تقرير دروس سماحة الشيخ حيدر السندي (حفظه الله) للدورة التخصصية في علم الكلام والفلسفة
تقرير مجموعة من الطلاب
و لنختم هذا البحث بنقل عبارتين تبينان الارتباط بين صفات معرفة الله ومعرفة النفس ، فقد نقل الشيخ زين الدين العاملي البياضي في الصراط المستقيم, عن عز الدين المقدسي في تفسير (من عرف نفسه فقد عرف ربه) أنه قال: الروح لطيفة ربانية لاهوتية في حيثية ناسوتية دالة من عشرة أوجه على وحدانية ربانية.
1ـ لما حركة الهيكل ودبرته علمنا أنه لا بد للعالم من محرك ومدبر.
2ـ دلت وحدتها على وحدته.
3ـ دل تحريكها للجسد على قدرته.
4ـ دل اطلاعها على ما في الجسد على علمه.
5ـ دل استوائها إلى أعضائها على استوائه إلى خلقه.
6ـ دل تقدمها عليه وبقاؤها بعده على أزليته.
7ـ دل عدم العلم بكيفيتها على عدم الاحاطة به.
8ـ دل عدم العلم بمحلها من الجسد على عدم أينيته.
9ـ دل عدم مسها على امتناع مسه.
10ـ دل عدم ابصارها على استحالة ابصاره.الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي ج1 ص156.
ونقل العلامة المجلسي رحمة الله عليه عن بعض المحققين معلقا على الرواية المروية عن الامام الباقر (عليه السلام): (كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم) أنه قال:
“هذا كلام دقيق رشيق أنيق صدر من مصدر التحقيق ومورد التدقيق، والسر في ذلك أن التكليف إنما يتوقف على معرفة الله تعالى بحسب الوسع والطاقة، وإنما كلفوا أن يعرفوه بالصفات التي ألفوها، وشاهدوها فيهم مع سلب النقائص الناشية عن انتسابها إليهم، ولما كان الانسان واجبا بغيره عالما قادرا مريدا حيا متكلما سميعا بصيرا كلف بأن يعتقد تلك الصفات في حقه تعالى مع سلب النقائص الناشية عن انتسابها إلى الانسان بأن يعتقد أنه تعالى واجب لذاته لا بغيره عالم بجميع المعلومات، قادر على جميع الممكنات، وهكذا في سائر الصفات ولم يكلف باعتقاد صفة له تعالى لا يوجد فيه مثالها ومناسبها بوجه، ولو كلف به لما أمكنه تعقله بالحقيقة، وهذا أحد معاني قوله عليه السلام (من عرف نفسه فقد عرف ربه)”. بحار الأنوار للمجلسي ج66 ص293.
وقد اتضح مما تقدم على أي تقرير تعتمد هاتان العبارتان.
الفائدة الثانية : معرفة المعاد.
من عرف نفسه عرف معاده وعرف بعض أحكام المعاد ، ووجه الارتباط هو : أن المعاد عود شيء سوف يكون مُعاداً ، وذلك المعاد هو الروح والنفس، فإذا لم يثبت وجودها فلا معنى للحديث عن معادها، فإن الحديث عن ثبوت الكتابة على الورقة فرع وجود الورقة نفيها ، فلابد من إثبات وجود النفس ثم إثبات حكم من أحكامها وهو المعاد فيما إذا قلنا المعاد للنفس لا لشيء آخر .
كما أن هنالك إشكالات يعتمد فيها على عدل الله تعالى لنفي حقائق المعاد كخلود العذاب، فقد دُفع هذا الإشكال من خلال نظرية تجسد الاعمال، ونبين هذا الجواب بقطع النظر عن رأينا في صحته ، وحاصله :
ان النفس هي من تخلق عذابها فتعذب نفسها بالعذاب الدائم وكل ذلك باختيارها فالباري تعالى ليس المحقق لهذا العذاب مباشرة وجعله على النفس جعلاً اعتباريا من دون ارتباط بين الفعل والجزاء كاعتبار المدرس للدرجتين او ثلاث كجزاء لقيام الطالب بواجباته المدرسية ، فعلاقة العمل بالعذاب علاقة سبب ومسبب أو ظهوران لوجود واحد ، والنفس تفعل وفعلها يتحد بوجودها ويصبح ملكة لا يمكن زوالها فيكون العذاب الذي هو اثرها وفعلها ملازم لها ما بقيت في الوجود.
وهذا الجواب مبني على أحكام ترتبط بالنفس ، و بها يعلم أمور أخرى في المعاد ، منها تفاوت مراتب الناس في يوم القيامة كما بها تفسير بعض الآيات والروايات التي بينت كيفية حشر المؤمن والكافر.
و قبل الولوج في تخريج وتوجيه كيفية ارتباط معرفة النفس بمعرفة المعاد من المفيد استعراض بعض الروايات واستنطاقها لصدورها من معدن العصمة (صلوات الله عليهم أجمعين) وهم خزان علم الله تعالى .
الرواية الأولى: في الاحتجاج عن هشام بن الحكم ان زنديقا قال للصادق (عليه السلام) أنّا للروح للبعث والبدن قد بلى والاعضاء قد تفرقت فعضو في بلدة تاكله سباعها وعضو باخر تمزقه هوامها وعضو قد صار يبنى به مع الطين حائط.الاحتجاج للطبرسي ج2 ص97.
وهذا السؤال يستبطن شبهتين:
الاولى: شبهة جمع الله تعالى الأعضاء المتفرقة.
الثانية: شبهة الآكل والمأكول، وذلك أن الاعضاء تاكلها السباع فتتحول الى جزء منها، وكذا السباع تتحول فتنتقل إلى جسد إنسان، ومع الالتزام بالمعاد الجسماني وحشر الوحوش، فالجسد مع من يرجع؟ هل مع صاحبه الماكول أم مع الآكل؟
غير أن الإمام (عليه السلام) أجاب عن هاتين الشبهتين بقوله:
( ان الذي انشاهم من غير شئ وصورهم على غير مثال سابق قادر على ان يعيده كما بدأه).
وهذا جواب يعتمد على عمومية القدرة فإن القدرة على الإبداع قادر على الإعادة .
ثم قال الزنديق للإمام (عليه السلام) أوضح لي ذلك؟ فقال (عليه السلام):
(ان الروح مقيمة في مكانها روح المحسنين في ضياء وفسحة وروح المسيئين في ضيق وظلمة والبدن يصير ترابا منه خلق ).
وهنا انطلق الإمام من مغايرة النفس للبدن فالبدن أصله من التراب ، ويعود اليه، بينما الروح حقيقة الانسان. ثم قال (عليه السلام) : (وما تقذف به السباع والهوام من اجوافها فما اكلته ومزقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب مثقال ذرة في ظلمات الارض) .
وقد يُبين (عليه السلام) بذلك أن هناك شيئاً محفوظا في العلو وهنالك شيئاً محفوظاً السفل أي التراب ، و الله تعالى (يعلم عدد الاشياء وزنتها، فإذا كان حين البعث مطرت الارض فتربوا الأرض … فيجتمع تراب كل قالب فينقل باذن الله الى حيث الروح فتعود الصورة باذن المصور الى هيئتها وتلج الروح فيها).
وهذا المعنى أشارت إليه جملة من الروايات، وهو ان الله تعالى خلق لكل نفس جسد يناسبها ويشاكلها، وقد قال علماء الطبيعة السابقون في سبب الموت : إن مزاج الجسد الملائم للروح يختل لسبب ما كطعنة سيف او شرب وإذا أختل المزاج انفصلت الروح عنه لانتفاء المشاكلة .
الرواية الثانية: ما جاء في بحار الأنوار عن الإمام الباقر (عليه السلام):
(كان في ما وعض به لقمان (عليه السلام) ابنه انه قال: يابني ان تكن في شك من الموت فارفع عن نفسك النوم ولن تستطيع ذلك وان كنت في شك من البعث فارفع عن نفسك الانتباه ولن تستطيع ذلك فانك اذا فكرت في هذا علمت ان نفسك في يد غيرك وان النوم بمنزلة الموت وان اليقضة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت). بحار الأنوار للمجلسي ج7 ص42.
فقد بينت هذه الرواية الارتباط بين اليقين بالموت والبعث وبين الالتفات إلى حالة النوم واليقضة، إذ نزلت النوم منزلة الموت واليقضة بعد النوم منزلة البعث بعد الموت.
غير أن البحث يقع في كيفية دلالة النوم واليقظة على الموت والمعاد، وقد ذكرت تقريبات كثيرة، نقتصر على بعضها:
التقريب الأول: ان النوم نحو انفصال للروح عن الجسد واليقظة نحو اتصال لهما، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}(الزمر:42)، ولا تفيد الرواية أصل الارتباط بمعرفة وقوع الانفصال والاتصال فحسب بل يستفاد منهما أيضاً عدم قدرة الانسان دفع الموت والبعث عنه، لأنهما ليس من الأمور الاختيارية، ولذا لقمان : (فانك اذا فكرت في هذا علمت ان نفسك في يد غيرك) أي لست مالكاً لحياتك ونشورك.
التقريب الثاني: اليقظة بعد النوم تفيد أن الروح ليست من سنخ موجودات العالم المادي المقيد بالزمان والمكان ،إن العلم اليوم وقف عل هذه الحقيقة ، وقد وجدت معاهد متخصصة في دراسة عالم الرؤيا و العالم الذي تنتقل إليه الروح حال النوم ، لان العالم اليوم اكتشف بعض الظواهر الغريبة التي لا تفسير لها إلا وجود عام آخر خارج الزمان والمكان ومنها المعلومات المستقبلية التي تدرك في عالم الرؤيا، فكم شخص أخبر بما سيقع ، وكان خبره مطابقاً بالدقة حتى في بعض التفاصيل ، وكان مستند خبره ما رآه في المنام ، والأخبار عن الأمر المستقبلي لا يمكن ان يفسر بتفسير مادي لوقوعه المخبر بوجوده المادين بين حدين ما نعين ( المكان والزمان) والأخبار المستقبلي خرق لهما .
إذن عالم النوم وما يشاهد فيه يكشف عن وجود حقيقة أخرى في الإنسان وراء هذا البدن ، خصوصاً إذا التفتنا إلى أن الروح قد انفصلت عن الجسد لا تشعر به ومع ذلك شعر بنفسها أو تشعر بأمور واقعة أو ستقع ، والمدرك غير المغفول عنه .
وهذا نظير دليل الشيخ ابن سينا المسمى بالانسان المعلق في إثبات النفس: ففي النوم يغفل الانسان عن جسده ولكن لا يغفل عن نفسه فهو يدرك نفسه بل ويدرك أمورا خارجة عن نفسه ستقع في المستقبل أو وقعت في الماضي وهذا دليل على وجود حقيقة وراء عالم الجسد باقية وان انفصلت عن الجسد، وهذا دليل على وجود عالم اخر تكون فيه النفس بعد الموت.
وهذا ما أشارت إليه بعض الروايات: ففي علل الشرائع عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (الانسان خلق من شان الدنية وشان الآخرة، فإذا جمع الله بينهما صارت تلك الفرقة الموت ترد شأن الاخرى الى السماء، فالحياة في الأرض والموت في السماء، وذلك أنه يفرق بين الأرواح والجسد فردت الروح والنور إلى القدس الأول وترك الجسد لأنه من شأن الدنيا). علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص108.
عبارات العلماء في الارتباط:
للعلماء عبارات كثيرة في بيان ارتباط معرفة النفس بمعرفة المعاد نذكر منها:
الأولى: عبارة الملا صدرا، قال في الأسفار: “مفتاح العلم بيوم القيامة ومعاد الخلائق هو معرفة النفس ومراتبها”. الأسفار لملا صدرا الطبع الأول ج4 ص173.
الثانية: عبارة الشيخ حسن زاده، قال في سرح العيون في شرح العيون:
“والرسائل المصنوعة في معرفة النفس اكثر من ان تحصى، وذلك لاهتمام الإلهيين من الحكماء في شأن النفس رداً على المتوغلين في ظلمات الأوهام الموهونة والخيالات الواهية والتسويلات الشيطانية وهم الذين اخلدوا الى الارض واتبعوا أهوائهم الفاسدة بان الإنسان ليس إلا هذه البنية العنصرية البائدة فإذا تلاشت بطلت ذات الانسان برمتها فلا يبقى منه ما يكون له حشر ومعاد وجزاء وثواب وعقاب ولم يعلموا ان الاماتة ليست باعدام وافناء وان الموت ليس بعدم وفناء بل رجوع كل شئ الى اصله وعود الى حقيقتها وارتقاء كل انسان الى بارئه المتوفي اياه”. سرح العيون في شرح العيون لحسن زاده آملي ص48.
الفائدة الثالثة : الفائدة الأخلاقية .فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (العارف من عرف نفسه فأعتقها ونزهها عن كل ما يبعدها) ميزان الحكمة للريشهري ج3 ص1881.و(من عرف نفسه جاهدها). ميزان الحكمة للريشهري ج3 ص1877.
ودلالة كلا الروايتين واضحة على الارتباط بين معرفة النفس وتهذيبها وتصفيتها وجهادها وابعادها عن مسلك الشقاء وجعلها في طريق التكامل والقرب من الله تعالى، فانه في تهذيب النفس واقامتها في طريق الخير لا بد ان يتعرف الانسان على ما يروضه ويهذبه ويجعله في طريق الخير و يحول بينه وبين الانحراف والوقوع في طريق الشقاء وسلوك دركات الجحيم ، لان تهذيب النفس يكون بالسيطرة على قواها والسيطرة على القوى فرع معرفتها بل ومعرفة ما ينفعها وما يضرها والعلاقة فيما بينها لتتكامل جميعا على نسق واحد.
قال الملا صدرا: ” الإنسان يتكامل ولكن بحسب قواه الباطنية فتارة يتكامل في الصورة العقلية فيتحول إلى كلمة إلهية، وأخرى يتكامل في الصورة البهيمية فيتحول إلى حمار مثلاً أو سبعية كأن يتحول إلى كلب”().
وقد يشكل على كلامه : بأن الصورة الإنسانية أكمل من صورة الحمار أو الكلب فتكامله إلى أحدهما خلاف أكملية الصورة الانسانية.
وأجيب: انه لا يتحول إلى حمار بل يتحول إلى إنسان حمار أو كلب، وهذا تكامل في الإنسانية ، ولكن من جهة قواها المادون ، فتطغى عليه آثار هذه القوى وتظهر في يوم القيامة بالصورة الماسبة لها ، بينما الذي يتكامل في جهته العقلية هو الذي يتحول إلى إنساني أو كلمة إلهية كما يعبر الأمير (عليه السلام).
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً