موسى حجة على هارون ، والفضل لولده إلى يوم القيامة)(كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص426).
هذه الرواية الجليلة العميقة في مضمونها والصادرة من امرأة جليلة عالمة تعلمت مباشرة من معدن النبوة والإمامة فيها دليل قطعي على العقيدة المهدوية التي نعتقد بها، وذلك الدليل يتكون من مقدمات أربعة:
المقدمة الأولى: هي أنّ الإمامة في أهل البيت (عليهم السلام) وليست في غيرهم، ويدل على هذه المقدمة مثل حديث الثقلين.
المقدمة الثانية: هي أنّ عدد الأئمة اثنا عشر.
المقدمة الثالثة: هي أنّ الإمامة مستمرة وموجودة في كل وقت ولا يخلو منها زمان.
الإمام الرضا (عليه السلام) سُئل: تكون الأرض ولا إمام فيها؟ فقال عليه السلام: (لا، إذن ساخت بأهلها)(عيون أخبار الرضا عليه السلام للشيخ الصدوق ج2 ص246).
المقدمة الرابعة: هي أنّ الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام) وإنما تكون في الأعقاب.
إذا ثبتت هذه المقدمات الأربعة وآمنا بها لابد وأن نؤمن بالعقيدة المهدوية بأصولها الثلاثة، لابد وأن نؤمن بأنّ الإمام العسكري (عليه السلام) لم يرتحل إلاّ بعد أن رزق بابن، وذلك الابن هو الإمام (عليه السلام) وهو موجود إلى يوم الناس هذا، لأنه لو قال قائل الإمام العسكري (عليه السلام) لم يرزق ولدا ارتحل من دون أن يكون له عقب ، وهو آخر الأئمة يلزم من ذلك أن عدد الأئمة أقل من اثني عشر ويلزم أن تخلو الأرض من حجة.
ولو قيل الإمام العسكري (عليه السلام) رزق ولدا وكان ولده إمام ولكنه ارتحل، يلزم من ذلك أن تخلو الأرض من حجة.
ولو قيل رزق ولداً وولده كان إماماً ثم الولد رزق ولداً وصار إماماً، وهكذا استمرت الإمامة إلى يوم الناس هذا ، يلزم من ذلك أن يكون عدد الأئمة أكثر من اثني عشر.
ولو قال قائل الإمامة انتقلت إلى جعفر عم الإمام المهدي (عليه السلام) يلزم أن تجتمع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين وهذا خلف المقدمة الأربعة.
إذن هذه المقدمات الأربعة إذا اعتقدنا بها لابد وأن نعتقد بالقضية المهدوية، وهذا طريق آخر غير طريق الروايات المتواترة، فالأدلة التي تدل على العقيدة المهدوية التي نعتقد بها أدلة واضحة وجلية هي إما روايات متواترة لا تقبل الشك وإما مقدمات قطعية في كل مقدمة توجد روايات متواترة لا تقبل الشك.
النقطة الثانية: دفع شبهة الحيرة.
نحن في هذا الزمان نقول القضية المهدوية واضحة، السواد الأعظم وجمهور الشيعة متيقن بمسألة الإمام المهدي (عليه السلام)، ولكن بعض الكُتّاب يصور لنا أنّ هذا الوضوح الموجود وضوح متأخر، موجود عند خلف الشيعة وليس عند إسلافهم، فيقول إنّ سلف الشيعة كانوا يعيشون حيرة وعدم وضوح وحالة شك وريب تحيط بالقضية المهدوية، وذلك إذا رجعنا إلى التاريخ نجد أنّ أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) اختلفوا في أنه هل يوجد عنده ولد أم لا؟ ثم استمروا في حيرة وفي عدم وضوح إلى بداية القرن الخامس، فلم تكن المسألة عندهم واضحة، نعم؛ فيما بعد صار واضحة، وهذا يدل على أنّ أدلة الإمام المهدي (عليه السلام) ليست واضحة وجلية في أول الأمر .
ثم يستشهد هذا الكاتب لدعواه بعبارتين:
العبارة الأولى: عبارة الشيخ الصدوق.
قال يرحمه الله: ” فوجدت أكثر المختلفين إلي من الشيعة قد حيرتهم الغيبة ، ودخلت عليهم في أمر القائم عليه السلام الشبهة”(كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص2).
يقول أغلب المختلفين إلي من الشيعة دخلتهم شبهة في مسألة الإمام المهدي (عليه السلام) وأخذتهم بسبب الغيبة الحيرة، فالشيعة في ذلك الزمان يعيشون الحيرة والشبهة، وليس الأقل بل الأغلب، بعد هذا كيف يمكن أن يقال أنّ المسألة المهدوية كانت واضحة وجلية وأن أدلة الإمام المهدي (عليه السلام) بينة وقطعية.
العبارة الثانية: عبارة الشيخ النعماني في كتاب الغيبة.
قال يرحمه الله: “أي حيرة أعظم من هذه الحيرة التي أخرجت من هذا الأمر الخلق الكثير والجم الغفير ولم يبق عليه ممن كان فيه إلاّ النز اليسير”(كتاب الغيبة للنعماني ص192).
مفاد عبارته أن القلة هم الذين اعتقدوا بالعقيدة المهدوية، وأغلب الناس خرجوا، فالمستشكل يقول هذه العبارة واضحة وباعتراف من عالم من علماء الشيعة تدل على أنّ الشيعة كانوا يعيشون حالة من عدم الوضوح والشك والريب في مسألة الإمام المهدي (عليه السلام).
وفي مقام الجواب نذكر ثلاث تعليقات:
التعليق الأول: أنّ المستشكل قد خلط بين أمرين لكي يلبس علينا:
الأمر الأول: هو وقوع اختلاف بين أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام)، وهذا لو سلمنا به فهو يرتبط بالقرن الثالث، لأنّ الإمام العسكري (عليه السلام) مات سنة 260 ه.
الأمر الثاني: وهو الحيرة التي وقع فيها الشيعة ويتحدث عنها الشيخ الصدوق والشيخ النعماني وهذه إنْ وقعت لعامة الشيعة ، فهي واقعة في القرن الرابع، لأنّ الشيخ الصدوق والشيخ النعماني كانا في القرن الرابع، وهما يتحدثان عما شاهداه في ذلك القرن، فهناك قضيتان مختلفتان وأمران منفصلان دمج بينهما المستشكل لكي يصور لنا أنّ الشيعة كانوا يعيشون حيرة وحالة تذبذب من زمن ارتحال الإمام العسكري (عليه السلام) إلى بداية القرن الخامس، وينبغي الفصل بين هذين الأمرين لأنّ في الفصل بينهما ثمرة مهمة ترتبط بدفع هذه الشبهة تتضح –إن شاء الله- في مستقبل الموضوع.
التعليق الثاني: هناك شهادات تاريخية من مؤرخين عاشوا تلك الفترة تثبت أنّ جميع أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) الثقات المأمونين على الروايات العلماء من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) أطبقوا واتفقوا على العقيدة المهدوية.
ومن أهم تلكم الشهادات:
الشهادة الأولى: شهادة أبي سهل النوبختي.
وهو شيخ مشايخ متكلم الشيعة في بغداد، عنده كتاب اسمه “التنبيه في الإمام” تحدث عن اختلاف الشيعة في مسألة الإمام المهدي (عليه السلام) ثم بين أنّ الذين اختلفوا هم النز القليل من ضعفاء الإيمان ومن غير العلماء وأما الثقات الذين ائتمنهم الإمام (عليه السلام) على رواياته فقد أطبقوا واتفقوا جميعاً على ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)، فقد قال:
“إنّ الحسن عليه السلام قد خلف جماعة من ثقاته الذين يروون عنه الحلال والحرام ولما مضى اتفقوا جميعاً على أنه له ابن وأنّ الإمام من بعده”.
إذن الثقات الذين يروون عن الإمام العسكري (عليه السلام) اتفقوا على مسألة ولادته (صلوات الله وسلامه عليه)، فلم يكن هناك حيرة في القرن الثالث بل كان هناك وضوح من قبل أصحاب العسكري الإمام (عليه السلام).
الشهادة الثانية: النوبختي صاحب فرق الفرق.
الشهادة الثالثة: شهادة الشيخ المفيد.
في كتاب الفصول المختارة.
فهؤلاء بينوا أنّ الذين انكروا ولادة الإمام المهدي عليه السلام كانوا قلة من ضعفاء الإيمان، أما العلماء بل حسب تعبير الشيخ المفيد جمهور الشيعة التزموا بالعقيدة المهدوية.
ليس علماء الشيعة فقط بينوا أنّ جمهور الشيعة والسواد الأعظم من الشيعة أطبقوا على ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) بل بعض المؤرخين من السنة أيضاً نصوا على ذلك، قالوا أغلب الشيعة كانوا على العقيدة المهدوية في ذلك الزمان، منهم الذهبي حيث قال:
ذهب غالب الرافضة إلى أنّ الحسن العسكري قد خلف ابناً وأنه أخفاه.
ومنهم أيضاً ابن حزم في كتابه الفصل بين الملل والنحل والأهواء وهو تقريباً في القرن الخامس، فهو ابن حزم يتحدث عن فرق الشيعة بعد الإمام العسكري عليه السلام، حيث قال:
وذهبت القطعية وهم أغلب الشيعة ومنهم العلماء وأصحاب المناظرات والكتاب إلى أنّ الإمام بعد الحسن العسكري ابنه الغائب”.
إذن في زمن الإمام العسكري وما بعده كان هناك وضوح بإمامة الإمام المهدي (عليه السلام)، وبالتالي لا يمكن أن نقبل قول المستشكل بأنّ الشيعة في ذلك الزمان كانوا يعيشون حيرة وعدم وضوح، نعم؛ البعض قد وقع في حيرة ولكن السواد الأعظم كان على العقيدة المهدوية.
التعلق الثالث: نحن نسلم في القرن الرابع بوقوع الحيرة عند الشيعة وأخذتهم تساؤلات ترتبط بالإمام المهدي (عليه السلام) والسبب في ذلك هو أنّ الشيعة لم يتعودوا على غيبة الإمام (عليه السلام) ، كانوا يعيشون والإمام بينهم ينظرون إليه ويتشرفون بتقبيل يده، ويأخذون الجواب منه أو من قبل السفراء الأربعة، أما أنه ينقطع مرة واحدة هذا أمر كان جديداً للشيعة فقد أوقعهم في حيرة، وهذه الحيرة ابتدأت من غيبة الإمام (عليه السلام) في دائرة ضيقة ثم اتسعت نوعاً ما في القرن الرابع، وهذه الحيرة التي تحدث عنها الشيخ الصدوق والشيخ النعمان بل تحدثت عنها الروايات قبلهما، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: (المهدي من ولدي ، اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي ، أشبه الناس بي خلقا وخلقا ، يكون له غيبة وحيرة تضل فيها الأمم ، ثم يقبل كالشهاب الثاقب يملاها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما)(بحار الأنوار للمجلسي ج11 ص368).
إذن هناك حيرة ترتبط بغيبة الإمام المهدي (عليه السلام) ونحن نسلم بها ولكن لابد أن نلتفت إلى أمور ثلاثة:
الأمر الأول: أنّ الشيخ الصدوق لما تكلم عن حيرة الشيعة في القرن الرابع ما كان يقصد كل الشيعة في كل بقاع الأرض بل يقصد جماعة خاصة، فإذا قرأنا عبارة الشيخ كاملاً نجد أنّ هذه العبارة تفيد أنّ الذين احتاروا جماعة خاصين، قال الشيخ الصدوق في كتابه إكمال الدين:
” أنى لما قضيت وطري من زيارة علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه رجعت إلى نيسابور وأقمت بها ، فوجدت أكثر المختلفين إلي من الشيعة قد حيرتهم الغيبة ، ودخلت عليهم في أمر القائم عليه السلام الشبهة”(كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص2).
إذن هو يتكلم عن الشيعة الموجودين في نيشابور،بل وليس كل الشيعة الموجودين في نيشابور بل الذين اختلفوا إليه، الشيعة في نيشابور أقلية، ويتحدث عن الشيعة الأقلية الذين جاءوا إليه كانوا في حيرة، فالمستشكل قطع جزء من العبارة ، وحاول أن ينسب إلى الشيخ أنه يقول أكثر الشيعة بشكل عام كانوا يعيشون الحيرة.
الأمر الثاني: إن عبارة الشيخ النعماني أكثر إشكال من عبارة الشيخ الصدوق، إذِ الشيخ النعماني يقول: ”
“أي حيرة أعظم من هذه الحيرة التي أخرجت من هذا الأمر الخلق الكثير والجم الغفير ولم يبق عليه ممن كان فيه إلاّ النز اليسير”(كتاب الغيبة للنعماني ص192).
فعبارته مطلقة ولم يتحدث عن منطقة معينة بل يتحدث عن كل من يعتقد بالإمام ويبين أنه خرج من هذا الأمر الخلق الكثير والجم الغفير ولم يبق ممن كان يعتقد بالقضية المهدوية إلاّ النزر القليل.
فكلامه عام، ولذا نحتاج إلى معالجة أدق.
من هنا نقول في مقام الجواب: مع احترامنا للشيخ النعماني وكان من علمائنا العظام إلاّ أننا لا نقبل منه هذه العبارة والإحصائية التي أعطانا إياها، وذلك لسببين:
السبب الأول: هو أنه في ذلك الزمان كما تعلمون أنّ وسائل الاتصال محدودة بل شبه معدومة، وأيضاً كانت طرق الاستقراء والاحصاء شبه معدومة.
فأنى للشيخ النعماني أن يستقرأ الشيعة في كل بقاع الأرض ويعلم أن أغلبهم دخلته الحيرة وأخذه الشك وخرج عن مسألة الاعتقاد بالإمام المهدي عليه السلام، خصوصاً أننا إذا رجعنا حياة الشيخ النعماني نجد أنّ العلماء الذين ترجموا له ذكروا أنه ذهب إلى أربعة أماكن شيراز وبغداد والشام وحلب، ولم يذهب إلى أماكن الشيعة الممتدة في إيران والعراق والحجاز والشام ومصر، وبالتالي كيف استطاع أن يحصل على نسبة دقيقة تعكس الواقع آنذاك وأنه لم يبق إلاّ النزر القليل يعتقد بمسألة الإمام المهدي عليه السلام، وأما البقية فقد عصفتهم الحياة، فعدم وجود الوسائل الدقيقة للاستقراء والتتبع وتناقل المعلومات في ذلك الزمان قرينة على أنّ الشيخ النعماني ما كان يتحدث عن الشيعة بشكل عام بل يتحدث عن جماعة خاصة وهم الذين اتصل بهم مباشرة، ولا ندري هل كتابا لغيبة وهو في شيراز وهم يتحدث عن مجتمع شيراز، أو كان في بغداد ويتحدث عن مجتمع بغداد أو في الشام أو في حلب، فلا نعلم وبالتالي لا نركن إلى النتيجة التي ذكرها.
السبب الثاني: هو بعض المؤرخين الذين عاشوا تلك الفترة يختلفون معه، نصوا على أنّ أغلب الشيعة في القرن الرابع كانوا على الاعتقاد بالعقيدة المهدوية، ومن المؤرخين الذين يعارضون الشيخ النعماني في ذلك الزمان شيخ مشائخنا المفيد، الشيخ المفيد في الفصول المختارة تعرض للذين شذوا عن العقيدة المهدية، فقال:
“قال الشيخ أيده الله: وليس من هؤلاء الفرق التي ذكرناها فرقة موجودة في زماننا هذا وهو من سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة إلا الإمامية الاثنا عشرية القائلة بإمامة ابن الحسن المسمى باسم رسول الله ( ص ) القاطعة على حياته وبقائه إلى وقت قيامه بالسيف”(الفصول المختارة للشريف المرتضى ص321).
يقول: لم يبقَ إلاّ الذين يؤمنون بهذه القضية وهذه العبارة نخرج منها إجماع لأنّ كل الفرق التي شذت انقرضت.
فالشيخ المفيد يتحدث عن القرن الرابع فيوجد تعارض بينه وبين الشيخ النعماني وبالتالي لا يمكن أن نعول على شهادة الشيخ النعماني مع وجود شهادة تعارضه.
إذن عبارة الشيخ النعماني التي استند إليها لإثبات أنّ العقيدة المهدية كانت محط حيرة لا يمكن الاستناد إليها ولو من جهة المعارضة. نحن قلنا لا يمكن الاستناد إليها لأنه في نفسها تفتقر إلى الآليات العلمية التي نركن إليها، لو أغمضنا ا الطرف عن هذه الجهة أيضاً لا يمكن أن تقبل بسبب المعارضة.
التعليق الثالث: وهو انه لو سلمنا وتنزلنا وقلنا ما ذكره الشيخ النعماني صحيح وما ذكره صاحب الشبهة صحيح، كانت حيرة من زمن ارتحال الإمام العسكري إلى القرن الرابع والذين يعتقدون بالقضية المهدوية قلة، فهذا لا يضر بوضوح العقيدة المهدوية وأدلتها، وذلك لأنّ القرآن الكريم أعطانا قاعدة مهمة تشكل منهج في عملية التفكير، وهي أنّ ذهاب الأغلبية إلى رأي لا يعني أنّ ذلك الرأي حق أو واضح، وذهاب الأغلبية إلى بطلان رأي لا يعني أنّ ذلك الرأي باطل أو ليس واضحاً ، القرآن الكريم يصف آياته بأنها بينات، {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}(الحج:16)، ولكن في نفس الوقت القرآن يبين أنّ أغلب الناس يرفضون الآيات البينات، {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}(المؤمنون:70).
فهل رفض الأكثر لآيات القرآن الكريم يدل على خطأ الآية التي وصفت آيات القرآن بأنها بينات لأنه يمكن لشبهة يكون الأمر البين غير بين، فالأمر البين عند من يقف عليه، أما الذي لا يقف عليه لا يكون عنده بين، من يتعلم يجد أنّ ما تعلمه بين، أما الذي لا يتعلم ولا يبحث فقد يخفى عليه البين، كثيرون لا يؤمنون بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) هل هذا يعني أنه لا توجد أدلة بينة واضحة على نبوته ( صلى الله عليه وآله) .
من الدروس التي نأخذها في مجال سيد الشهداء هذه القاعدة القرآنية أنّ الأغلبية ليست هي مناط الحق وترك الأغلبية لأمر لا يعني أنه ليس واضحا ، الإمام الحسين (عليه السلام) كان في زمانه يمثل الأقلية، فهو (عليه السلام) ومعه لا يزيد عن مائة، فلنقل ما يزيد عن ألف، هؤلاء قلة مقارنة باتباع يزيد بن معاوية، ومع ذلك كون الحسين (عليه السلام) على الحق من الواضحات البينات، الآن لو يأتي شخص ويقول كان يزيد بن معاوية على حق والحسين مشتبه في خروجه، صدقوا من كان حوله يضحكون عليه، يجدون كلامه انتحار علمي، من يقبل أنّ الحسين (عليه السلام) على باطل ويزيد على حق؟!
أدلة كون الحسين (عليه السلام) على الحق بينة وجلية وهو سيد شباب أهل الجنة، ولا يمكن أن يكون خارجاً على إمام حق والرسول (صلى الله عليه وآله) يقول: (من فل يد طاعة وخرج على إمام زمانه مات ميتة جاهلية) ، لقد أبعد الحسين (عليه السلام) أنزل من مقامه ووضع من كونه سيد شباب أهل الجنة إلى خارجي .
الثورة الحسينية تربي فينا هذا المبدأ وهو أنّ الحق مع أهله وإن كانوا قلة، مع الحسين وأصحابه (صلوات الله عليهم أجمعين) ، فإنهم مع الحق لأنهم أصحاب العقول النيرة والبصائر، لذا هم مع الحسين (عليه السلام)…
القيت المحاضرة بتاريخ: 6 / 1 / 1436 هـ
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً