في عهد الجاهلية لم يكن للعبيد اي مكانة اجماعية سوى ان يعرضوا في سوق النخاسين , ويماكس عليهم كل من يريد شراءهم ثم يشتريهم ويصبح مولاهم ومالك رقابهم وله الاختيار الكامل في التصرف فيهم , ناهيك عن السخرة والعمل الدؤوب ليلا ونهارا بل تصل لحالة الشتم والضرب المبرح الى حد اسقاط وظيفة احد الاعضاء وتلفها او قطعها , بل الى الموت من دون ان يكون الحق لأي احد التدخل في شانه كما لو تصرف بدابة مملوكة له او حاجة خاصة به , وباختصار ان المملوك كان يعيش في عداد الحيوانات والسلع والبضائع ولم تكن له اية منزلة في المجتمع , وبقيت هذه الطريقة من التعامل معه الى حين بزوغ نور الاسلام , حيث اعطاه مكانته الاجتماعية كانسان اولا , ثم بين حقوقه وواجباته وحرم الكثير من الممارسات اللاانسانية التي كانوا يمارسونها ضد هذا العبد في زمن الجاهلية , ووضع قانون الجزاء والعقوبات ضد كل من يتعامل مع العبيد بوحشية او ان يمس من كرامته الانسانية سواء كان المالك او غيره حتى وصلت في بعض الحالات الى انعتاق ذلك العبد المضطهد رغما عن انف سيده , كما لو نكل بعبده او سبب له عاهة جسدية او نفسية , فضلا عن جعل العتق للرقاب عملا ممدوحا شرعا وينال الانسان فيه الثواب العظيم والثناء الجميل في الدنيا والاخرة, وكما جعل العتق كفارة لكثير من الذنوب والمعاصي التي يرتكبها الانسان المسلم في حياته اليومية , كالافطار عمدا في نهار شهر رمضان , وما اشبه ذلك .
وفتح باب المكاتبة مع العبيد , لكي يحرروا انفسهم من العبودية مقابل عمل معين او مال محدد يدفعه العبد لمولاه , وذلك حسب الاتفاق بينهما , فان شان هذه المكاتبة شان اي معاملة من المعاملات التجارية الاخرى , وكذلك نال العبيد بعد انبثاق الاسلام متنفسا بعد معاناتهم الشديدة في زمن الجاهلية وحصلوا على الكرامة وحسن المعاملة التي لم يحلموا بهما من قبل , وسجل النبي الاكرم(صلى الله عليه وآله) والائمة المعصومين (عليهم السلام) في اقوالهم وسيرتهم المشرفة مواقف انسانية عظمية من خلال مجالستهم والتعاطي مع خدمهم وعبيدهم متواضعين من دون تكبر , حتى تمكنوا من ازالة الحواجز النفسية بي العبيد وبين المجتمع انذاك .
والتاريخ نقل لنا كثيرا من هذه الصور الجميلة التي تعطي العبيد حقوقهم وترد بها اعتبارهم وكرامتهم وعلى الرغم من بقاء الحائل النفسي بي العبيد وسادتهم طويلة , ومن مصاديق هذه الصور هو تعامل الامام الحسين (عليه السلام) معهم خلال سيريه ونهضته وحتى يوم الفاجعة يوم العاشر من محرم كان تعامله مع احد اولئك العبيد الذين عاشوا منة العبودية ثم تحول الى ايد امينة تعاطت معه انسانا له شخصية وكرامته ذلكم هو : جون بن حوي , اسود اللون ,شيخ كبير السن , كان مولى لابي ذر الغفاري , ثم انضم الى اهل البيت (عليهم السلام) بعد ابي ذر , فكان مع الامام الحسن (عليه السلام) , ثم مع الامام الحسين (عليه السلام) , وصحبه في سفره من المدينة الى مكة ثم الى العراق , وقف يوم عاشوراء امام سيده وقائده الامام الحسين (عليه السلام) يستاذنه في القتال . فقال له الحسين (عليه السلام) : انت في اذن مني فانما تبعتنا للعافية فلا تبتل بطريقنا . (هذا الاذان فضلا عن خطب واقوال الامام لاصحابه في موطن عديدة حتى ليلة العاشر من المحرم اذكان الامام يقول لهم : انتم في حل من بيعتي ) , لكن هذا العبد كان يتصور ذلك الاذان موجه للاحرار من الاصحاب فحسب , فالامام اكد عليه هذا الامر عندما اراد القتال بين يديه قال له : انت في اذن مني , فوقع جون على قدميه يقبلهما ويقول : انا في الرخاء الحس قصاعكم , وفي الشدة اخذلكم , سيدي ان ريحي لنتن وحسبي للئيم ولوني الاسود فتنفس علي بالجنة ليطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض لوني , لا والله لا افارقكم حتى يختلط هذا الدم الاسود مع دمائكم .
بهذه الروح العالية والايمان الراسخ والمعرفة الحقيقية استطاع هذا العبد ان يرتقي سلم المجد وان يدخل التاريخ من اوسع ابوابه وان يقف عند ابواب الرحمة الالهية الواسعة وهي له مشروعة ليدخلها ويصل الى عليين وفي مقام محمود في مقعد صدق عند مليك مقتدر , وذلك بعد ان ترجم هذا الايمان وتلك المعرفة ساحة الواقع في ميدان القتال وبين ايدي من يعتقد بانه سيد الانسانية ومنقذها من جحيم التميز الطبقي والتفرقة العنصرية , فبرز ليدافع عن القيم والمثل العليا التي تتجسد في هذا الامام العظيم .
بعد ان اصر على تصميمه لاخذ الاذن من الامام (عليه السلام) اذن له, ثم برز وهو يقول :
كيف ترى الكفار ضرب الاسود ….. بالسيف ضربا عن بني محمد
اذب عنهم باللسان واليد …. ارجو به الجنة يوم المورد
فقاتل قتال الابطال الشجعان دون رهبة او فزع من كثرة العدو حتى قتل من جيش الكفر والنفاق خمسا وعشرين ثم سقط شهيدا مضرجا بدمه , فجاءه الامام الحسين (عليه السلام) ووقف عنده لكي يعطي في الانسانية وللأنسانية درسا لا ينسى ابد الدهر , وليثبت عمليا قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : كلكم من ادم وادم من تراب . وقوله (صلى الله عليه وآله): لا فضل الابيض على الاسود الا بالتقوى .وليوضح معالم قوله تعالى 🙁 يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ……) فوضع خده المبارك على خد هذا الشهيد الذي كان منذ لحظات عبدا اسود لا ينظر اليه اعداء الانسانية بعين الاعتبار , وحري بنا ان نذكر بان الامام لم يكرر هذا المشهد الا مع ولده وفلذة كبده شبيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي الاكبر (عليه السلام) , وعلى رواية بانه فعل ذلك ايضا مع عبد تركي اسمه واضح ثم رفع يده بالدعاء قائلا: اللهم بيض وجهه وطيب ريحه واحشره مع محمد (صلى الله عليه وآله) , وعرف بينه وبين ال محمد (صلى الله عليه وآله) , فكان كل من يمر بالمعركة يشم رائحة طيبة ازكى من المسك .
وروى علماؤنا عن الامام الباقر(عليه السلام) عن ابيه الامام زين العابدين (عليه السلام) ان بني اسد الذين حضروا المعركة ليدفنوا القتلى وجدوا(جونا ) بعد ايام تفوح من رائحة المسك .
فاصبح هذا الرجل العظيم من افضل الناس بعد الانبياء والائمة الهداة(عليهم السلام) وهذه هي منزلة جميع اصحاب الامام الحسين (عليه السلام) حسب قول الامام نفسه في حقهم : ( ما رايت اصحابا اوفى من اصحابي …..) .
المصدر / معالم الانسانية في نهضة الامام الحسين(عليه السلام) / الشيخ جعفر الحائري.
لا توجد تعليقات، كن الأول بكتابة تعليقك
اترك تعليقاً